ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون
والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه
إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون*
* الأنعام:99*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
النص القرآني المعجز جاء في بداية الثلث الأخير من سورة الأنعام, وهي سورة مكية, ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها(165) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لتكرار الإشارة فيها إلي الأنعام, ومن خصائص هذه الصورة المباركة أنها نزلت دفعة واحدة.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من العقائد والتشريعات الإسلامية, وقصص عدد من الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله تعالي من قبل بعثة خاتمهم ـ صلي الله عليه وسلم ـ وبارك عليه وعليهم أجمعين.
وقد استهلت السورة الكريمة بقول الحق تبارك وتعالي
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون( الأنعام ـ1)
وهي حقيقة أريد بها دفع كل الأباطيل التي روجها الكافرون عبر التاريخ ـ ولايزالون ـ في محاولة يائسة لنفي الخلق, والتنكر للخالق سبحانه وتعالي: واستهلال سورة الأنعام بهذه الحقيقة الكونية الثابتة دليل علي أهميتها في استقامة العقيدة, ولذا تكرر التأكيد عليها في ثنايا القرآن الكريم لمرات عديدة.
ويلي الإخبار بهذه الحقيقة أمر آخر خطير تقرره الآيات بقول الحق تبارك وتعالي:... هو الذي خلقكم من طين ثم قضي أجلا وأجل مسمي عنده ثم أنتم تمترون( الأنعام:2).
وفي ذلك تسجيل لثاني أكبر الحقائق الكونية, وهي خلق الإنسان من طين, وتحديد اللحظة التي يغادر فيها كل مخلوق هذه الحياة الدنيا, وتأكيد حتمية الآخرة, التي لايعلم وقتها إلا الله تعالي. وفي ذلك من التأكيد علي حقيقة الألوهية, والربوبية, والوحدانية للخالق العظيم ماجزمت به الآية الثالثة من هذه السورة المباركة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالي:
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ماتكسبون( الأنعام:3).
ثم تسرد الآيات بعد ذلك إعراض الكافرين من قريش ـ وإلي يومنا الراهن ـ عن آيات الله, وتكذيبهم بالحق لما جاءهم, وتهديد الله تعالي لهم من عواقب ذلك, وتذكيرهم بأمم من قبلهم, مكن الله لهم في الأرض ثم أهلكهم بذنوبهم, وهو تحذير لهم ولغيرهم من الأمم والأفراد إلي قيام الساعة, وتأكيد أن التمكين في الأرض, وبسط الرزق فيها ليسا ـ بالضرورة ـ دليل رضي من الله سبحانه وتعالي, بل قد يكون ذلك من باب الابتلاء لكشف معادن الناس وإظهار حقيقة نفوسهم.
وتعرض الآيات لحوار بين رسول الله صلي الله عليه وسلم وبين كفار قريش يكشف موقف المراوغة والتكذيب والعنت من الكفار والمشركين وثبات الإيمان الراسخ علي اليقين الذي يثبت به الله سبحانه وتعالي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم, وذلك بقول الحق تبارك وتعالي:
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولاتكونن من المشركين* قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عـظيم* من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين
( الأنعام:14 ـ16).
وقوله عز من قائل:
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخري قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون
(الأنعام:19).
ويستمر الإخبار في سورة الأنعام بأحداث وقعت في غيب الماضي البعيد تأكيدا علي صدق هذا الكتاب العزيز, وعلي صدق الرسول الخاتم الذي تلقاه صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين. ومن ضمن ذلك جاء الحديث عن ثمانية عشر من أنبياء الله ورسله علي نبينا وعليهم جميعا من الله السلام, وفي ذلك تأكيد علي أخوة الأنبياء, وعلي وحدة رسالة السماء, وعلي حاجة الإنسان دوما إلي الدين الصحيح القائم علي التوحيد الخالص لله بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولاصاحبة ولا ولد, وإلي نماذج ممن تربوا علي هذه الهداية الربانية الخالصة الإسلام يقتدي بهم وسط فتن هذه الدنيا وصعوباتها لأن الشرك بالله هو حقا ظلم كبير, يهدد سلامة الفرد والمجتمع والبشرية كلها.
ومن هنا كانت ضرورة كشف زيفه زيف الشرك بالله بالحجة المنطقية والبرهان السديد الرشيد, وضرورة عرض ذلك من خلال القرآن وهو الوحي السماوي الوحيد المحفوظ بين أيدي الناس اليوم بنفس اللغة التي أوحي بها اللغة العربية محفوظا بحفظ الله كلمة كلمة وحرفا حرفا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها, في الوقت الذي تعرضت فيه كل صور الوحي السابقة إما للضياع التام, أو للنقل إلي لغات غير لغة الوحي مع ضياع الأصول, وتعرضها خلال ذلك النقل إلي قدر من التحريف الذي أخرجها عن إطارها الرباني, وجعلها عاجزة عجزا كاملا عن هداية البشرية, وأوقعتهم في أوحال الشرك بالله أو الكفر به.
