وينزل من السماء من جبال فيها من برد
فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار
بقلم: د. زغـلول النجـار
النص القرآني المتمم للآية الثالثة والأربعين من سورة النور نص معجز لاحتوائه علي عدد من الحقائق العلمية التي لم يدركها أهل العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وسورة النور سورة مدنية, آياتها أربع وستون, ويدور محورها الرئيسي حول عدد من التشريعات الإلهية التي تحكم سلوك المسلم, وتضبط أخلاقه ومعاملاته, وتحدد له ما يجب أن يتمسك به من آداب في كل من حياته الخاصة والعامة, كما تحدد ضوابط العلاقات في داخل الأسرة المسلمة صونا لحرماتها, وحفاظا عليها من التفكك والانهيار, انطلاقا من كونها محضن الصغار, ولبنة بناء المجتمع المسلم...!!
ولذلك أوردت سورة النور عددا من الحدود الشرعية من مثل حد الزنا, وحد القذف, وضوابط درء الشبهات كاللعان وغيرها, وذلك صونا للمجتمعات الإنسانية من الفساد والإباحية والفوضي واختلاط الأنساب.
وقد سميت السورة باسم سورة النور لورود الإشارة في الآية الخامسة والثلاثين منها إلي حقيقة أن الله( تعالي) هو نور السماوات والأرض. وتبدأ السورة الكريمة بتأكيد أنها من جوامع سور القرآن الكريم, التي أنزلها الله( تعالي) علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وفرض فيها علي عباده فرائض ألزمهم بها, كما أنزل عددا من آياته البينات تذكرة للناس; ومن أول هذه الفرائض تحريم الزنا, ووضع الحدود الرادعة للواقعين فيه; وتبشيع هذه الجريمة بتأكيد علي أن... الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك علي المؤمنين; وتشير السورة إلي إشاعة فرية الإفك, وتجرم الخائضين فيها, وتبرئ المظلومين من دنسها, مؤكدة أن الله( تعالي) لايحب أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين.
وتحذر سورة النور من اتباع خطوات الشيطان, وتحض علي الإنفاق في سبيل الله, وتنهي عن الخوض في أعراض الناس, وعن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات; وتؤكد أن ألسنة الخائضين في أعراض الناس وأيديهم وأرجلهم سوف تشهد عليهم يوم القيامة بما كانوا يعملون.
وتنهي سورة النور عن دخول البيوت دون استئذان وسلام علي أهلها, وتأمر بغض البصر, وحفظ الفرج, وستر العورات, وبالاحتشام وعدم التبرج بزينة, وتضع ضوابط الزواج, وتحرم البغاء واستغلال الجواري للكسب الدنيوي الرخيص من وراء هذه الجريمة غير الإنسانية وغير الأخلاقية, وتدعو إلي عتق رقاب الأرقاء, وإلي بناء المساجد, والقيام علي تطهيرها, وعمارتها, بيوتا لله في الأرض, ومنارات للهدي, ومراكز للدعوة إلي دين الله, يعبد فيها الله( تعالي) وحده( بغير شريك ولا شبيه ولا منازع), ويسبح فيها المؤمنون بحمده صباح مساء, لا يشغلهم عن ذلك شيء من شواغل الدنيا وملهياتها, أو زخارفها, وزيناتها; وذلك طمعا في مرضاة الله, وتجنبا لسخطه وغضبه; وتحسبا لأهوال يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, وتبشرهم السورة الكريمة بأن الله( تعالي) سوف يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله, فهو( سبحانه) يهب ما يشاء لمن يشاء, ولا حدود لعطائه...!!
وفي المقابل تؤكد سورة النور أن الكفار في الآخرة سوف يجدون أعمالهم التي اقترفوها في الدنيا( متصورين أنها أعمال نافعة) وكأنها سراب خادع, لا قيمة له ولا وزن عند الله الذي سوف يوفيهم حسابهم, والله سريع الحساب...!!
وتشبه السورة تخبط الكفار في ظلمات الشرك والكفر والضلال بالواقف في قاع بحر عميق وسط ظلمات متكاثفة تحدثها ظلمة كل من السحاب, والأمواج السطحية, والأمواج العميقة, فلا يكاد يري شيئا من حوله, وتقرر أنه:... ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وتؤكد الآيات أن جميع من في السماوات والأرض يسبح لله الذي له ملك السماوات والأرض وملك كل شيء وإليه المصير, وتصف مراحل تكون السحب الركامية وما يصاحبها من إزجاء, وتأليف وركم, وإنزال لما فيها من ماء وثلج وبرد, وحدوث للبرق, وتشير إلي تبادل الليل والنهار, وإلي خلق كل دابة من ماء, وإلي عدد من الوسائط التي تتحرك بها تلك الدواب, وكلها من الدلائل البينة علي طلاقة القدرة الإلهية.
وتحذر سورة النور من النفاق والمنافقين, وتفضح دخائل نفوسهم, وما جبلوا عليه من الكذب, والمكر, والاحتيال, والحنث في الأيمان, ونقض العهود والمواثيق,( تماما كما يفعل الصهاينة المجرمون اليوم), وتقارن بين مواقف كل من المنافقين والمؤمنين, وتأمرهم بطاعة الله ورسوله فإن أعرضوا فما علي الرسول إلا البلاغ. وتؤكد سورة النور أن وعد الله قائم للذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم, وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضي لهم, وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا ما داموا يعبدون الله( تعالي) لا يشركون به شيئا, وأن... من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. وتعاود الآيات الأمر بإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول( صلي الله عليه وسلم) خاصة في الأمر بالجهاد في سبيل الله, مؤكدة أن الذين كفروا ليسوا بمعجزين في الأرض, وأن مأواهم النار وبئس المصير, كما تعاود إلي المزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم, وفي حضرة رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ـوهو نموذج للتعامل مع أية قيادة إسلاميةـ وتجعل هذا الأدب في التعامل من صفات المؤمنين الملتزمين بأوامر الله ورسوله, وتحذر من مخالفة تلك الأوامر درءا لفتن الدنيا وعذاب الآخرة.
وتختتم سورة النور بالتأكيد مرة أخري أن لله ما في السماوات والأرض, وأنه( تعالي) عليم بما في قلوب خلقه( لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء), وأنهم جميعا سوف يرجعون إليه فينبئهم بما فعلوا في الدنيا ويجازيهم بأعمالهم.
والآيات الكونية التي استشهدت بها سورة النور علي صدق ما جاء بها من حقائق وأحكام آيات عديدة منها ما يلي:
(1) حقيقة أن الله( تعالي) هو نور السماوات والأرض, وضرب المثل لهذا النور بتشبيه علمي دقيق( ولله المثل الأعلي).
(2) التشبيهات الدقيقة بظواهر السراب, وبالظلمات المركبة فوق قيعان البحار العميقة, وبحقيقة أن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
(3) تأكيد حقيقة تسبيح كل ما في السماوات والأرض لله.
(4) وصف تكون السحب الركامية والظواهر المصاحبة لتكوينها بدقة بالغة, ونسبة ظاهرة البرق إلي البرد, وهي حقيقة لم يدركها العلماء إلا في أواخر القرن العشرين.
(5) تبادل( تقليب) الليل والنهار.
(6) خلق كل دابة من ماء.
(7) الإشارة إلي إمكانية تصنيف الدواب علي أساس من طريقة مشيها.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي إنزال البرد من السحب الركامية, وعلاقة ذلك بحدوث ظاهرة البرق, وقبل الولوج في ذلك لابد من استعراض لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني المعجز.
من أقوال المفسرين
1ـ بلورات ثلج تتحول بالتدريج الى جليد
2ـ صورة مكبرة لحبيبات من البرد فى حجم حبات الخرز
3ـ صاعقة من البرق بين السحب الركامية وسطح الارض
4ـ قطاع فى سحابة ركامية بداخلها برد يتكون مسببا عاصفة برقية / رعدية
5ـ سحب ركامية
في تفسير قوله( تعالي):... وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله وينزل من السماء من جبال فيها من برد) قال بعض النحاة من) الأولي لابتداء الغاية, والثانية للتبعيض, والثالثة لبيان الجنس, ومعناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد, وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب فإن( من) الثانية عنده لابتداء الغاية لكنها بدل من الأولي والله أعلم, وقوله تعالي فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء) يحتمل أن يكون المراد بقوله فيصيب به) أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد, فيكون قوله فيصيب به من يشاء) رحمة لهم( ويصرفه عن من يشاء) أي يؤخر عنهم الغيث, ويحتمل أن يكون المراد بقوله فيصيب به) أي بالبرد نقمة علي من يشاء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم,( ويصرفه عن من يشاء) رحمة بهم, وقوله يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته....
وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه رحمة واسعة) ما نصه:...( وينزل من السماء)( من) زائدة( جبال فيها) في السماء, بدل بإعادة الجار( من برد) أي بعضه( فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء)( يكاد) يقرب( سنا برقه) لمعانه( يذهب بالأبصار) الناظرة له أي يخطفها.
وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما نصه:... وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة... ومشهد السحب كالجبال ليبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها فإذا المشهد مشهد الجبال حقا بضخامتها, ومساقطها, وارتفاعاتها, وانخفاضاتها, وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس, إلا بعدما ركبوا الطائرات.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله وفق ناموسه الذي يحكم الكون, ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء ويصرفه عن من يشاء... وتكملة المشهد الضخم( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض, علي طريق التناسق في التصوير.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) ما نصه:...( سنا برقه) أي شدة ضوء برق السحاب ولمعانه. يقال: سنا يسنو سنا, أي أضاء.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزي الله كاتبيه خيرا) ما نصه:... والله ينزل من مجموعات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال في عظمتها بردا, كالحصي ينزل علي قوم فينفعهم أو يضرهم تبعا لقوانينه وإرادته, ولا ينزل علي آخرين كما يريد الله فهو سبحانه الفاعل المختار, ويكاد ضوء البرق الحادث من اصطكاك السحب يذهب بالأبصار لشدته, وهذه الظواهر دلائل قدرة الله الموجبة للإيمان.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش الملاحظتان التاليتان:
(1) لا يعرف التشابه بين السحب والجبال إلا من يركب طائرة تعلو به فوق السحاب فيراها من فوق كأنها الجبال والآكام, وإذا لم تكن تلك الطائرات موجودة في عصر النبي( صلي الله عليه وسلم) فإنه يكون ذلك دليلا علي أن هذا الكلام من عند الله الذي يعلم ما علا وما انخفض.
(2) تسبق هذه الآية الكريمة ركب العلم فإنها تتناول مراحل تكون السحب الركامية وخصائصها. وما عرف علميا في العهد الأخير من أن السحب الممطرة تبدأ علي هيئة وحدات يتألف عدد منها في مجموعات هي السحب الركامية أي السحب التي تنمو في الاتجاه الرأسي, وترتفع قممها إلي علو(15) إلي(20) كيلو مترا فتبدو كالجبال الشامخة!.
كما أن هذه السحب هي ـوحدهاـ التي تجود بالبرد, وتشحن بالكهرباء, وقد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة(40 تفريغا في الدقيقة الواحدة) فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء....
فهم النص القرآني في ضوء المعارف المكتسبة
أولا: النصف الأول من الآية الكريمة:
في النصف الأول من الآية الكريمة رقم(43) من سورة النور التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) ـوالخطاب من بعده للناس كافةـ بقوله( عز من قائل): ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فتري الودق يخرج من خلاله....
(النور:43)
سبق وأن ذكرنا في مقال سابق أن الفعل( يزجي) معناه يسوق سوقا رفيقا( من زجي الشيء, يزجيه, تزجية, وإزجاء أي دفعه برفق.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الرياح( المصرفة حسب المشيئة الإلهية) هي التي تثير السحاب, وأن السحاب في بدء استثارته يكون في كثير من الأحوال علي هيئة القطع الصغيرة المتناثرة في صفحة السماء الدنيا, ثم تأتي الرياح لتسوق هذه القطع الصغيرة المتناثرة من السحاب سوقا رفيقا( وهو الإزجاء), ولما كانت سرعة تحرك قطع السحاب الصغيرة أبطأ من سرعة الرياح التي تسوقها, فإن عملية إزجائها تستغرق وقتا من الزمن حتي تؤدي في النهاية إلي تجميعها في كتلة سحابية ضخمة, ولذلك استخدم القرآن الكريم حرف العطف ثم الذي يدل علي الترتيب مع التراخي; ويزداد بطء السحابة في تحركها كلما زادت كتلتها, وكلما قربت من منطقة التجمع( حيث يؤلف الله تعالي بينها أي يضم بعضها إلي بعض في التئام ومواءمة), وهنا تتلاحم مكونات السحب الصغيرة المجتمعة علي بعضها البعض وتمتزج امتزاجا كاملا في جسم واحد كبير( وهو المقصود بالتآلف), ومع بطء تحرك هذا التجمع السحابي الكبير تزداد سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلي داخله, ويزداد ارتفاع مكوناته إلي أعلي, ويؤدي ذلك إلي جلب مزيد من بخار الماء إلي داخله; وباستمرار ارتفاع مكونات هذا التجمع السحابي إلي مستويات عليا من نطاق المناخ( نطاق الرجع) ـحيث الانخفاض المستمر في كل من الضغط ودرجة الحرارةـ تزداد الفرص لتكثف ما به من بخار الماء, مما يزيد في سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلي داخل هذا التجمع من السحب, وبالتالي إلي زيادة تدفق بخار الماء إلي قلبه, وزيادة نموه, وكذلك زيادة فرصه في الارتفاع إلي أعلي علي هيئة أعداد من سلاسل السحب التي تأخذ شكل السلاسل الجبلية, ذات القمم السامقة, والتي تتعدد بتعدد التيارات الهوائية الصاعدة إلي داخلها, والمرتفعة بمكوناتها إلي أعلي مستويات تصلها قوة اندفاع تلك التيارات الصاعدة, وهذه التيارات الهوائية الصاعدة تكون في أعلي سرعاتها في وسط السحب, وتتضاءل سرعاتها علي الأطراف فيظهر تأثيرها علي هيئة النافورات المتدفقة بمائها إلي أعلي, أو فوهات البراكين الثائرة التي تلقي بملايين الأطنان من الحمم إلي أعلي فتتساقط متجمعة ومتكدسة علي جوانب المخروط البركاني, وتؤدي هذه العملية إلي إلقاء السحب بعضها فوق بعض علي جوانب تيارات الهواء الصاعدة بما فيها من بخار الماء المتكثف لتتجمع حول القمة المتكونة, وهذا هو المقصود( بالركم) لأن( الركم) في اللغة هو إلقاء الشيء بعضه فوق بعض[ من( ركم) الشيء( يركمه)( ركما)( فارتكم) و(تراكم) أي اجتمعت أجزاؤه شيئا فوق شيء فأصبح( ركاما)( مركوما) أو( مرتكما) أو( متراكما) بعضه علي بعض]; و(ركم) السحاب يؤدي إلي نموه الرأسي باستمرار علي هيئة سلسلة من القمم الجبلية المفصولة بعدد من التلال والهضاب والأودية; وكلما زاد نمو تجمعات السحب رأسيا زاد سمكها وزاد ركمها, ومن هنا كانت تسمية هذا النوع من تجمعات السحب باسم السحب الركامية( أو المركومة)
(CumuliformorHeapClouds)
وترجمة هذا التعبير الإنجليزي هو السحب المكدسة أو المتجمعة علي هيئة أكوام متراصة فوق بعضها تمييزا لها عن غيرها من أنواع السحب, وإبرازا لدور الركم في تكوينها.
ومن السحب الركامية أنواع منخفضة إلي متوسطة الارتفاع( يزيد ارتفاع قواعدها علي كيلو مترين فوق مستوي سطح البحر), ومنها السحب العالية التي تجاوز قممها الخمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر, وتتجاوز قواعدها الستة كيلو مترات فوق هذا المستوي.
ونظرا لكثرة ما بها من بللورات الثلج وحبات البرد وقطرات الماء شديدة البرودة; فإن السحب الركامية العالية المعروفة باسم السمحاق الركامي والمتوسطة المعروفة باسم السحب الركامية المتوسطة تظهر أحيانا علي شكل أعداد كبيرة من الكريات البيضاء المتراصة في صفوف منتظمة, وإن كانت تأخذ أشكالا متموجة في بعض الأحيان. وتتكون السحب الركامية المنخفضة الارتفاع والمعروفة باسم السحب الركامية المزنة والمزن الركامية علي هيئة كتل جبلية الشكل ذات نمو رأسي واضح, وقواعد أفقية تقريبا.
وتشتمل السحب الركامية علي بللورات الثلج في قممها, وعلي خليط من حبات البرد وقطرات من ماء شديد البرودة في وسطها, وعلي قطرات الماء البارد في قاعدتها; وتصاحبها عادة ظواهر البرق والرعد وهطول المطر وسقوط حبات البرد وبللورات الثلج.
