)... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون*
بقلم: د. زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع الربع الثاني من سورة الأنبياء وهي سورة مكية, وآياتها112 بعد البسملة, ويدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة الإسلامية ومن ركائزها الإيمان بالله ربا وبملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, والتوحيد الخالص لجلال الله( بغير شريك, ولا شبيه, ولا زوجة, ولا ولد, ولا منازع له في سلطانه).
وابتدأت السورة الكريمة بالإشارة إلي غفلة الناس عن الحساب, وعللت تلك الغفلة بانصراف أغلب الناس عن الهداية الربانية التي أنزلها الله( تعالي) علي فترة من الأنبياء والمرسلين, وأتمها, وأكملها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين).
وضربت سورة الأنبياء مثلا علي ذلك بغفلة كفار قريش, الذين أنكروا نبوة ورسالة هذا الرسول الخاتم ـ وأمثالهم في هذا الزمان كثير ـ واتهموه( شرفه الله تعالي) ـ كما يتهمه كفار ومشركو اليوم ـ بالسحر, والهلوسة, والافتراء, والشعر, وطالبوه بعدد من المعجزات الحسية كالتي جاء بها سلفه من الأنبياء والمرسلين ـ ناسين أو متناسين كفر الكافرين بتلك السلسلة الطويلة من رسل الله وأنبيائه, علي الرغم من تأييد الله لهم بالمعجزات, وناسين أو متناسين أن جميع هؤلاء الأنبياء والمرسلين كانوا بشرا مختارين, مما يدحض اعتراضهم علي بشرية خاتمهم( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), وناسين أو متناسين أن الله( تعالي) قد أهلك المتقدمين من الكفار والمشركين, ومن الطغاة المتجبرين, فلم يعتبروا بهلاكهم حتي إذا فاجأتهم عقوبة من الله رفعوا أصواتهم بالاستغاثة والضراعة صاغرين, متذللين....!!
وأكدت الآيات في سورة الأنبياء أنه لو أعرض أهل الأرض جميعا عن طاعة خالقهم, وعبادته بما أمر, فإن الملائكة لا يستكبرون عن الخضوع الدائم لجلاله, ولا عن تسبيحه, وتمجيده, وحمده, ولا يملون ذلك أبدا:
(يسبحون الليل والنهار لا يفترون*).
واستشهدت سورة الأنبياء بالعديد من الآيات الكونية علي عظمة الخالق( سبحانه وتعالي) في إتقانه لصنعته, وعلي وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه, وعلي تنزيهه( سبحانه) عن الشريك, والزوجة, والولد, وهو( تعالي) رب كل شيء ومليكه, ومن ينازعه في سلطانه فجزاؤه جهنم وبئس المصير.
وتؤكد السورة الكريمة أن( كل نفس ذائقة الموت), وأن الدنيا دار ابتلاء بالخير والشر, وأن جميع المخلوقين عائدون حتما إلي خالقهم.
وتواسي الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) بأن جميع من سبقوه تاريخيا من أنبياء الله ورسله قد لاقوا من كفار أقوامهم, وشراذم أممهم, وحثالات مجتمعاتهم مثل ما لاقي( ولا يزال يلاقي) من التكذيب والسخرية والاستهزاء, وقد نال السابقين من هؤلاء المكذبين نكال من الله في الدنيا, ولهم في الآخرة العذاب المقيم, وهو نفس جزاء المكذبين من بعد ذلك إلي أيامنا هذه وإلي يوم الدين, فالله( تعالي) يضع الموازين العادلة فلا تظلم نفس شيئا...!!
واستعرضت سورة الأنبياء قصص عدد من هؤلاء المصطفين الأخيار منهم موسي وهارون وقد آتاهما الله( تعالي) التوراة نورا وضياء وجعلها فارقة بين الحق والباطل, وتذكرة للمتقين( الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون).
وتؤكد الآيات أن القرآن الكريم قد جاء من نفس المشكاة, وهو كتاب مبارك, أنزله الذي أنزل التوراة من قبل, فلا ينكره إلا ضال.