هذا, وقد بلغت الآيات التي تضمنت الإخبار بأحداث الغيب البعيد في سورة الأنعام خمسا وعشرين آية, والقضايا التي تحدثت عنها تلك الآيات كانت قد وقعت بالفعل, ولكنها اعتبرت من الغيوب لأن العرب في زمن البعثة المحمدية لم يكونوا يعرفونها لتقادم العهد بها خاصة أنهم لم يكونوا أمة تدوين; وورود ذكر تلك الأحداث التاريخية في القرآن الكريم بهذه الدقة البالغة التي بدأت الحفريات والبحوث الأثرية في إثبات العديد منها, مما يشهد بـ الإعجاز التاريخي لكتاب الله.
أما الغيوب المستقبلية التي لم تقع بعد, أو التي لم تكن قد وقعت قبل نزول القرآن الكريم بها فتدخل في مجال الإعجاز التنبؤي لكتاب الله. وبعض هذه الغيوب المستقبلية من الغيوب المطلقة التي لاسبيل للإنسان في الوصول إليها إلا عن طريق وحي السماء.
والهدف من إيرادها في كتاب الله هو تحذير الناس وتبشيرهم بين يدي الساعة حتي لا يفاجأوا بها دون استعداد لها.
وقد جاء الحديث عن الغيوب المستقبلية في سورة الأنعام في ثلاث وأربعين أية نختار منها قول الحق تبارك وتعالي: قل هو القادر علي أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون( الأنعام:65).
وقوله تعالي:
* إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلي الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون( الأنعام:159).
وهاتان الآيتان الكريمتان قد تحقق ما جاء فيهما ولايزال يتحقق إلي يومنا هذا. والآيتان تصفان الكفار والمشركين وقت تنزل القرآن الكريم إلا أن الحكم فيهما قد تحقق دوما منذ ذلك التاريخ إلي يومنا الراهن وسوف يظل يتحقق حتي قيام الساعة.
ومن اخبار الآيات في سورة الأنعام عن الغيوب المستقبلية وصفها لمشهد احتضار الكافرين وفيه يقول الحق تبارك وتعالي:
.. ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون علي الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون* ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخولناكم وراء ظـهوركم ومانري معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ماكنتم تزعمون( الأنعام93 و94).
كذلك جاءت الإشارة إلي النفخ في الصور وهو حدث غيبي مستقبلي خطير يحدد الفاصل بين الدنيا والآخرة, وفيه يقول ربنا سبحانه وتعالي:
*.. وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير( الأنعام73).
وجاء الإخبار كذلك عن الحشر في أكثر من أية نختار منها قوله تعالي:
* ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون( الأنعام:22).
وقوله عز من قائل:
* وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلي ربهم يحشرون( الأنعام:38).
وقوله سبحانه وتعالي:
* وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون
(الأنعام51)
وقوله سبحانه وتعالي:
* وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون( الأنعام:72).
وقوله سبحانه وتعالي:
* ويوم يحشرهم جميعا...( الأنعام:128)
وكذلك جاء الإخبار عن الوعد والوعيد في احدي عشرة آية نختار منها قوله تعالي:
* والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون( الأنعام:49)
وقوله( عزمن قائل):
* لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون( الأنعام:67).
وجاء ذكر يوم القيامة في أربعة عشر موضعا نختار منها قول ربنا تبارك وتعالي: قل لمن مافي السماوات والأرض قل لله كتب علي نفسه الرحمة ليجمعنكم إلي يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لايؤمنون( الأنعام:12).
وجاء ذكر مصائر المكلفين من الخلق الإنس والجن وأحوالهم في الآخرة في إثنتي عشرة آية من آيات سورة الأنعام نختار منها قوله تعالي: ولو تري إذ وقفوا علي النار فقالوا ياليتنا نرد ولانكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين* بل بدا لهم ماكانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون( الأنعام:28,27).
وكان الهدف المقصود من الإخبار بغيب الماضي البعيد, وبالغيب المستقبلي الأبعد هو تفصيل قضية العقيدة الإسلامية القائمة علي ألوهية الخالق سبحانه وتعالي وتوحيده التوحيد المطلق فوق جميع خلقه, وتنزيهه عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل الشبيه أو الشريك, أو المنازع, أو الصاحبة, أو الولد, والقائمة كذلك علي عبودية المخلوقين جميعهم لله, والرد علي كل من الكافرين والمشركين والمتشككين وتفنيد مزاعمهم, والدعوة إلي الدين الصحيح الذي لايرتضي ربنا تبارك وتعالي من عباده دينا سواه ألا وهو الإسلام أنزله الله تعالي علي فترة من الرسل وأتمه وأكمله في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم.
وبالإضافة إلي ذلك تناولت الآيات في سورة الأنعام أخبارا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم, وعن الذين آمنوا به وبرسالته, كما تحدثت الآيات عن كل من المشركين وزعمائهم, وعن أهل الكتاب في زمن الوحي وإلي قيام الساعة.