ومن السحب الركامية المنخفضة ما يشبه سلاسل التلال بدلا من سلاسل الجبال لقلة سمكها نسبيا, ولتوقف عمليات الركم دون الارتفاعات المناسبة, وهي لقلة ارتفاعها لا يتكون بداخلها البرد ولا الثلج, ولا يصاحبها برق ولا رعد, وإذا أمطرت فلا ينزل منها إلا الماء.
وتتحرك السحب الركامية إلي حيث أراد الله( تعالي) لها أن تصل, وتظل عوامل الركم فيها مستمرة مادامت تيارات الهواء الصاعدة إلي قلبها مندفعة بقوة تمكنها من الاحتفاظ بحمولتها من قطيرات الماء, وحبات البرد وبللورات الثلج; وعندما تضعف قوة الرياح الصاعدة ـالتي يصرفها الله تعالي كما يصرف غيرها من أنواع الرياح بعلمه وقدرته وحكمتهـ أو عندما تزيد حمولة هذا التجمع من السحب علي قدرة حملها فإن عملية الركم تتوقف وتبدأ مكوناتها في الهبوط إلي الأرض, وأول ما ينزل منها الماء, وقد يصاحبه أو يتلوه نزول البرد الذي يتلوه نزول الثلج; ولذلك تقول الآية الكريمة... فتري الودق يخرج من خلاله....
وإلفاء من حروف العطف التي تدل علي الترتيب والتعقيب مع الاشتراك وبدونه, و(الودق) هو المطر, و(من خلاله) أي من فتوق السحاب الركامي ومخارجه, لأن( خلال) جمع( خلل) علي وزن جبال وجبل; وقد ثبت علميا أنه بتباطؤ سرعة التيارات الهوائية الصاعدة أو توقفها تتكون مناطق خلخلة في قاعدة السحب الركامية فينزل منها الماء بإرادة الله( تعالي) وتقديره أولا من مناطق الخلخلة تلك التي تظل تتسع لتشمل قاعدة السحابة بأكملها حين يسود تيار الهواء الهابط, وقد يصاحبه كل من البرد والثلج أو يتلوه تباعا, وذلك حسب ارتفاع ومكونات السحابة الركامية وتوزيع درجات الحرارة والرطوبة فيها.
ثانيا ـ النصف الثاني من الآية الكريمة:
في النصف الثاني من الآية الكريمة يقول ربنا( تبارك وتعالي):
.. وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار*( النور:43)
ومعني ذلك أنه بعد( إزجاء السحاب) أي سوقه سوقا رفيقا, و(التأليف بينه) أي ضم بعضه إلي بعض في التئام ومواءمة, وبعد( ركمه) أي تكديسه فوق بعضه بعضا بواسطة حركة التيارات الهوائية الصاعدة في داخل هذا التجمع من السحب, و(خروج الودق) أي المطر من خلاله, ينزل الله( تعالي) من السماء( أي من هذه السحب الركامية).( من جبال) أي من السحب الركامية المرتفعة التي تشبه الجبال في شكلها وارتفاعها وقممها,( فيها من برد) أي في هذه الجبال من السحب الركامية التي تعلو قممها عن خمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر يوجد البرد, والبرد لغة هو مايبرد من المطر في الهواء فيتجمد ويصلب وعلي ذلك فهو يشمل الثلج أيضا, وهما لايتكونان في الغلاف الغازي للأرض إلا في السحب الركامية, وهي توصف بأنها سحب بردة أي ذات برد وثلج, أي أن الله( تعالي) ينزل من السحب الركامية المرتفعة القمم كالجبال شيئا مما فيها من برد وثلج فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء).
ومما ينزل من السحب الركامية البرد الذي عادة ما يصاحب بالعواصف البرقية الرعدية, ويصل حجم حبيباته إلي عدة سنتيمترات في طول قطرها, وتكون في هذه الحالة ظاهرة مدمرة خاصة للنباتات ولبعض الحيوانات وبالتالي للإنسان, كما قد تصيب بعض المنشئات بأضرار بالغة, ومن هنا كان البرد من جند الله, ينزله حسب تقديره ومشيئته في المكان والزمان المحددين انتقاما من العاصين, وابتلاء للصالحين, وعبرة للناجين.
(يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) والضمير في( برقة) يعود علي البرد, بمعني أن مرد ظاهرة البرق يعود إلي( البرد) وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين, و(السنا) هو الضوء الساطع, و(سنا برقه) أي شدة ضوء برقه,( ويذهب بالأبصار) أي يخطفها فيفقدها البصر بالتماعها من شدة ضوء البرق, فسبحان الذي نسب ظاهرة البرقللبرد من قبل ألف وأربعمائه سنة, ولم يدركها الإنسان إلا في أواخر القرن العشرين.
كيفية تكون البرد في داخل السحب الركامية
تصل قمم السحب الركامية عادة إلي ارتفاعات قد تتجاوز الخمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر( أي تتجاوز نطاق الرجع بأكمله), وفي هذه الارتفاعات الشاهقة تنخفض درجة الحرارة انخفاضا شديدا حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء, كذلك يتناقص الضغط الجوي من سطح البحر باستمرار مع الارتفاع حتي يصل إلي واحد من ألف من قيمته بعد ارتفاع مقداره48 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر, وتعين هذه الظروف علي تكثف بخار الماء في السحابة ونمو قطيرات الماء فيها إلي أحجام تعتبر نسبيا كبيرة, وتجمد هذه القطيرات علي هيئة بلورات الثلج في قمم السحب الركامية العالية إذا توافرت لها نوي التبلور, ويتحول في وسطها إلي خليط من البرد والماء الشديد البرودة, ويتكون البرد في درجات أقل من الصفر المئوي وحتي أربعين درجة مئوية تحت الصفر, ويتكون البرد في الأجزاء الوسطي من السحب الركامية نتيجة لسقوط بلورات الثلج من قمم تلك السحب إلي أواسطها حيث تكثر قطيرات الماء المبرد تبريدا شديدا والتي تتجمد, بمجرد اصطدامها بالكتل الثلجية الهابطة والتحامها بها أو باصطدامها مع بعضها البعض فتتكون كرات أو أقراص من الثلج غير المتبلور حول نواة من بلورة أو كتلة ثلجية, أو بدونها, وذلك لأن قطرات الماء شديدة البرودة تكون في حالة غير مستقرة, فإذا اصطدمت ببعضها البعض أو بأي جسم آخر فإنها تتجمد في الحال.
ولايهطل الثلج( الجليد) إلا في المناطق الباردة التي تصل فيها درجة الحرارة إلي مادون الصفر المئوي, وإلا مع توافر نوي التكثف الملائمة في قمم السحب الركامية.
وبللورات الثلج وكذلك حبيبات البرد تنمو بتصادمها مع بعضها البعض علي هيئة صفائح رقيقة حتي تقارب أقطارها السنتيمتر فتنزل بقدر الله وحيث يشاء إلي الأرض التي قدر أن يصيبها به.
ويتساقط الجليد في شتاء المناطق الباردة علي مساحات واسعة, ويظل ينمو علي سطح الأرض من سنتيمترات قليلة في السمك إلي عدة أمتار, ويسبب تجمعه فوق سطح الأرض هبوطا عاما في درجة الحرارة لبرودته مما يؤدي إلي برودة الجزء الملاصق له من الغلاف الغازي للأرض, ولقيامه بعكس نسبة كبيرة من الإشعاع الشمسي, ولذلك تبقي درجة حرارة الجو في المناطق المكسوة بالجليد في حدود الصفر المئوي أو دونه علي الرغم من سطوع الشمس, وقد يؤدي تراكم الجليد إلي شل حركة المواصلات, وإتلاف المحاصيل الزراعية لتكسرها بتجمع كتل الثلج فوقها, ولتمزق أوعيتها الخشبية بتجمد العصارة الغذائية فيها, وعلي الرغم من ذلك فقد يكون لنزول الثلج وما يصاحبه من ظواهر الصقيع مردودا إيجابيا علي بعض أشجار الفاكهة المتساقطة الأوراق إذ تحتاج هذه الأشجار لنجاح إثمارها ونموها إلي فترة من السكون خلال الشتاء بتساقط أوراقها وتكسر بعض فروعها مما يحفزها علي النمو والاثمار في الربيع والصيف التاليين, ولذلك قال( تعالي):
... وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء...