وممن ذكرت بهم السورة من أنبياء الله ورسله: إبراهيم الخليل أبو الأنبياء, ولخصت حواره مع قومه من عبدة الأوثان, ودعوته إياهم إلي التوحيد الخالص, وتنجية الله له من كيدهم, وبعثه وابن أخيه لوطا إلي أرض فلسطين المباركة, ووهبه ـ علي الكبر ـ ذرية صالحة, وتنجية لوط من القرية التي كانت تعمل الخبائث والتي دمرها الله( تعالي) تدميرا.
وأضافت السورة الكريمة ذكر نوح( عليه السلام) وقصته مع قومه الذين كذبوه فأغرقهم الله( تعالي), ونجي نوحا ومن آمن معه, وقصة كل من داود وسليمان, وما أكرمهما الله( تعالي) به من معجزات وكرامات, وقصة أيوب وما مسه من ضر وبلاء صبر عليه فكشفه الله( تعالي) عنه, وقصص كل من إسماعيل, وإدريس, وذي الكفل, الذين كانوا من أهل الإحسان والصبر, وقصة يونس( علي نبينا وعليه وعلي أنبياء الله جميعا من الله السلام) والحوت الذي التقمه, وتنجية الله( تعالي) له منه, وقصة زكريا( عليه السلام) وقد رزقه الله تعالي ـ علي الكبر ـ ابنا صالحا, وقصة السيدة مريم البتول وولادتها بمعجزة حقيقية لابنها عيسي( عليها وعليه من الله السلام), ومن هنا كانت تسمية هذه السورة المباركة باسم سورة الأنبياء.
وبعد هذا السرد التاريخي المعجز يأتي القرار الإلهي الحاسم:
وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون* الأنبياء:92
وفيه من التأكيد علي وحدة الرسالة السماوية, ووحدة هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء والمرسلين, ما يدعم صدورها عن الإله الواحد الذي خلق الخلق, واصطفي منهم الأنبياء والمرسلين, وأوحي إليهم جميعا بدينه القويم ـ الإسلام ـ الذي أكمله, وأتمه وحفظه في الرسالة الخاتمة ـ القرآن الكريم ـ المنزل علي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين).
وعلي الرغم من هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في وسط النهار فقد اختلف الناس في أمر الدين, وأصبحوا فيه شيعا متعارضين, والجميع راجعون إلي الله( تعالي) ليحاسبهم, ويجازيهم علي ما كانوا يعتقدون, وما كانوا يعملون. وقد أوضح الله( تعالي) للجميع أن الذين أهلكوا في الدنيا لكفرهم وشركهم وطغيانهم قد أدركوا ذلك بعد هلاكهم, وتمنوا العودة مرة أخري إلي الحياة الدنيا ليتوبوا إلي الله, ويعودوا إلي طاعته وعبادته وتوحيده ولكن هيهات لهم أن يعودوا إلا عند قيام الساعة حين يبعث الخلق أجمعون.
وتتحدث الآيات في سورة الأنبياء عن سد يأجوج ومأجوج, وعن الإشعار بقرب فتحه, وتدافع هذا الخلق للخروج منه, وانتشارهم, في كل فج, وتزاحمهم علي النزول من كل مرتفع متسارعين للإفساد في الأرض, وخروجهم من العلامات الكبري للساعة ومن نبوءات القرآن العظيم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) باقتراب وقتها.... ويومئذ يري الكافرون والمشركون وأبصارهم شاخصة من شدة الهول والفزع, وتصف الآيات جانبا من مشاهد هذا اليوم العصيب, وتمايز بين موقف كل من المؤمنين والكافرين فيه.
وتؤكد السورة في أواخرها أن الرسول الخاتم والنبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم) قد أرسله الله( تعالي) رحمة للعالمين, داعيا للناس جميعا إلي التوحيد الخالص لله الخالق, فإن تولوا فما عليه إلا أن يقول: قد أعلمتكم جميعا بالحق, أنذرتكم بما توعدون, ولا أدري أقريب هو أم بعيد, وأخبرتكم بأن الله( تعالي) هو علام الغيوب, الذي لا يخفي عليه شيء, وأنه( تعالي) سوف يجازي كلا بعمله, ولست أدري إن كان إمهالكم لمزيد من البقاء في الدنيا هو ابتلاء لكم أم فتنة, وتختتم السورة الكريمة بهذا الدعاء الكريم علي لسان خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم):
قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان علي ما تصفون* أي: يا رب احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بالحق الذي أرسلتني به, وأنت المستعان علي ما يصفون من الكفر والتكذيب, وبهذا التفويض لله( تعالي) والاستعانة به والضراعة إليه تختتم سورة الأنبياء.