وجاء ذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم وما جاء به من حق في أكثر من ستين آية نختار منها قول الحق تبارك وتعالي علي لسان خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم:
قل إني علي بينة من ربي وكذبتم به ماعندي ماتستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين* قل لو أن عندي ماتستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين
( الأنعام:58,57).
كذلك جاءت الإشارة إلي المؤمنين في خمس آيات من سورة الأنعام نختار منها قول ربنا تبارك وتعالي:
* وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القري ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم علي صلاتهم يحافظون
( الأنعام:92).
وبالمقابل جاءت الإشارة إلي المشركين وإلي معتقداتهم الفاسدة, وطرائق تفكيرهم الملتوية في العديد من الآيات نختار منها قوله تعالي:
* والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله علي صراط مستقيم( الأنعام:39).
وفي سورة الأنعام جاءت الإشارة كذلك إلي مكر أكابر المجرمين لكي يتمكن المؤمنون من أخذ الحذر منهم وذلك في آيتين كريمتين يقول فيهما ربنا تبارك وتعالي:
* وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ومايمكرون الإ بأنفسهم ومايشعرون* وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتي نؤتي مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله, وعذاب شديد بما كانوا يمكرون( الأنعام:124,123).
وفي هذه السورة المباركة جاء الخطاب إلي أهل الكتاب واضحا بينا قاطعا بحكم الله فيهم وذلك في خمس آيات كريمات نختار منها قول الحق تبارك وتعالي:
* قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخري قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون* الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لايؤمنون* ومن أظلم ممن افتري علي الله كذبا أو كذب بآياته إنه لايفلح الظالمون( الأنعام:21,19).
وقوله عز من قائل:
* أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلاتكونن من الممترين* وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لامبدل لكلماته وهو السميع العليم( الأنعام:114 و115).
وقرب ختامها أكدت سورة الأنعام ضرورة تأسيس الأحكام علي العلم, لا علي الظن والتخمين, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:
*... قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
(الأنعام:148).
هذا وقد سبق لنا( في أكثر من مقال) تلخيص كل من ركائز العقيدة الإسلامية, وقواعد التشريع الإسلامي, والايات الكونية التي جاءت في سورة الأنعام, ولا أري حاجة إلي إعادة ذلك مرة أخري.
وفي المقال السابق مباشرة تناولت النصف الأول من الآية رقم(99) في سورة الأنعام, وأستكمل هنا مناقشة بقية هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):
.. ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون.( الأنعام:99).
وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح دلالة هذا النص القرآني الكريم.
من أقوال المفسرين:
في تفسير هذا النص القرآني الذي يمثل النصف الأخير من الآية رقم(99) من سورة الأنعام.
* ذكر الطبري( رحمه الله) ما مختصره قنوان): جمع قنو وهي: العذوق( دانية) متهدلة قصار قريبة من الأرض.( مشتبها وغير متشابه) ما يشابه ورقه, ويختلف ثمره وطعمه,( وينعه) نضجه وانتهاؤه.
* وذكر ابن كثير( عليه رحمة الله) ما مختصره ومن النخل من طلعها قنوان) أي جمع قنو وهي عذوق الرطب,( دانية) أي قريبة من المتناول, كما قال ابن عباس( قنوان دانية) يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض رواه ابن جرير.
وقوله تعالي وجنات من أعناب) أي ونخرج منه جنات من أعناب, وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز, وربما كانا خيار الثمار في الدنيا.., وقوله تعالي والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه), قال قتادة وغيره: متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض, ومتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا,( انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه) أي نضجه, ولهذا قال ها هنا إن في ذلكم) أيها الناس( لآيات) أي دلالات علي كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته( لقوم يؤمنون) أي يصدقون به ويتبعون رسله.
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما مختصره ومن النخل) خبر, ويبدل منه من طلعها) أول ما يخرج منها, والمبتدأ( قنوان) عراجين( دانية) قريب بعضها من بعض( و) أخرجنا به( جنات) بساتين( من أعناب والزيتون والرمان مشتبها) ورقهما, حال( وغير متشابه) ثمرهما( انظروا) يامخاطبين نظر اعتبار( إلي ثمره) بفتح الثاء والميم وبضمهما, وهو جمع ثمرة..( إذا أثمر) أول ما يبدو كيف هو( و) إلي( ينعه) نضجه إذا أدرك كيف يعود( إن في ذلكم لآيات) دلالات علي قدرته تعالي علي البعث وغيره( لقوم يؤمنون) خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها في الايمان بخلاف الكافرين.