أي يضر به من يشاء ويصرف ضرره عمن يشاء, أو ينفع به من يشاء ويصرف نفعه عمن يشاء بعلمه وحكمته وقدرته.
ويبدأ تساقط الجليد عادة في مناطق خطوط العرض العالية ابتداء من شهر ديسمبر, ويستمر متقطعا طيلة فصل الشتاء, كما يغطي الجليد قمم الجبال العالية طيلة السنة تقريبا, ويسمي الارتفاع الذي تظهر عنده الثلوج الدائمة باسم( حد الثلج الدائم), ويتراوح ارتفاع هذا الحد بين1,2 كيلو متر في بلد شمالي كالنرويج إلي خمسة كيلو مترات ونصف الكيلو متر في بلد إفريقي مثل تنزانيا, وإلي ستة كيلو مترات ونصف الكيلو متر في بلد أمريكي جنوبي مثل المكسيك, وعندما يذوب بعض هذا الجليد الذي تراكم طوال فصل الشتاء في كل من فصلي الربيع والصيف قد يكون سببا في فيضان بعض الأنهار فيضانا مغرقا في بعض الحالات.
دور البرد في حدوث ظاهرة البرق
إلي منتصف الثمانينيات من القرن العشرين بقي تعريف البرق بأنه تفريغ كهربي بين سحابتين تحمل كل منهما شحنة كهربية مختلفة, أو بين جزءين مختلفين من سحابة واحدة كل منهما يحمل شحنة كهربية مختلفة,وإذا ما تمت عملية التفريغ الكهربي تلك بين السحب والأرض سميت الظاهرة باسم الصاعقة.
ويصاحب ظاهرة البرق انطلاق حرارة عالية قد تصل إلي عشرات الآلاف من الدرجات المئوية مما يؤدي إلي تسخين فجائي وشديد لكتل من الهواء التي ينتشر البرق فيها فتتمدد فجأة, وينتج عن تمددها سلسلة من أمواج التضاغط والتخلخل في الهواء المحلي ينتج عنها أمواج صوتية علي هيئة جلجلة أو فرقعات شديدة تظل تتردد وتنعكس بين السحب الركامية وقواعدها, وبينها وبين الغلاف الغازي للأرض أو المرتفعات المحيطة بها, أو بينها وبين سطح الأرض مباشرة, وتعرف هذه الموجات الصوتية وتردداتها ورجعها باسم الرعد.
في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين أثبتت التجارب المختبرية أنه عند انصهار الثلج تتولد شحنات كهربائية لاتتوقف حتي تتم عملية الانصهار.
وعلي العكس من ذلك أثبتت التجارب المعملية أن الماء عند تجمده من محلول ملحي يتولد تيار كهربائي مصاحب بفرق جهد كهربي ملحوظ بين كتلة الثلج والمحلول المائي المالح المغموسة فيه وعلي السطح الفاصل بينهما, وأن هذا الفرق في الجهد الكهربي يتلاشي باكتمال عملية التجمد.
كذلك ثبت أن شحنة كهربائية يمكن أن تنتقل بين بلورتين من بلورات الثلج بمجرد اصطدامهما, وقد أشارت هذه النتائج المعملية إلي إمكانية أن يكون نمو بلورات الثلج وحبيبات البرد وانصهارها داخل السحب الركامية هو أحد أسباب تولد الشحنات الكهربائية في داخل تلك السحب, وبالتالي لتكون ظاهرتي البرق والرعد فيها:
وبعد ذلك لاحظ إخصائيو الأرصاد الجوية أن تيارا كهربائيا يتولد في أثناء سقوط كل من الثلج والبرد والمطر وأنه ينساب إلي أعلي, في اتجاه معاكس لاتجاه سقوطها من السحب الركامية.
وفي منتصف الستينيات من القرن العشرين ثبت بالملاحظة تولد قوة كهربائية عند تلامس قطعتين من الثلج في درجتي حرارة مختلفتين أو عند انزلاق إحداهما علي الأخري وذلك بالتأثير الحراري, وأن وجود فقاعات هوائية حبيسة في داخل تلك البلورات الثلجية يؤثر في نوع الشحنة الكهربائية من ناحية كونها موجبة أو سالبة.
كذلك تتولد شحنات كهربائية عند تصادم قطرات الماء الشديدة البرودة مع بلورات الثلج أو حبات البرد أو مع أي خليط منهما ومعني ذلك أن شحنات كهربائية تتولد عندما يتحول الماء من حال إلي حال: من الماء شديد البرودة إلي البرد أو إلي الثلج, كما تتولد عند تصادم أو ملامسة أي من هذه الحالات مع بعضها البعض, وكلما طرأ علي كل حالة من حالات الماء الصلبة والسائلة والغازية طاريء يغير من شكلها أو حجمها, أو كتلتها, أو درجة حرارتها.
هذه التجارب والملاحظات المتكررة انتهت في الثمانينيات من القرن العشرين إلي اعتبار البرد بمعناه الشامل للماء شديد البرودة, ولحبات البرد ولبلورات الثلج, هو المولد الحقيقي لشحنات الكهرباء ومن ثم لظاهرة البرق.
وحبات البرد هي تلك الحبات الكرية وشبه الكرية التي تتكون من راقات من الثلج علي هيئة إضافات متتالية لثلج جاف غير متبلور علي هيئة الزبد فوق إحدي نوي التبلور, سواء كانت تلك النواة بلورة من الثلج أو قطعة منه أو هباءة من الغبار أو الهباب الناجم عن عمليات الاحتراق المختلفة, أو مما تقذف به البراكين عبر فوهاتها من غازات وأبخرة, أو ماينتج عن احتراق الشهب باحتكاكها بالغلاف الغازي للأرض في أجزائه العليا, أو من الأملاح المختلفة التي يمكن أن تحملها الأبخرة المتصاعدة من أسطح البحار والمحيطات, أو غير ذلك من ملوثات الهواء.
وعندما يتم تكثف بخار الماء تحت الصفر المئوي بحوالي الثلاثين درجة فإنه يتحول إلي ثلج مباشرة عند توافر نوي التكاثف الصلبة, دون مروره بمرحلة قطران الماء السائل,
أما إذا حدثت عملية التكثف في هذه الدرجات المنخفضة من الحرارة دون توافر نوي التكثف الصلبة تتكون نقط من الماء شديد البرودة الذي لايتجمد علي الرغم من الانخفاض الشديد لدرجة الحرارة إلي ما دون درجة تكون الجليد, وتظل نقط الماء الشديد البرودة تلك في حالة من عدم الاستقرار يجعلها قابلة للتجمد بمجرد تصادمها مع بعضها البعض أو مع أي جسم صلب, وبذلك يتكون البرد, وبتكونه ينشأ البرق, ويصاحبه الرعد, وتنزل الثلوج والبرد وتهطل الأمطار بإذن الله, وذلك لأن ضغط التشبع بالنسبة للماء السائل أكبر من ضغط التشبع بالنسبة إلي الثلج في نفس درجة الحرارة, ومن هنا فإن سحابة ركامية بها مقادير كافية من قطرات الماء الشديد البرودة تصبح مهيأة لإنزال المطر بإذن الله( تعالي) بمجرد تجمد تلك القطرات.
والسحابات الركامية عادة ماتكون لها قمم ناصعة البياض لتوافر بلورات الثلج فيها, وبمجرد تساقط شيء من تلك البلورات الثلجية إلي المنطقة الوسطي من السحابة وهي غنية بقطرات من الماء الشديد البرودة يبدأ البرد في التشكل, وتنشط ظاهرتا البرق والرعد, وتكون السحابة مرشحة لإنزال الماء بأمر من الله( تعالي) وبرحمة منه وفضل علي هيئة رخات قليلة تبدأ من وسط السحابة, ثم لاتلبث أن تنتشر في كل قاعدتها.
ومصدر الشحنات الكهربائية المندفعة من السحب الركامية إلي سطح الأرض وبالعكس أثناء هطول كل من الأمطار والثلوج يوجد علي ارتفاعات تكاد تنحصر بين سطحين في الغلاف الغازي للأرض تتراوح درجتي حرارتهما بين(15) درجة مئوية تحت الصفر, و(25) درجة مئوية تحت الصفر, وعلي الرغم من اختلاف أنواع السحب الركامية مكانا, وزمانا, وبناء, وفي عوامل التكوين إلا أن هذا الحيز الحراري يبقي ثابتا.
ويصحب عملية تكون كل من الثلج والبرد تخلق مجال كهربائي إذا وصل تركيز بلورات الثلج في الحيز المحصور بين(-15 م),(-25 م) إلي عشر بلورات في اللتر الواحد.