من الآيات الكونية في سورة الأنبياء
في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة.. الإلهية المبدعة في الخلق, وعلي وحدانية الخالق العظيم
أشارت سورة الأنبياء إلي عدد من الآيات الكونية التي يمكن إيجازها فيما يلي:
1ـ خلق السماوات والأرض بالحق, أي بنظم فائقة الدقة والانتظام.
2ـ وحدة البناء في الخلق تؤكد وحدانية الخالق( سبحانه وتعالي).
3ـ حقيقة أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقهما الله( تعالي).
4ـ حقيقة أن الله( سبحانه وتعالي) قد جعل من الماء كل شيء حي.
5ـ حقيقة أن الله( تعالي) خلق الجبال, وجعلها رواسي للأرض, وجعل فيها فجاجا سبلا للناس يسلكونها ويهتدون بها.
6ـ تأكيد أن الله( تعالي) قد جعل السماء سقفا محفوظا.
7ـ الإشارة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بخلق كل من الليل والنهار وتبادلهما, وتأكيد جري كل من الأرض والشمس والقمر بالوصف القرآني المعجز:
كل في فلك يسبحون.
8ـ تأكيد حقيقة أن كل نفس ذائقة الموت.
9ـ الإشارة إلي أن الإنسان خلق من عجل.
10ـ الإشارة إلي حقيقة إنقاص الأرض من أطرافها في مجاز معجز.
11ـ الإشارة إلي طي السماء كطي السجل للكتب, والعودة بالكون إلي هيئته الأولي( رتقا متصلا قبل فتقه إلي السماوات والأرض).
ومن إعجاز القرآن الكريم أن تأتي الإشارة إلي كيفية خلق الكون, وإلي كيفية إفنائه في سورة واحدة, والإشارة إلي خلق كل شيء حي بين هذين الحدين.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الرابعة فقط في هذه القائمة والتي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):
..... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* الأنبياء:30
* ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله( وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي أصل كل الأحياء, عن أبي هريرة قال, قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني, فأنبئني عن كل شيء, قال:
كل شيء خلق من ماء قال, قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة؟
قال: أفش السلام, وأطعم الطعام, وصل الأرحام, وقم بالليل والناس نيام, ثم ادخل الجنة بسلام( مسند أحمد بن حنبل).
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه:...( وجعلنا من الماء) النازل من السماء والنابع من الأرض( كل شيء حي) نبات وغيره, أي: فالماء سبب لحياته( أفلا يؤمنون) بتوحيدي؟.
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:... فأما شطر الآية الثاني وجعلنا من الماء كل شيء حي) فيقرر كذلك حقيقة خطيرة, يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما.. إن الماء هو مهد الحياة الأول. وهي حقيقة تثير الانتباه حقا, وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا, ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن, فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله, لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له.. ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلي عجائب صنع الله في الكون, ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود: أفلا يؤمنون؟ وكل ما حولهم في الكون يقود إلي الإيمان بالخالق المدبر الحكيم.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) ما نصه:...( وجلعنا من الماء كل شيء حي) خلقنا من الماء كل شيء حي, أي متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان, أو كل شيء نام فيدخل النبات, ويراد من الحياة ما يشمل النمو. وهذا العام مخصوص بما سوي الملائكة والجن مما هو حي.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: أعمي الذين كفروا, ولم يبصروا...., وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي؟! فهل بعد كل هذا يعرضون, فلا يؤمنون بأنه لا إله إلا الله؟!
وجاء بالهامش هذا التعليق وجعلنا من الماء كل شيء حي): تقرر هذه الآية حقيقة علمية أثبتها أكثر من فرع من فروع العلم, فقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون المهم في تركيب مادة الخلية, وهي وحدة البناء في كل كائن حي نباتا كان أو حيوانا, وأثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء, فهو إما وسط, أو عامل مساعد, أو داخل في التفاعل, أو ناتج عنه.
وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوافر له مظاهر الحياة ومقوماتها.
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبها خيرا) ما نصه:
.....( وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسببا للحياة فلا يعيش بدونه إنسان ولا حيوان ولا نبات( أفلا يؤمنون) أي: أفلا يصدقون بقدرة الله؟.
الماء في القرآن الكريم
الماء سائل شفاف تقوم عليه الحياة, وهو في نقائه لا لون له, ولا طعم ولا رائحة, وقد وهبه الله( تعالي) من الصفات الطبيعية والكيميائية ما يمكنه من القيام بدوره الأساسي في أجساد كل صور الحياة.
والهمزة في اسمه مبدلة من الهاء لأن أصله( موه) وجمعه( أمواه) في القلة, و(مياه في الكثرة), وتصغيره( مويه), والنسبة إلي( ماء) هي( مائي) أو( ماوي).
ولفظة( ماء) وردت في القرآن الكريم(63) مرة, وهي لفظة تدل علي الجمع والمفرد معا( فتقول ماء البحر كما تقول قطرة ماء).
ومن هذه المرات الثلاث وستين والتي جاءت ـ في معظمها ـ بمعني السائل المعروف الذي يشربه كل من الإنسان والحيوان, ويروي به النبات, جاءت لفظة( ماء) في القرآن الكريم أربع مرات بمعني النطفة( أي: ماء التناسل), كما جاءت كلمة( ماء)59 مرة غير متصلة بضمير,4 مرات متصلة بضمير من الضمائر.
وهذه المرات الثلاث وستون
بقلم: د. زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مطلع الربع الثاني من سورة الأنبياء وهي سورة مكية, وآياتها112 بعد البسملة, ويدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة الإسلامية ومن ركائزها الإيمان بالله ربا وبملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, والتوحيد الخالص لجلال الله( بغير شريك, ولا شبيه, ولا زوجة, ولا ولد, ولا منازع له في سلطانه).
وابتدأت السورة الكريمة بالإشارة إلي غفلة الناس عن الحساب, وعللت تلك الغفلة بانصراف أغلب الناس عن الهداية الربانية التي أنزلها الله( تعالي) علي فترة من الأنبياء والمرسلين, وأتمها, وأكملها, وحفظها في القرآن الكريم, وفي سنة خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين).
وضربت سورة الأنبياء مثلا علي ذلك بغفلة كفار قريش, الذين أنكروا نبوة ورسالة هذا الرسول الخاتم ـ وأمثالهم في هذا الزمان كثير ـ واتهموه( شرفه الله تعالي) ـ كما يتهمه كفار ومشركو اليوم ـ بالسحر, والهلوسة, والافتراء, والشعر, وطالبوه بعدد من المعجزات الحسية كالتي جاء بها سلفه من الأنبياء والمرسلين ـ ناسين أو متناسين كفر الكافرين بتلك السلسلة الطويلة من رسل الله وأنبيائه, علي الرغم من تأييد الله لهم بالمعجزات, وناسين أو متناسين أن جميع هؤلاء الأنبياء والمرسلين كانوا بشرا مختارين, مما يدحض اعتراضهم علي بشرية خاتمهم( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), وناسين أو متناسين أن الله( تعالي) قد أهلك المتقدمين من الكفار والمشركين, ومن الطغاة المتجبرين, فلم يعتبروا بهلاكهم حتي إذا فاجأتهم عقوبة من الله رفعوا أصواتهم بالاستغاثة والضراعة صاغرين, متذللين....!!
وأكدت الآيات في سورة الأنبياء أنه لو أعرض أهل الأرض جميعا عن طاعة خالقهم, وعبادته بما أمر, فإن الملائكة لا يستكبرون عن الخضوع الدائم لجلاله, ولا عن تسبيحه, وتمجيده, وحمده, ولا يملون ذلك أبدا:
(يسبحون الليل والنهار لا يفترون*).
واستشهدت سورة الأنبياء بالعديد من الآيات الكونية علي عظمة الخالق( سبحانه وتعالي) في إتقانه لصنعته, وعلي وحدانيته المطلقة فوق جميع خلقه, وعلي تنزيهه( سبحانه) عن الشريك, والزوجة, والولد, وهو( تعالي) رب كل شيء ومليكه, ومن ينازعه في سلطانه فجزاؤه جهنم وبئس المصير.