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله تعالي برحمته الواسعة) ما نصه:...( ومن النخل من طلعها قنوان دانية) وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير, وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر, ولفظة( قنوان) ووصفها( دانية) يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف. وظل المشهد كله ظل وديع حبيب..( وجنات من أعناب).. و(والزيتون والرمان). هذا النبات كله بفصائله وسلالاته ـ( مشتبها وغير متشابه) ـ( أنظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه).. انظروا بالحس البصير, والقلب اليقظ.. انظروا إليه في ازدهاره, وازدهائه, عند كمال نضجه, انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا, كلوا من ثمرة إذا أثمر, ولكن يقول انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه) لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع, كما أنه مجال تدبر في آيات الله, وبدائع صنعته في مجالي الحياة.( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون).. فالايمان هو الذي يفتح القلب, وينير البصيرة, وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة, ويصل الكائن الإنساني بالوجود, ويدعو الوجدان إلي الايمان بالله خالق الجميع.. وإلا فإن هناك قلوبا مغلقة, وبصائر مطموسة, وفطرا منتكسة, تمر بهذا
الابداع كله, وبهذه الآيات كلها, فلا تحس بها ولا تستجيب( إنما يستجيب الذين يسمعون), وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) مانصه:..( ومن النخل من طلعها قنوان دانية) ومن طلع النخل قنوان دانية, والطلع: أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان, وقشره يسمي الكفري, وما في داخله يسمي الاغريض لبياضه, والقنوان: العراجين, جمع قنو وهو العذق, وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب, و(دانية) أي متدلية, أو قريبة من يد المتناول.( وجنات من أعناب) عطف علي( نبات), أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب( مشتبها وغير متشابه) أي بعضه متشابه, وبعضه غير متشابه في الهيئة واللون والطعم وغير ذلك, مما يدل علي كمال قدرة الصانع..( وينعه) أي وانظروا إلي حال نضجه وادراكه نظر استدلال واستبصار, كيف يعود شيئا قويا بعد الضعف, جامعا لمنافع شتي. مصدر ينعت الثمرة كأينعت, تينع( بفتح النون وكسرها) ينعا وينوعا, إذا نضجت.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه:.. ومن طلع النخل عراجين نخرجها محملة بالثمار سهلة التناول, وأخرجنا كذلك بالماء جنات من الأعناب والزيتون والرمان, ومنها ماهو متماثل الثمر في الشكل وغير متماثل في الطعم والرائحة ونوع الفائدة. انظروا في تدبر واعتبار إلي ثمره حين يثمر, وإلي نضجه كيف تم بعد أطوار مختلفة إن في ذلك لدلائل لقوم ينشدون الحق ويؤمنون به ويذعنون له.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه:.. وفي آخر الآية الكريمة قوله تعالي انظروا إلي ثمرة إذا أثمر وينعه), وفي هذه الاشارة سبق لعلم النبات الحديث في ما وصل إليه من الاعتماد في دراسته علي مشاهدة الشكل الخارجي لأعضائه كافة في أدواره المختلفة.
من الدلالات العلمية لهذا النص القرآني الكريم
يقول الحق( تبارك وتعالي) في محكم كتابه: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمرة إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون( الأنعام:99).
والتسلسل في استعراض الحبوب والثمار في هذه الآية الكريمة يشمل معظم النباتات التي يحتاجها الانسان في طعامه الأساسي, وتحتاجها أنعامه في علفها.
فالحب المتراكب: يشمل القمح, والشعير, والذرة, والأرز, والشوفان, وغيرها من محاصيل الحبوب والغلال التي تمثل الطعام الأساسي لكل من الانسان والحيوان. وهذه النباتات تجمع اليوم في رتبة واحدة تعرف باسم النجيليات, وفي عائلة محددة منها تعرف باسم العائلة النجيلية.
والنجيليات تضم أعشابا حولية أو معمرة لها شكل مميز يطلق عليه الشكل النجيلي أي الذي يشبه النجيل, وإن ضمت قليلا من الشجيرات, وأزهارها تلقح بواسطة الرياح. وسيقانها غالبا اسطوانية, جوفاء, فيما عدا القليل منها مثل الذرة الذي يتميز بساق أصم.
ويضم القمح عددا من الأصناف المميزة منها البلدي, والهندي, الدكر, وكذلك يوجد من الشعير أصناف عديدة منها البلدي, والنبوي, والتونسي, ويوجد من الذرة البلدي, والبدري, والسبعيني, والأمريكي, والصواني, والسكري, والمتبلور وغيرها, ومن الأرز المزروع يوجد حوالي18 نوعا كلها من النباتات البرية, ومن نوع الارز المزروع يوجد حوالي الألف صنف منها الأرز الياباني, والسلطاني, والشعبي, والفينو وغيرها
والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه
إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون*
* الأنعام:99*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
النص القرآني المعجز جاء في بداية الثلث الأخير من سورة الأنعام, وهي سورة مكية, ومن طوال سور القرآن الكريم إذ يبلغ عدد آياتها(165) بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لتكرار الإشارة فيها إلي الأنعام, ومن خصائص هذه الصورة المباركة أنها نزلت دفعة واحدة.