من هنا توصل العلماء في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين إلي أن البرد بمعناه الواسع هو السبب الرئيسي في تكون ظاهرة البرق والتي يصاحبها الرعد بإذن الله( تعالي), وهي حقيقة سبق القرآن الكريم بتأكيدها من قبل ألف وأربعمائة سنة وذلك في الآية التي نحن بصددها( رقم(43) من سورة النور) التي أكدت إزجاء السحاب, ثم التأليف بينه, ثم جعله ركاما, ثم إنزال الودق من خلاله, وفصل بين المراحل الثلاث الأولي بحرف العطف( ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي لأن كل مرحلة منها تستغرق فترة زمنية حتي تتم, فلما وصل إلي المرحلة الرابعة فصلها بحرف العطف( فـ) والذي من معانيه الترتيب مع التعقيب لأن نزول المطر بإذن الله( تعالي) يتم بعد إتمام عملية الركم مباشرة, وأن هذا الماء ينزل من خلال وسط قاعدة السحابة الركامية أولا وهي منطقة ضعف تنتج عن توقف اندفاع تيارات الهواء الصاعد أو ضعفها, وغلبة تيار الهواء الهابط عليها, ثم بعد ذلك ينزل من جوانب قاعدة السحابة أو منها كلها.
كذلك فإن وصف السحب الركامية بلفظ الجبال, وقصر نزول البرد عليها, وحدوث البرق بلمعانه الخاطف, ونسبة البرق إلي البرد, كل ذلك من الحقائق العلمية التي لم تصل إليها المعارف المكتسبة إلا بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلاف العلماء, ومئات السنين حتي تبلور شيء من فهم الانسان لها في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وسبق القرآن الكريم بالاشارة إليها في آية واحدة نري فيها من الإيجاز, والشمول, والكمال, والجمال, والدقة في التعبير والإحاطة بالمعاني مالا يقدر عليه إلا الله الخالق( سبحانه وتعالي) فلم يكن لأحد من البشر إدراك لهذه الحقائق الكونية إلا في العقود الثلاثة الماضية, فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد الذي تلقي هذا القرآن عن ربه, والحمد لله الذي أنزل هذا القرآن بعلمه, وحفظه بوعده وعهده.
فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار
بقلم: د. زغـلول النجـار
النص القرآني المتمم للآية الثالثة والأربعين من سورة النور نص معجز لاحتوائه علي عدد من الحقائق العلمية التي لم يدركها أهل العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وسورة النور سورة مدنية, آياتها أربع وستون, ويدور محورها الرئيسي حول عدد من التشريعات الإلهية التي تحكم سلوك المسلم, وتضبط أخلاقه ومعاملاته, وتحدد له ما يجب أن يتمسك به من آداب في كل من حياته الخاصة والعامة, كما تحدد ضوابط العلاقات في داخل الأسرة المسلمة صونا لحرماتها, وحفاظا عليها من التفكك والانهيار, انطلاقا من كونها محضن الصغار, ولبنة بناء المجتمع المسلم...!!
ولذلك أوردت سورة النور عددا من الحدود الشرعية من مثل حد الزنا, وحد القذف, وضوابط درء الشبهات كاللعان وغيرها, وذلك صونا للمجتمعات الإنسانية من الفساد والإباحية والفوضي واختلاط الأنساب.
وقد سميت السورة باسم سورة النور لورود الإشارة في الآية الخامسة والثلاثين منها إلي حقيقة أن الله( تعالي) هو نور السماوات والأرض. وتبدأ السورة الكريمة بتأكيد أنها من جوامع سور القرآن الكريم, التي أنزلها الله( تعالي) علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), وفرض فيها علي عباده فرائض ألزمهم بها, كما أنزل عددا من آياته البينات تذكرة للناس; ومن أول هذه الفرائض تحريم الزنا, ووضع الحدود الرادعة للواقعين فيه; وتبشيع هذه الجريمة بتأكيد علي أن... الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك علي المؤمنين; وتشير السورة إلي إشاعة فرية الإفك, وتجرم الخائضين فيها, وتبرئ المظلومين من دنسها, مؤكدة أن الله( تعالي) لايحب أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين.
وتحذر سورة النور من اتباع خطوات الشيطان, وتحض علي الإنفاق في سبيل الله, وتنهي عن الخوض في أعراض الناس, وعن قذف المحصنات الغافلات المؤمنات; وتؤكد أن ألسنة الخائضين في أعراض الناس وأيديهم وأرجلهم سوف تشهد عليهم يوم القيامة بما كانوا يعملون.
وتنهي سورة النور عن دخول البيوت دون استئذان وسلام علي أهلها, وتأمر بغض البصر, وحفظ الفرج, وستر العورات, وبالاحتشام وعدم التبرج بزينة, وتضع ضوابط الزواج, وتحرم البغاء واستغلال الجواري للكسب الدنيوي الرخيص من وراء هذه الجريمة غير الإنسانية وغير الأخلاقية, وتدعو إلي عتق رقاب الأرقاء, وإلي بناء المساجد, والقيام علي تطهيرها, وعمارتها, بيوتا لله في الأرض, ومنارات للهدي, ومراكز للدعوة إلي دين الله, يعبد فيها الله( تعالي) وحده( بغير شريك ولا شبيه ولا منازع), ويسبح فيها المؤمنون بحمده صباح مساء, لا يشغلهم عن ذلك شيء من شواغل الدنيا وملهياتها, أو زخارفها, وزيناتها; وذلك طمعا في مرضاة الله, وتجنبا لسخطه وغضبه; وتحسبا لأهوال يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, وتبشرهم السورة الكريمة بأن الله( تعالي) سوف يجزيهم أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله, فهو( سبحانه) يهب ما يشاء لمن يشاء, ولا حدود لعطائه...!!
وفي المقابل تؤكد سورة النور أن الكفار في الآخرة سوف يجدون أعمالهم التي اقترفوها في الدنيا( متصورين أنها أعمال نافعة) وكأنها سراب خادع, لا قيمة له ولا وزن عند الله الذي سوف يوفيهم حسابهم, والله سريع الحساب...!!
وتشبه السورة تخبط الكفار في ظلمات الشرك والكفر والضلال بالواقف في قاع بحر عميق وسط ظلمات متكاثفة تحدثها ظلمة كل من السحاب, والأمواج السطحية, والأمواج العميقة, فلا يكاد يري شيئا من حوله, وتقرر أنه:... ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وتؤكد الآيات أن جميع من في السماوات والأرض يسبح لله الذي له ملك السماوات والأرض وملك كل شيء وإليه المصير, وتصف مراحل تكون السحب الركامية وما يصاحبها من إزجاء, وتأليف وركم, وإنزال لما فيها من ماء وثلج وبرد, وحدوث للبرق, وتشير إلي تبادل الليل والنهار, وإلي خلق كل دابة من ماء, وإلي عدد من الوسائط التي تتحرك بها تلك الدواب, وكلها من الدلائل البينة علي طلاقة القدرة الإلهية.
وتحذر سورة النور من النفاق والمنافقين, وتفضح دخائل نفوسهم, وما جبلوا عليه من الكذب, والمكر, والاحتيال, والحنث في الأيمان, ونقض العهود والمواثيق,( تماما كما يفعل الصهاينة المجرمون اليوم), وتقارن بين مواقف كل من المنافقين والمؤمنين, وتأمرهم بطاعة الله ورسوله فإن أعرضوا فما علي الرسول إلا البلاغ. وتؤكد سورة النور أن وعد الله قائم للذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم, وأن يمكن لهم دينهم الذي ارتضي لهم, وأن يبدلهم من بعد خوفهم أمنا ما داموا يعبدون الله( تعالي) لا يشركون به شيئا, وأن... من كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون. وتعاود الآيات الأمر بإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول( صلي الله عليه وسلم) خاصة في الأمر بالجهاد في سبيل الله, مؤكدة أن الذين كفروا ليسوا بمعجزين في الأرض, وأن مأواهم النار وبئس المصير, كما تعاود إلي المزيد من ضوابط السلوك في البيت المسلم, وفي حضرة رسول الله( صلي الله عليه وسلم) ـوهو نموذج للتعامل مع أية قيادة إسلاميةـ وتجعل هذا الأدب في التعامل من صفات المؤمنين الملتزمين بأوامر الله ورسوله, وتحذر من مخالفة تلك الأوامر درءا لفتن الدنيا وعذاب الآخرة.