وتؤكد السورة الكريمة أن( كل نفس ذائقة الموت), وأن الدنيا دار ابتلاء بالخير والشر, وأن جميع المخلوقين عائدون حتما إلي خالقهم.
وتواسي الآيات خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) بأن جميع من سبقوه تاريخيا من أنبياء الله ورسله قد لاقوا من كفار أقوامهم, وشراذم أممهم, وحثالات مجتمعاتهم مثل ما لاقي( ولا يزال يلاقي) من التكذيب والسخرية والاستهزاء, وقد نال السابقين من هؤلاء المكذبين نكال من الله في الدنيا, ولهم في الآخرة العذاب المقيم, وهو نفس جزاء المكذبين من بعد ذلك إلي أيامنا هذه وإلي يوم الدين, فالله( تعالي) يضع الموازين العادلة فلا تظلم نفس شيئا...!!
واستعرضت سورة الأنبياء قصص عدد من هؤلاء المصطفين الأخيار منهم موسي وهارون وقد آتاهما الله( تعالي) التوراة نورا وضياء وجعلها فارقة بين الحق والباطل, وتذكرة للمتقين( الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون).
وتؤكد الآيات أن القرآن الكريم قد جاء من نفس المشكاة, وهو كتاب مبارك, أنزله الذي أنزل التوراة من قبل, فلا ينكره إلا ضال.
وممن ذكرت بهم السورة من أنبياء الله ورسله: إبراهيم الخليل أبو الأنبياء, ولخصت حواره مع قومه من عبدة الأوثان, ودعوته إياهم إلي التوحيد الخالص, وتنجية الله له من كيدهم, وبعثه وابن أخيه لوطا إلي أرض فلسطين المباركة, ووهبه ـ علي الكبر ـ ذرية صالحة, وتنجية لوط من القرية التي كانت تعمل الخبائث والتي دمرها الله( تعالي) تدميرا.
وأضافت السورة الكريمة ذكر نوح( عليه السلام) وقصته مع قومه الذين كذبوه فأغرقهم الله( تعالي), ونجي نوحا ومن آمن معه, وقصة كل من داود وسليمان, وما أكرمهما الله( تعالي) به من معجزات وكرامات, وقصة أيوب وما مسه من ضر وبلاء صبر عليه فكشفه الله( تعالي) عنه, وقصص كل من إسماعيل, وإدريس, وذي الكفل, الذين كانوا من أهل الإحسان والصبر, وقصة يونس( علي نبينا وعليه وعلي أنبياء الله جميعا من الله السلام) والحوت الذي التقمه, وتنجية الله( تعالي) له منه, وقصة زكريا( عليه السلام) وقد رزقه الله تعالي ـ علي الكبر ـ ابنا صالحا, وقصة السيدة مريم البتول وولادتها بمعجزة حقيقية لابنها عيسي( عليها وعليه من الله السلام), ومن هنا كانت تسمية هذه السورة المباركة باسم سورة الأنبياء.
وبعد هذا السرد التاريخي المعجز يأتي القرار الإلهي الحاسم:
وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون* الأنبياء:92
وفيه من التأكيد علي وحدة الرسالة السماوية, ووحدة هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء والمرسلين, ما يدعم صدورها عن الإله الواحد الذي خلق الخلق, واصطفي منهم الأنبياء والمرسلين, وأوحي إليهم جميعا بدينه القويم ـ الإسلام ـ الذي أكمله, وأتمه وحفظه في الرسالة الخاتمة ـ القرآن الكريم ـ المنزل علي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين).
وعلي الرغم من هذه الحقيقة الواضحة وضوح الشمس في وسط النهار فقد اختلف الناس في أمر الدين, وأصبحوا فيه شيعا متعارضين, والجميع راجعون إلي الله( تعالي) ليحاسبهم, ويجازيهم علي ما كانوا يعتقدون, وما كانوا يعملون. وقد أوضح الله( تعالي) للجميع أن الذين أهلكوا في الدنيا لكفرهم وشركهم وطغيانهم قد أدركوا ذلك بعد هلاكهم, وتمنوا العودة مرة أخري إلي الحياة الدنيا ليتوبوا إلي الله, ويعودوا إلي طاعته وعبادته وتوحيده ولكن هيهات لهم أن يعودوا إلا عند قيام الساعة حين يبعث الخلق أجمعون.