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول عدد من العقائد والتشريعات الإسلامية, وقصص عدد من الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله تعالي من قبل بعثة خاتمهم ـ صلي الله عليه وسلم ـ وبارك عليه وعليهم أجمعين.
وقد استهلت السورة الكريمة بقول الحق تبارك وتعالي
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون( الأنعام ـ1)
وهي حقيقة أريد بها دفع كل الأباطيل التي روجها الكافرون عبر التاريخ ـ ولايزالون ـ في محاولة يائسة لنفي الخلق, والتنكر للخالق سبحانه وتعالي: واستهلال سورة الأنعام بهذه الحقيقة الكونية الثابتة دليل علي أهميتها في استقامة العقيدة, ولذا تكرر التأكيد عليها في ثنايا القرآن الكريم لمرات عديدة.
ويلي الإخبار بهذه الحقيقة أمر آخر خطير تقرره الآيات بقول الحق تبارك وتعالي:... هو الذي خلقكم من طين ثم قضي أجلا وأجل مسمي عنده ثم أنتم تمترون( الأنعام:2).
وفي ذلك تسجيل لثاني أكبر الحقائق الكونية, وهي خلق الإنسان من طين, وتحديد اللحظة التي يغادر فيها كل مخلوق هذه الحياة الدنيا, وتأكيد حتمية الآخرة, التي لايعلم وقتها إلا الله تعالي. وفي ذلك من التأكيد علي حقيقة الألوهية, والربوبية, والوحدانية للخالق العظيم ماجزمت به الآية الثالثة من هذه السورة المباركة التي يقول فيها ربنا تبارك وتعالي:
وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ماتكسبون( الأنعام:3).
ثم تسرد الآيات بعد ذلك إعراض الكافرين من قريش ـ وإلي يومنا الراهن ـ عن آيات الله, وتكذيبهم بالحق لما جاءهم, وتهديد الله تعالي لهم من عواقب ذلك, وتذكيرهم بأمم من قبلهم, مكن الله لهم في الأرض ثم أهلكهم بذنوبهم, وهو تحذير لهم ولغيرهم من الأمم والأفراد إلي قيام الساعة, وتأكيد أن التمكين في الأرض, وبسط الرزق فيها ليسا ـ بالضرورة ـ دليل رضي من الله سبحانه وتعالي, بل قد يكون ذلك من باب الابتلاء لكشف معادن الناس وإظهار حقيقة نفوسهم.
وتعرض الآيات لحوار بين رسول الله صلي الله عليه وسلم وبين كفار قريش يكشف موقف المراوغة والتكذيب والعنت من الكفار والمشركين وثبات الإيمان الراسخ علي اليقين الذي يثبت به الله سبحانه وتعالي خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم, وذلك بقول الحق تبارك وتعالي:
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولاتكونن من المشركين* قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عـظيم* من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين
( الأنعام:14 ـ16).
وقوله عز من قائل:
قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخري قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون
(الأنعام:19).
ويستمر الإخبار في سورة الأنعام بأحداث وقعت في غيب الماضي البعيد تأكيدا علي صدق هذا الكتاب العزيز, وعلي صدق الرسول الخاتم الذي تلقاه صلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه ومن تبع هداه ودعا بدعوته إلي يوم الدين. ومن ضمن ذلك جاء الحديث عن ثمانية عشر من أنبياء الله ورسله علي نبينا وعليهم جميعا من الله السلام, وفي ذلك تأكيد علي أخوة الأنبياء, وعلي وحدة رسالة السماء, وعلي حاجة الإنسان دوما إلي الدين الصحيح القائم علي التوحيد الخالص لله بغير شريك ولا شبيه ولا منازع ولاصاحبة ولا ولد, وإلي نماذج ممن تربوا علي هذه الهداية الربانية الخالصة الإسلام يقتدي بهم وسط فتن هذه الدنيا وصعوباتها لأن الشرك بالله هو حقا ظلم كبير, يهدد سلامة الفرد والمجتمع والبشرية كلها.
ومن هنا كانت ضرورة كشف زيفه زيف الشرك بالله بالحجة المنطقية والبرهان السديد الرشيد, وضرورة عرض ذلك من خلال القرآن وهو الوحي السماوي الوحيد المحفوظ بين أيدي الناس اليوم بنفس اللغة التي أوحي بها اللغة العربية محفوظا بحفظ الله كلمة كلمة وحرفا حرفا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها, في الوقت الذي تعرضت فيه كل صور الوحي السابقة إما للضياع التام, أو للنقل إلي لغات غير لغة الوحي مع ضياع الأصول, وتعرضها خلال ذلك النقل إلي قدر من التحريف الذي أخرجها عن إطارها الرباني, وجعلها عاجزة عجزا كاملا عن هداية البشرية, وأوقعتهم في أوحال الشرك بالله أو الكفر به.