وتختتم سورة النور بالتأكيد مرة أخري أن لله ما في السماوات والأرض, وأنه( تعالي) عليم بما في قلوب خلقه( لا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء), وأنهم جميعا سوف يرجعون إليه فينبئهم بما فعلوا في الدنيا ويجازيهم بأعمالهم.
والآيات الكونية التي استشهدت بها سورة النور علي صدق ما جاء بها من حقائق وأحكام آيات عديدة منها ما يلي:
(1) حقيقة أن الله( تعالي) هو نور السماوات والأرض, وضرب المثل لهذا النور بتشبيه علمي دقيق( ولله المثل الأعلي).
(2) التشبيهات الدقيقة بظواهر السراب, وبالظلمات المركبة فوق قيعان البحار العميقة, وبحقيقة أن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
(3) تأكيد حقيقة تسبيح كل ما في السماوات والأرض لله.
(4) وصف تكون السحب الركامية والظواهر المصاحبة لتكوينها بدقة بالغة, ونسبة ظاهرة البرق إلي البرد, وهي حقيقة لم يدركها العلماء إلا في أواخر القرن العشرين.
(5) تبادل( تقليب) الليل والنهار.
(6) خلق كل دابة من ماء.
(7) الإشارة إلي إمكانية تصنيف الدواب علي أساس من طريقة مشيها.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة مستقلة, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي إنزال البرد من السحب الركامية, وعلاقة ذلك بحدوث ظاهرة البرق, وقبل الولوج في ذلك لابد من استعراض لأقوال عدد من المفسرين في شرح هذا النص القرآني المعجز.
من أقوال المفسرين
1ـ بلورات ثلج تتحول بالتدريج الى جليد
2ـ صورة مكبرة لحبيبات من البرد فى حجم حبات الخرز
3ـ صاعقة من البرق بين السحب الركامية وسطح الارض
4ـ قطاع فى سحابة ركامية بداخلها برد يتكون مسببا عاصفة برقية / رعدية
5ـ سحب ركامية
في تفسير قوله( تعالي):... وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار.
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله وينزل من السماء من جبال فيها من برد) قال بعض النحاة من) الأولي لابتداء الغاية, والثانية للتبعيض, والثالثة لبيان الجنس, ومعناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد, وأما من جعل الجبال ههنا كناية عن السحاب فإن( من) الثانية عنده لابتداء الغاية لكنها بدل من الأولي والله أعلم, وقوله تعالي فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء) يحتمل أن يكون المراد بقوله فيصيب به) أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد, فيكون قوله فيصيب به من يشاء) رحمة لهم( ويصرفه عن من يشاء) أي يؤخر عنهم الغيث, ويحتمل أن يكون المراد بقوله فيصيب به) أي بالبرد نقمة علي من يشاء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم,( ويصرفه عن من يشاء) رحمة بهم, وقوله يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته....
وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه رحمة واسعة) ما نصه:...( وينزل من السماء)( من) زائدة( جبال فيها) في السماء, بدل بإعادة الجار( من برد) أي بعضه( فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء)( يكاد) يقرب( سنا برقه) لمعانه( يذهب بالأبصار) الناظرة له أي يخطفها.
وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما نصه:... وهو في هيئة الجبال الضخمة الكثيفة فيها قطع البرد الثلجية الصغيرة... ومشهد السحب كالجبال ليبدو كما يبدو لراكب الطائرة وهي تعلو فوق السحب أو تسير بينها فإذا المشهد مشهد الجبال حقا بضخامتها, ومساقطها, وارتفاعاتها, وانخفاضاتها, وإنه لتعبير مصور للحقيقة التي لم يرها الناس, إلا بعدما ركبوا الطائرات.
وهذه الجبال مسخرة بأمر الله وفق ناموسه الذي يحكم الكون, ووفق هذا الناموس يصيب الله بالمطر من يشاء ويصرفه عن من يشاء... وتكملة المشهد الضخم( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) ذلك ليتم التناسق مع جو النور الكبير في الكون العريض, علي طريق التناسق في التصوير.
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) ما نصه:...( سنا برقه) أي شدة ضوء برق السحاب ولمعانه. يقال: سنا يسنو سنا, أي أضاء.
وجاء في المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزي الله كاتبيه خيرا) ما نصه:... والله ينزل من مجموعات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال في عظمتها بردا, كالحصي ينزل علي قوم فينفعهم أو يضرهم تبعا لقوانينه وإرادته, ولا ينزل علي آخرين كما يريد الله فهو سبحانه الفاعل المختار, ويكاد ضوء البرق الحادث من اصطكاك السحب يذهب بالأبصار لشدته, وهذه الظواهر دلائل قدرة الله الموجبة للإيمان.
وجاء في تعليق الخبراء بالهامش الملاحظتان التاليتان:
(1) لا يعرف التشابه بين السحب والجبال إلا من يركب طائرة تعلو به فوق السحاب فيراها من فوق كأنها الجبال والآكام, وإذا لم تكن تلك الطائرات موجودة في عصر النبي( صلي الله عليه وسلم) فإنه يكون ذلك دليلا علي أن هذا الكلام من عند الله الذي يعلم ما علا وما انخفض.
(2) تسبق هذه الآية الكريمة ركب العلم فإنها تتناول مراحل تكون السحب الركامية وخصائصها. وما عرف علميا في العهد الأخير من أن السحب الممطرة تبدأ علي هيئة وحدات يتألف عدد منها في مجموعات هي السحب الركامية أي السحب التي تنمو في الاتجاه الرأسي, وترتفع قممها إلي علو(15) إلي(20) كيلو مترا فتبدو كالجبال الشامخة!.
كما أن هذه السحب هي ـوحدهاـ التي تجود بالبرد, وتشحن بالكهرباء, وقد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة(40 تفريغا في الدقيقة الواحدة) فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء....
فهم النص القرآني في ضوء المعارف المكتسبة
أولا: النصف الأول من الآية الكريمة:
في النصف الأول من الآية الكريمة رقم(43) من سورة النور التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) ـوالخطاب من بعده للناس كافةـ بقوله( عز من قائل): ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فتري الودق يخرج من خلاله....
(النور:43)
سبق وأن ذكرنا في مقال سابق أن الفعل( يزجي) معناه يسوق سوقا رفيقا( من زجي الشيء, يزجيه, تزجية, وإزجاء أي دفعه برفق.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الرياح( المصرفة حسب المشيئة الإلهية) هي التي تثير السحاب, وأن السحاب في بدء استثارته يكون في كثير من الأحوال علي هيئة القطع الصغيرة المتناثرة في صفحة السماء الدنيا, ثم تأتي الرياح لتسوق هذه القطع الصغيرة المتناثرة من السحاب سوقا رفيقا( وهو الإزجاء), ولما كانت سرعة تحرك قطع السحاب الصغيرة أبطأ من سرعة الرياح التي تسوقها, فإن عملية إزجائها تستغرق وقتا من الزمن حتي تؤدي في النهاية إلي تجميعها في كتلة سحابية ضخمة, ولذلك استخدم القرآن الكريم حرف العطف ثم الذي يدل علي الترتيب مع التراخي; ويزداد بطء السحابة في تحركها كلما زادت كتلتها, وكلما قربت من منطقة التجمع( حيث يؤلف الله تعالي بينها أي يضم بعضها إلي بعض في التئام ومواءمة), وهنا تتلاحم مكونات السحب الصغيرة المجتمعة علي بعضها البعض وتمتزج امتزاجا كاملا في جسم واحد كبير( وهو المقصود بالتآلف), ومع بطء تحرك هذا التجمع السحابي الكبير تزداد سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلي داخله, ويزداد ارتفاع مكوناته إلي أعلي, ويؤدي ذلك إلي جلب مزيد من بخار الماء إلي داخله; وباستمرار ارتفاع مكونات هذا التجمع السحابي إلي مستويات عليا من نطاق المناخ( نطاق الرجع) ـحيث الانخفاض المستمر في كل من الضغط ودرجة الحرارةـ تزداد الفرص لتكثف ما به من بخار الماء, مما يزيد في سرعة التيارات الهوائية الصاعدة إلي داخل هذا التجمع من السحب, وبالتالي إلي زيادة تدفق بخار الماء إلي قلبه, وزيادة نموه, وكذلك زيادة فرصه في الارتفاع إلي أعلي علي هيئة أعداد من سلاسل السحب التي تأخذ شكل السلاسل الجبلية, ذات القمم السامقة, والتي تتعدد بتعدد التيارات الهوائية الصاعدة إلي داخلها, والمرتفعة بمكوناتها إلي أعلي مستويات تصلها قوة اندفاع تلك التيارات الصاعدة, وهذه التيارات الهوائية الصاعدة تكون في أعلي سرعاتها في وسط السحب, وتتضاءل سرعاتها علي الأطراف فيظهر تأثيرها علي هيئة النافورات المتدفقة بمائها إلي أعلي, أو فوهات البراكين الثائرة التي تلقي بملايين الأطنان من الحمم إلي أعلي فتتساقط متجمعة ومتكدسة علي جوانب المخروط البركاني, وتؤدي هذه العملية إلي إلقاء السحب بعضها فوق بعض علي جوانب تيارات الهواء الصاعدة بما فيها من بخار الماء المتكثف لتتجمع حول القمة المتكونة, وهذا هو المقصود( بالركم) لأن( الركم) في اللغة هو إلقاء الشيء بعضه فوق بعض[ من( ركم) الشيء( يركمه)( ركما)( فارتكم) و(تراكم) أي اجتمعت أجزاؤه شيئا فوق شيء فأصبح( ركاما)( مركوما) أو( مرتكما) أو( متراكما) بعضه علي بعض]; و(ركم) السحاب يؤدي إلي نموه الرأسي باستمرار علي هيئة سلسلة من القمم الجبلية المفصولة بعدد من التلال والهضاب والأودية; وكلما زاد نمو تجمعات السحب رأسيا زاد سمكها وزاد ركمها, ومن هنا كانت تسمية هذا النوع من تجمعات السحب باسم السحب الركامية( أو المركومة)
(CumuliformorHeapClouds)
وترجمة هذا التعبير الإنجليزي هو السحب المكدسة أو المتجمعة علي هيئة أكوام متراصة فوق بعضها تمييزا لها عن غيرها من أنواع السحب, وإبرازا لدور الركم في تكوينها.