وتتحدث الآيات في سورة الأنبياء عن سد يأجوج ومأجوج, وعن الإشعار بقرب فتحه, وتدافع هذا الخلق للخروج منه, وانتشارهم, في كل فج, وتزاحمهم علي النزول من كل مرتفع متسارعين للإفساد في الأرض, وخروجهم من العلامات الكبري للساعة ومن نبوءات القرآن العظيم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) باقتراب وقتها.... ويومئذ يري الكافرون والمشركون وأبصارهم شاخصة من شدة الهول والفزع, وتصف الآيات جانبا من مشاهد هذا اليوم العصيب, وتمايز بين موقف كل من المؤمنين والكافرين فيه.
وتؤكد السورة في أواخرها أن الرسول الخاتم والنبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم) قد أرسله الله( تعالي) رحمة للعالمين, داعيا للناس جميعا إلي التوحيد الخالص لله الخالق, فإن تولوا فما عليه إلا أن يقول: قد أعلمتكم جميعا بالحق, أنذرتكم بما توعدون, ولا أدري أقريب هو أم بعيد, وأخبرتكم بأن الله( تعالي) هو علام الغيوب, الذي لا يخفي عليه شيء, وأنه( تعالي) سوف يجازي كلا بعمله, ولست أدري إن كان إمهالكم لمزيد من البقاء في الدنيا هو ابتلاء لكم أم فتنة, وتختتم السورة الكريمة بهذا الدعاء الكريم علي لسان خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم):
قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان علي ما تصفون* أي: يا رب احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين بالحق الذي أرسلتني به, وأنت المستعان علي ما يصفون من الكفر والتكذيب, وبهذا التفويض لله( تعالي) والاستعانة به والضراعة إليه تختتم سورة الأنبياء.
من الآيات الكونية في سورة الأنبياء
في مقام الاستدلال علي طلاقة القدرة.. الإلهية المبدعة في الخلق, وعلي وحدانية الخالق العظيم
أشارت سورة الأنبياء إلي عدد من الآيات الكونية التي يمكن إيجازها فيما يلي:
1ـ خلق السماوات والأرض بالحق, أي بنظم فائقة الدقة والانتظام.
2ـ وحدة البناء في الخلق تؤكد وحدانية الخالق( سبحانه وتعالي).
3ـ حقيقة أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقهما الله( تعالي).
4ـ حقيقة أن الله( سبحانه وتعالي) قد جعل من الماء كل شيء حي.
5ـ حقيقة أن الله( تعالي) خلق الجبال, وجعلها رواسي للأرض, وجعل فيها فجاجا سبلا للناس يسلكونها ويهتدون بها.
6ـ تأكيد أن الله( تعالي) قد جعل السماء سقفا محفوظا.
7ـ الإشارة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس بخلق كل من الليل والنهار وتبادلهما, وتأكيد جري كل من الأرض والشمس والقمر بالوصف القرآني المعجز:
كل في فلك يسبحون.
8ـ تأكيد حقيقة أن كل نفس ذائقة الموت.
9ـ الإشارة إلي أن الإنسان خلق من عجل.
10ـ الإشارة إلي حقيقة إنقاص الأرض من أطرافها في مجاز معجز.
11ـ الإشارة إلي طي السماء كطي السجل للكتب, والعودة بالكون إلي هيئته الأولي( رتقا متصلا قبل فتقه إلي السماوات والأرض).
ومن إعجاز القرآن الكريم أن تأتي الإشارة إلي كيفية خلق الكون, وإلي كيفية إفنائه في سورة واحدة, والإشارة إلي خلق كل شيء حي بين هذين الحدين.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الرابعة فقط في هذه القائمة والتي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي):
..... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* وقبل الدخول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين القدامي والمعاصرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
... وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون* الأنبياء:30
* ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله( وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي أصل كل الأحياء, عن أبي هريرة قال, قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني, فأنبئني عن كل شيء, قال:
كل شيء خلق من ماء قال, قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة؟
قال: أفش السلام, وأطعم الطعام, وصل الأرحام, وقم بالليل والناس نيام, ثم ادخل الجنة بسلام( مسند أحمد بن حنبل).