هذا, وقد بلغت الآيات التي تضمنت الإخبار بأحداث الغيب البعيد في سورة الأنعام خمسا وعشرين آية, والقضايا التي تحدثت عنها تلك الآيات كانت قد وقعت بالفعل, ولكنها اعتبرت من الغيوب لأن العرب في زمن البعثة المحمدية لم يكونوا يعرفونها لتقادم العهد بها خاصة أنهم لم يكونوا أمة تدوين; وورود ذكر تلك الأحداث التاريخية في القرآن الكريم بهذه الدقة البالغة التي بدأت الحفريات والبحوث الأثرية في إثبات العديد منها, مما يشهد بـ الإعجاز التاريخي لكتاب الله.
أما الغيوب المستقبلية التي لم تقع بعد, أو التي لم تكن قد وقعت قبل نزول القرآن الكريم بها فتدخل في مجال الإعجاز التنبؤي لكتاب الله. وبعض هذه الغيوب المستقبلية من الغيوب المطلقة التي لاسبيل للإنسان في الوصول إليها إلا عن طريق وحي السماء.
والهدف من إيرادها في كتاب الله هو تحذير الناس وتبشيرهم بين يدي الساعة حتي لا يفاجأوا بها دون استعداد لها.
وقد جاء الحديث عن الغيوب المستقبلية في سورة الأنعام في ثلاث وأربعين أية نختار منها قول الحق تبارك وتعالي: قل هو القادر علي أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون( الأنعام:65).
وقوله تعالي:
* إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلي الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون( الأنعام:159).
وهاتان الآيتان الكريمتان قد تحقق ما جاء فيهما ولايزال يتحقق إلي يومنا هذا. والآيتان تصفان الكفار والمشركين وقت تنزل القرآن الكريم إلا أن الحكم فيهما قد تحقق دوما منذ ذلك التاريخ إلي يومنا الراهن وسوف يظل يتحقق حتي قيام الساعة.
ومن اخبار الآيات في سورة الأنعام عن الغيوب المستقبلية وصفها لمشهد احتضار الكافرين وفيه يقول الحق تبارك وتعالي:
.. ولو تري إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون علي الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون* ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة وتركتم ماخولناكم وراء ظـهوركم ومانري معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ماكنتم تزعمون( الأنعام93 و94).
كذلك جاءت الإشارة إلي النفخ في الصور وهو حدث غيبي مستقبلي خطير يحدد الفاصل بين الدنيا والآخرة, وفيه يقول ربنا سبحانه وتعالي:
*.. وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير( الأنعام73).
وجاء الإخبار كذلك عن الحشر في أكثر من أية نختار منها قوله تعالي:
* ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون( الأنعام:22).
وقوله عز من قائل:
* وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلي ربهم يحشرون( الأنعام:38).
وقوله سبحانه وتعالي:
* وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلي ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون
(الأنعام51)
وقوله سبحانه وتعالي:
* وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون( الأنعام:72).
وقوله سبحانه وتعالي:
* ويوم يحشرهم جميعا...( الأنعام:128)
وكذلك جاء الإخبار عن الوعد والوعيد في احدي عشرة آية نختار منها قوله تعالي:
* والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون( الأنعام:49)
وقوله( عزمن قائل):
* لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون( الأنعام:67).
وجاء ذكر يوم القيامة في أربعة عشر موضعا نختار منها قول ربنا تبارك وتعالي: قل لمن مافي السماوات والأرض قل لله كتب علي نفسه الرحمة ليجمعنكم إلي يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لايؤمنون( الأنعام:12).
وجاء ذكر مصائر المكلفين من الخلق الإنس والجن وأحوالهم في الآخرة في إثنتي عشرة آية من آيات سورة الأنعام نختار منها قوله تعالي: ولو تري إذ وقفوا علي النار فقالوا ياليتنا نرد ولانكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين* بل بدا لهم ماكانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون( الأنعام:28,27).
وكان الهدف المقصود من الإخبار بغيب الماضي البعيد, وبالغيب المستقبلي الأبعد هو تفصيل قضية العقيدة الإسلامية القائمة علي ألوهية الخالق سبحانه وتعالي وتوحيده التوحيد المطلق فوق جميع خلقه, وتنزيهه عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل الشبيه أو الشريك, أو المنازع, أو الصاحبة, أو الولد, والقائمة كذلك علي عبودية المخلوقين جميعهم لله, والرد علي كل من الكافرين والمشركين والمتشككين وتفنيد مزاعمهم, والدعوة إلي الدين الصحيح الذي لايرتضي ربنا تبارك وتعالي من عباده دينا سواه ألا وهو الإسلام أنزله الله تعالي علي فترة من الرسل وأتمه وأكمله في بعثة النبي الخاتم والرسول الخاتم صلي الله عليه وسلم.
وبالإضافة إلي ذلك تناولت الآيات في سورة الأنعام أخبارا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم, وعن الذين آمنوا به وبرسالته, كما تحدثت الآيات عن كل من المشركين وزعمائهم, وعن أهل الكتاب في زمن الوحي وإلي قيام الساعة.