ومن السحب الركامية أنواع منخفضة إلي متوسطة الارتفاع( يزيد ارتفاع قواعدها علي كيلو مترين فوق مستوي سطح البحر), ومنها السحب العالية التي تجاوز قممها الخمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر, وتتجاوز قواعدها الستة كيلو مترات فوق هذا المستوي.
ونظرا لكثرة ما بها من بللورات الثلج وحبات البرد وقطرات الماء شديدة البرودة; فإن السحب الركامية العالية المعروفة باسم السمحاق الركامي والمتوسطة المعروفة باسم السحب الركامية المتوسطة تظهر أحيانا علي شكل أعداد كبيرة من الكريات البيضاء المتراصة في صفوف منتظمة, وإن كانت تأخذ أشكالا متموجة في بعض الأحيان. وتتكون السحب الركامية المنخفضة الارتفاع والمعروفة باسم السحب الركامية المزنة والمزن الركامية علي هيئة كتل جبلية الشكل ذات نمو رأسي واضح, وقواعد أفقية تقريبا.
وتشتمل السحب الركامية علي بللورات الثلج في قممها, وعلي خليط من حبات البرد وقطرات من ماء شديد البرودة في وسطها, وعلي قطرات الماء البارد في قاعدتها; وتصاحبها عادة ظواهر البرق والرعد وهطول المطر وسقوط حبات البرد وبللورات الثلج.
ومن السحب الركامية المنخفضة ما يشبه سلاسل التلال بدلا من سلاسل الجبال لقلة سمكها نسبيا, ولتوقف عمليات الركم دون الارتفاعات المناسبة, وهي لقلة ارتفاعها لا يتكون بداخلها البرد ولا الثلج, ولا يصاحبها برق ولا رعد, وإذا أمطرت فلا ينزل منها إلا الماء.
وتتحرك السحب الركامية إلي حيث أراد الله( تعالي) لها أن تصل, وتظل عوامل الركم فيها مستمرة مادامت تيارات الهواء الصاعدة إلي قلبها مندفعة بقوة تمكنها من الاحتفاظ بحمولتها من قطيرات الماء, وحبات البرد وبللورات الثلج; وعندما تضعف قوة الرياح الصاعدة ـالتي يصرفها الله تعالي كما يصرف غيرها من أنواع الرياح بعلمه وقدرته وحكمتهـ أو عندما تزيد حمولة هذا التجمع من السحب علي قدرة حملها فإن عملية الركم تتوقف وتبدأ مكوناتها في الهبوط إلي الأرض, وأول ما ينزل منها الماء, وقد يصاحبه أو يتلوه نزول البرد الذي يتلوه نزول الثلج; ولذلك تقول الآية الكريمة... فتري الودق يخرج من خلاله....
وإلفاء من حروف العطف التي تدل علي الترتيب والتعقيب مع الاشتراك وبدونه, و(الودق) هو المطر, و(من خلاله) أي من فتوق السحاب الركامي ومخارجه, لأن( خلال) جمع( خلل) علي وزن جبال وجبل; وقد ثبت علميا أنه بتباطؤ سرعة التيارات الهوائية الصاعدة أو توقفها تتكون مناطق خلخلة في قاعدة السحب الركامية فينزل منها الماء بإرادة الله( تعالي) وتقديره أولا من مناطق الخلخلة تلك التي تظل تتسع لتشمل قاعدة السحابة بأكملها حين يسود تيار الهواء الهابط, وقد يصاحبه كل من البرد والثلج أو يتلوه تباعا, وذلك حسب ارتفاع ومكونات السحابة الركامية وتوزيع درجات الحرارة والرطوبة فيها.
ثانيا ـ النصف الثاني من الآية الكريمة:
في النصف الثاني من الآية الكريمة يقول ربنا( تبارك وتعالي):
.. وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار*( النور:43)
ومعني ذلك أنه بعد( إزجاء السحاب) أي سوقه سوقا رفيقا, و(التأليف بينه) أي ضم بعضه إلي بعض في التئام ومواءمة, وبعد( ركمه) أي تكديسه فوق بعضه بعضا بواسطة حركة التيارات الهوائية الصاعدة في داخل هذا التجمع من السحب, و(خروج الودق) أي المطر من خلاله, ينزل الله( تعالي) من السماء( أي من هذه السحب الركامية).( من جبال) أي من السحب الركامية المرتفعة التي تشبه الجبال في شكلها وارتفاعها وقممها,( فيها من برد) أي في هذه الجبال من السحب الركامية التي تعلو قممها عن خمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر يوجد البرد, والبرد لغة هو مايبرد من المطر في الهواء فيتجمد ويصلب وعلي ذلك فهو يشمل الثلج أيضا, وهما لايتكونان في الغلاف الغازي للأرض إلا في السحب الركامية, وهي توصف بأنها سحب بردة أي ذات برد وثلج, أي أن الله( تعالي) ينزل من السحب الركامية المرتفعة القمم كالجبال شيئا مما فيها من برد وثلج فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء).
ومما ينزل من السحب الركامية البرد الذي عادة ما يصاحب بالعواصف البرقية الرعدية, ويصل حجم حبيباته إلي عدة سنتيمترات في طول قطرها, وتكون في هذه الحالة ظاهرة مدمرة خاصة للنباتات ولبعض الحيوانات وبالتالي للإنسان, كما قد تصيب بعض المنشئات بأضرار بالغة, ومن هنا كان البرد من جند الله, ينزله حسب تقديره ومشيئته في المكان والزمان المحددين انتقاما من العاصين, وابتلاء للصالحين, وعبرة للناجين.
(يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) والضمير في( برقة) يعود علي البرد, بمعني أن مرد ظاهرة البرق يعود إلي( البرد) وهي حقيقة لم تدركها العلوم المكتسبة إلا في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين, و(السنا) هو الضوء الساطع, و(سنا برقه) أي شدة ضوء برقه,( ويذهب بالأبصار) أي يخطفها فيفقدها البصر بالتماعها من شدة ضوء البرق, فسبحان الذي نسب ظاهرة البرقللبرد من قبل ألف وأربعمائه سنة, ولم يدركها الإنسان إلا في أواخر القرن العشرين.