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه:...( وجعلنا من الماء) النازل من السماء والنابع من الأرض( كل شيء حي) نبات وغيره, أي: فالماء سبب لحياته( أفلا يؤمنون) بتوحيدي؟.
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:... فأما شطر الآية الثاني وجعلنا من الماء كل شيء حي) فيقرر كذلك حقيقة خطيرة, يعد العلماء كشفها وتقريرها أمرا عظيما.. إن الماء هو مهد الحياة الأول. وهي حقيقة تثير الانتباه حقا, وإن كان ورودها في القرآن الكريم لا يثير العجب في نفوسنا, ولا يزيدنا يقينا بصدق هذا القرآن, فنحن نستمد الاعتقاد بصدقه المطلق في كل ما يقرره من إيماننا بأنه من عند الله, لا من موافقة النظريات أو الكشوف العلمية له.. ومنذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا كان القرآن الكريم يوجه أنظار الكفار إلي عجائب صنع الله في الكون, ويستنكر ألا يؤمنوا بها وهم يرونها مبثوثة في الوجود: أفلا يؤمنون؟ وكل ما حولهم في الكون يقود إلي الإيمان بالخالق المدبر الحكيم.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) ما نصه:...( وجلعنا من الماء كل شيء حي) خلقنا من الماء كل شيء حي, أي متصف بالحياة الحقيقية وهو الحيوان, أو كل شيء نام فيدخل النبات, ويراد من الحياة ما يشمل النمو. وهذا العام مخصوص بما سوي الملائكة والجن مما هو حي.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: أعمي الذين كفروا, ولم يبصروا...., وجعلنا من الماء الذي لا حياة فيه كل شيء حي؟! فهل بعد كل هذا يعرضون, فلا يؤمنون بأنه لا إله إلا الله؟!
وجاء بالهامش هذا التعليق وجعلنا من الماء كل شيء حي): تقرر هذه الآية حقيقة علمية أثبتها أكثر من فرع من فروع العلم, فقد أثبت علم الخلية أن الماء هو المكون المهم في تركيب مادة الخلية, وهي وحدة البناء في كل كائن حي نباتا كان أو حيوانا, وأثبت علم الكيمياء الحيوية أن الماء لازم لحدوث جميع التفاعلات والتحولات التي تتم داخل أجسام الأحياء, فهو إما وسط, أو عامل مساعد, أو داخل في التفاعل, أو ناتج عنه.
وأثبت علم وظائف الأعضاء أن الماء ضروري لقيام كل عضو بوظائفه التي بدونها لا تتوافر له مظاهر الحياة ومقوماتها.
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبها خيرا) ما نصه:
.....( وجعلنا من الماء كل شيء حي) أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسببا للحياة فلا يعيش بدونه إنسان ولا حيوان ولا نبات( أفلا يؤمنون) أي: أفلا يصدقون بقدرة الله؟.
الماء في القرآن الكريم
الماء سائل شفاف تقوم عليه الحياة, وهو في نقائه لا لون له, ولا طعم ولا رائحة, وقد وهبه الله( تعالي) من الصفات الطبيعية والكيميائية ما يمكنه من القيام بدوره الأساسي في أجساد كل صور الحياة.
والهمزة في اسمه مبدلة من الهاء لأن أصله( موه) وجمعه( أمواه) في القلة, و(مياه في الكثرة), وتصغيره( مويه), والنسبة إلي( ماء) هي( مائي) أو( ماوي).
ولفظة( ماء) وردت في القرآن الكريم(63) مرة, وهي لفظة تدل علي الجمع والمفرد معا( فتقول ماء البحر كما تقول قطرة ماء).
ومن هذه المرات الثلاث وستين والتي جاءت ـ في معظمها ـ بمعني السائل المعروف الذي يشربه كل من الإنسان والحيوان, ويروي به النبات, جاءت لفظة( ماء) في القرآن الكريم أربع مرات بمعني النطفة( أي: ماء التناسل), كما جاءت كلمة( ماء)59 مرة غير متصلة بضمير,4 مرات متصلة بضمير من الضمائر.
وهذه المرات الثلاث وستون