وجاء ذكر رسول الله صلي الله عليه وسلم وما جاء به من حق في أكثر من ستين آية نختار منها قول الحق تبارك وتعالي علي لسان خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم:
قل إني علي بينة من ربي وكذبتم به ماعندي ماتستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين* قل لو أن عندي ماتستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين
( الأنعام:58,57).
كذلك جاءت الإشارة إلي المؤمنين في خمس آيات من سورة الأنعام نختار منها قول ربنا تبارك وتعالي:
* وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القري ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم علي صلاتهم يحافظون
( الأنعام:92).
وبالمقابل جاءت الإشارة إلي المشركين وإلي معتقداتهم الفاسدة, وطرائق تفكيرهم الملتوية في العديد من الآيات نختار منها قوله تعالي:
* والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله علي صراط مستقيم( الأنعام:39).
وفي سورة الأنعام جاءت الإشارة كذلك إلي مكر أكابر المجرمين لكي يتمكن المؤمنون من أخذ الحذر منهم وذلك في آيتين كريمتين يقول فيهما ربنا تبارك وتعالي:
* وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها ومايمكرون الإ بأنفسهم ومايشعرون* وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتي نؤتي مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله, وعذاب شديد بما كانوا يمكرون( الأنعام:124,123).
وفي هذه السورة المباركة جاء الخطاب إلي أهل الكتاب واضحا بينا قاطعا بحكم الله فيهم وذلك في خمس آيات كريمات نختار منها قول الحق تبارك وتعالي:
* قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخري قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون* الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لايؤمنون* ومن أظلم ممن افتري علي الله كذبا أو كذب بآياته إنه لايفلح الظالمون( الأنعام:21,19).
وقوله عز من قائل:
* أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلاتكونن من الممترين* وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لامبدل لكلماته وهو السميع العليم( الأنعام:114 و115).
وقرب ختامها أكدت سورة الأنعام ضرورة تأسيس الأحكام علي العلم, لا علي الظن والتخمين, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:
*... قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون
(الأنعام:148).
هذا وقد سبق لنا( في أكثر من مقال) تلخيص كل من ركائز العقيدة الإسلامية, وقواعد التشريع الإسلامي, والايات الكونية التي جاءت في سورة الأنعام, ولا أري حاجة إلي إعادة ذلك مرة أخري.
وفي المقال السابق مباشرة تناولت النصف الأول من الآية رقم(99) في سورة الأنعام, وأستكمل هنا مناقشة بقية هذه الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):
.. ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون.( الأنعام:99).
وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح دلالة هذا النص القرآني الكريم.
من أقوال المفسرين:
في تفسير هذا النص القرآني الذي يمثل النصف الأخير من الآية رقم(99) من سورة الأنعام.
* ذكر الطبري( رحمه الله) ما مختصره قنوان): جمع قنو وهي: العذوق( دانية) متهدلة قصار قريبة من الأرض.( مشتبها وغير متشابه) ما يشابه ورقه, ويختلف ثمره وطعمه,( وينعه) نضجه وانتهاؤه.
* وذكر ابن كثير( عليه رحمة الله) ما مختصره ومن النخل من طلعها قنوان) أي جمع قنو وهي عذوق الرطب,( دانية) أي قريبة من المتناول, كما قال ابن عباس( قنوان دانية) يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض رواه ابن جرير.
وقوله تعالي وجنات من أعناب) أي ونخرج منه جنات من أعناب, وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز, وربما كانا خيار الثمار في الدنيا.., وقوله تعالي والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه), قال قتادة وغيره: متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض, ومتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا,( انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه) أي نضجه, ولهذا قال ها هنا إن في ذلكم) أيها الناس( لآيات) أي دلالات علي كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته( لقوم يؤمنون) أي يصدقون به ويتبعون رسله.
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما مختصره ومن النخل) خبر, ويبدل منه من طلعها) أول ما يخرج منها, والمبتدأ( قنوان) عراجين( دانية) قريب بعضها من بعض( و) أخرجنا به( جنات) بساتين( من أعناب والزيتون والرمان مشتبها) ورقهما, حال( وغير متشابه) ثمرهما( انظروا) يامخاطبين نظر اعتبار( إلي ثمره) بفتح الثاء والميم وبضمهما, وهو جمع ثمرة..( إذا أثمر) أول ما يبدو كيف هو( و) إلي( ينعه) نضجه إذا أدرك كيف يعود( إن في ذلكم لآيات) دلالات علي قدرته تعالي علي البعث وغيره( لقوم يؤمنون) خصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بها في الايمان بخلاف الكافرين.
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله تعالي برحمته الواسعة) ما نصه:...( ومن النخل من طلعها قنوان دانية) وقنوان جمع قنو وهو الفرع الصغير, وفي النخلة هو العذق الذي يحمل الثمر, ولفظة( قنوان) ووصفها( دانية) يشتركان في إلقاء ظل لطيف أليف. وظل المشهد كله ظل وديع حبيب..( وجنات من أعناب).. و(والزيتون والرمان). هذا النبات كله بفصائله وسلالاته ـ( مشتبها وغير متشابه) ـ( أنظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه).. انظروا بالحس البصير, والقلب اليقظ.. انظروا إليه في ازدهاره, وازدهائه, عند كمال نضجه, انظروا إليه واستمتعوا بجماله.. لا يقول هنا, كلوا من ثمرة إذا أثمر, ولكن يقول انظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه) لأن المجال هنا مجال جمال ومتاع, كما أنه مجال تدبر في آيات الله, وبدائع صنعته في مجالي الحياة.( إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون).. فالايمان هو الذي يفتح القلب, وينير البصيرة, وينبه أجهزة الاستقبال والاستجابة في الفطرة, ويصل الكائن الإنساني بالوجود, ويدعو الوجدان إلي الايمان بالله خالق الجميع.. وإلا فإن هناك قلوبا مغلقة, وبصائر مطموسة, وفطرا منتكسة, تمر بهذا
الابداع كله, وبهذه الآيات كلها, فلا تحس بها ولا تستجيب( إنما يستجيب الذين يسمعون), وإنما يدرك هذه الآيات الذين يؤمنون.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) مانصه:..( ومن النخل من طلعها قنوان دانية) ومن طلع النخل قنوان دانية, والطلع: أول ما يبدو ويخرج من ثمر النخل كالكيزان, وقشره يسمي الكفري, وما في داخله يسمي الاغريض لبياضه, والقنوان: العراجين, جمع قنو وهو العذق, وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب, و(دانية) أي متدلية, أو قريبة من يد المتناول.( وجنات من أعناب) عطف علي( نبات), أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب( مشتبها وغير متشابه) أي بعضه متشابه, وبعضه غير متشابه في الهيئة واللون والطعم وغير ذلك, مما يدل علي كمال قدرة الصانع..( وينعه) أي وانظروا إلي حال نضجه وادراكه نظر استدلال واستبصار, كيف يعود شيئا قويا بعد الضعف, جامعا لمنافع شتي. مصدر ينعت الثمرة كأينعت, تينع( بفتح النون وكسرها) ينعا وينوعا, إذا نضجت.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه:.. ومن طلع النخل عراجين نخرجها محملة بالثمار سهلة التناول, وأخرجنا كذلك بالماء جنات من الأعناب والزيتون والرمان, ومنها ماهو متماثل الثمر في الشكل وغير متماثل في الطعم والرائحة ونوع الفائدة. انظروا في تدبر واعتبار إلي ثمره حين يثمر, وإلي نضجه كيف تم بعد أطوار مختلفة إن في ذلك لدلائل لقوم ينشدون الحق ويؤمنون به ويذعنون له.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش ما نصه:.. وفي آخر الآية الكريمة قوله تعالي انظروا إلي ثمرة إذا أثمر وينعه), وفي هذه الاشارة سبق لعلم النبات الحديث في ما وصل إليه من الاعتماد في دراسته علي مشاهدة الشكل الخارجي لأعضائه كافة في أدواره المختلفة.
من الدلالات العلمية لهذا النص القرآني الكريم
يقول الحق( تبارك وتعالي) في محكم كتابه: وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلي ثمرة إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون( الأنعام:99).
والتسلسل في استعراض الحبوب والثمار في هذه الآية الكريمة يشمل معظم النباتات التي يحتاجها الانسان في طعامه الأساسي, وتحتاجها أنعامه في علفها.
فالحب المتراكب: يشمل القمح, والشعير, والذرة, والأرز, والشوفان, وغيرها من محاصيل الحبوب والغلال التي تمثل الطعام الأساسي لكل من الانسان والحيوان. وهذه النباتات تجمع اليوم في رتبة واحدة تعرف باسم النجيليات, وفي عائلة محددة منها تعرف باسم العائلة النجيلية.
والنجيليات تضم أعشابا حولية أو معمرة لها شكل مميز يطلق عليه الشكل النجيلي أي الذي يشبه النجيل, وإن ضمت قليلا من الشجيرات, وأزهارها تلقح بواسطة الرياح. وسيقانها غالبا اسطوانية, جوفاء, فيما عدا القليل منها مثل الذرة الذي يتميز بساق أصم.
ويضم القمح عددا من الأصناف المميزة منها البلدي, والهندي, الدكر, وكذلك يوجد من الشعير أصناف عديدة منها البلدي, والنبوي, والتونسي, ويوجد من الذرة البلدي, والبدري, والسبعيني, والأمريكي, والصواني, والسكري, والمتبلور وغيرها, ومن الأرز المزروع يوجد حوالي18 نوعا كلها من النباتات البرية, ومن نوع الارز المزروع يوجد حوالي الألف صنف منها الأرز الياباني, والسلطاني, والشعبي, والفينو وغيرها