كيفية تكون البرد في داخل السحب الركامية
تصل قمم السحب الركامية عادة إلي ارتفاعات قد تتجاوز الخمسة عشر كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر( أي تتجاوز نطاق الرجع بأكمله), وفي هذه الارتفاعات الشاهقة تنخفض درجة الحرارة انخفاضا شديدا حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء, كذلك يتناقص الضغط الجوي من سطح البحر باستمرار مع الارتفاع حتي يصل إلي واحد من ألف من قيمته بعد ارتفاع مقداره48 كيلو مترا فوق مستوي سطح البحر, وتعين هذه الظروف علي تكثف بخار الماء في السحابة ونمو قطيرات الماء فيها إلي أحجام تعتبر نسبيا كبيرة, وتجمد هذه القطيرات علي هيئة بلورات الثلج في قمم السحب الركامية العالية إذا توافرت لها نوي التبلور, ويتحول في وسطها إلي خليط من البرد والماء الشديد البرودة, ويتكون البرد في درجات أقل من الصفر المئوي وحتي أربعين درجة مئوية تحت الصفر, ويتكون البرد في الأجزاء الوسطي من السحب الركامية نتيجة لسقوط بلورات الثلج من قمم تلك السحب إلي أواسطها حيث تكثر قطيرات الماء المبرد تبريدا شديدا والتي تتجمد, بمجرد اصطدامها بالكتل الثلجية الهابطة والتحامها بها أو باصطدامها مع بعضها البعض فتتكون كرات أو أقراص من الثلج غير المتبلور حول نواة من بلورة أو كتلة ثلجية, أو بدونها, وذلك لأن قطرات الماء شديدة البرودة تكون في حالة غير مستقرة, فإذا اصطدمت ببعضها البعض أو بأي جسم آخر فإنها تتجمد في الحال.
ولايهطل الثلج( الجليد) إلا في المناطق الباردة التي تصل فيها درجة الحرارة إلي مادون الصفر المئوي, وإلا مع توافر نوي التكثف الملائمة في قمم السحب الركامية.
وبللورات الثلج وكذلك حبيبات البرد تنمو بتصادمها مع بعضها البعض علي هيئة صفائح رقيقة حتي تقارب أقطارها السنتيمتر فتنزل بقدر الله وحيث يشاء إلي الأرض التي قدر أن يصيبها به.
ويتساقط الجليد في شتاء المناطق الباردة علي مساحات واسعة, ويظل ينمو علي سطح الأرض من سنتيمترات قليلة في السمك إلي عدة أمتار, ويسبب تجمعه فوق سطح الأرض هبوطا عاما في درجة الحرارة لبرودته مما يؤدي إلي برودة الجزء الملاصق له من الغلاف الغازي للأرض, ولقيامه بعكس نسبة كبيرة من الإشعاع الشمسي, ولذلك تبقي درجة حرارة الجو في المناطق المكسوة بالجليد في حدود الصفر المئوي أو دونه علي الرغم من سطوع الشمس, وقد يؤدي تراكم الجليد إلي شل حركة المواصلات, وإتلاف المحاصيل الزراعية لتكسرها بتجمع كتل الثلج فوقها, ولتمزق أوعيتها الخشبية بتجمد العصارة الغذائية فيها, وعلي الرغم من ذلك فقد يكون لنزول الثلج وما يصاحبه من ظواهر الصقيع مردودا إيجابيا علي بعض أشجار الفاكهة المتساقطة الأوراق إذ تحتاج هذه الأشجار لنجاح إثمارها ونموها إلي فترة من السكون خلال الشتاء بتساقط أوراقها وتكسر بعض فروعها مما يحفزها علي النمو والاثمار في الربيع والصيف التاليين, ولذلك قال( تعالي):
... وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء...
أي يضر به من يشاء ويصرف ضرره عمن يشاء, أو ينفع به من يشاء ويصرف نفعه عمن يشاء بعلمه وحكمته وقدرته.
ويبدأ تساقط الجليد عادة في مناطق خطوط العرض العالية ابتداء من شهر ديسمبر, ويستمر متقطعا طيلة فصل الشتاء, كما يغطي الجليد قمم الجبال العالية طيلة السنة تقريبا, ويسمي الارتفاع الذي تظهر عنده الثلوج الدائمة باسم( حد الثلج الدائم), ويتراوح ارتفاع هذا الحد بين1,2 كيلو متر في بلد شمالي كالنرويج إلي خمسة كيلو مترات ونصف الكيلو متر في بلد إفريقي مثل تنزانيا, وإلي ستة كيلو مترات ونصف الكيلو متر في بلد أمريكي جنوبي مثل المكسيك, وعندما يذوب بعض هذا الجليد الذي تراكم طوال فصل الشتاء في كل من فصلي الربيع والصيف قد يكون سببا في فيضان بعض الأنهار فيضانا مغرقا في بعض الحالات.
دور البرد في حدوث ظاهرة البرق
إلي منتصف الثمانينيات من القرن العشرين بقي تعريف البرق بأنه تفريغ كهربي بين سحابتين تحمل كل منهما شحنة كهربية مختلفة, أو بين جزءين مختلفين من سحابة واحدة كل منهما يحمل شحنة كهربية مختلفة,وإذا ما تمت عملية التفريغ الكهربي تلك بين السحب والأرض سميت الظاهرة باسم الصاعقة.
ويصاحب ظاهرة البرق انطلاق حرارة عالية قد تصل إلي عشرات الآلاف من الدرجات المئوية مما يؤدي إلي تسخين فجائي وشديد لكتل من الهواء التي ينتشر البرق فيها فتتمدد فجأة, وينتج عن تمددها سلسلة من أمواج التضاغط والتخلخل في الهواء المحلي ينتج عنها أمواج صوتية علي هيئة جلجلة أو فرقعات شديدة تظل تتردد وتنعكس بين السحب الركامية وقواعدها, وبينها وبين الغلاف الغازي للأرض أو المرتفعات المحيطة بها, أو بينها وبين سطح الأرض مباشرة, وتعرف هذه الموجات الصوتية وتردداتها ورجعها باسم الرعد.
في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين أثبتت التجارب المختبرية أنه عند انصهار الثلج تتولد شحنات كهربائية لاتتوقف حتي تتم عملية الانصهار.
وعلي العكس من ذلك أثبتت التجارب المعملية أن الماء عند تجمده من محلول ملحي يتولد تيار كهربائي مصاحب بفرق جهد كهربي ملحوظ بين كتلة الثلج والمحلول المائي المالح المغموسة فيه وعلي السطح الفاصل بينهما, وأن هذا الفرق في الجهد الكهربي يتلاشي باكتمال عملية التجمد.
كذلك ثبت أن شحنة كهربائية يمكن أن تنتقل بين بلورتين من بلورات الثلج بمجرد اصطدامهما, وقد أشارت هذه النتائج المعملية إلي إمكانية أن يكون نمو بلورات الثلج وحبيبات البرد وانصهارها داخل السحب الركامية هو أحد أسباب تولد الشحنات الكهربائية في داخل تلك السحب, وبالتالي لتكون ظاهرتي البرق والرعد فيها:
وبعد ذلك لاحظ إخصائيو الأرصاد الجوية أن تيارا كهربائيا يتولد في أثناء سقوط كل من الثلج والبرد والمطر وأنه ينساب إلي أعلي, في اتجاه معاكس لاتجاه سقوطها من السحب الركامية.
وفي منتصف الستينيات من القرن العشرين ثبت بالملاحظة تولد قوة كهربائية عند تلامس قطعتين من الثلج في درجتي حرارة مختلفتين أو عند انزلاق إحداهما علي الأخري وذلك بالتأثير الحراري, وأن وجود فقاعات هوائية حبيسة في داخل تلك البلورات الثلجية يؤثر في نوع الشحنة الكهربائية من ناحية كونها موجبة أو سالبة.
كذلك تتولد شحنات كهربائية عند تصادم قطرات الماء الشديدة البرودة مع بلورات الثلج أو حبات البرد أو مع أي خليط منهما ومعني ذلك أن شحنات كهربائية تتولد عندما يتحول الماء من حال إلي حال: من الماء شديد البرودة إلي البرد أو إلي الثلج, كما تتولد عند تصادم أو ملامسة أي من هذه الحالات مع بعضها البعض, وكلما طرأ علي كل حالة من حالات الماء الصلبة والسائلة والغازية طاريء يغير من شكلها أو حجمها, أو كتلتها, أو درجة حرارتها.
هذه التجارب والملاحظات المتكررة انتهت في الثمانينيات من القرن العشرين إلي اعتبار البرد بمعناه الشامل للماء شديد البرودة, ولحبات البرد ولبلورات الثلج, هو المولد الحقيقي لشحنات الكهرباء ومن ثم لظاهرة البرق.
وحبات البرد هي تلك الحبات الكرية وشبه الكرية التي تتكون من راقات من الثلج علي هيئة إضافات متتالية لثلج جاف غير متبلور علي هيئة الزبد فوق إحدي نوي التبلور, سواء كانت تلك النواة بلورة من الثلج أو قطعة منه أو هباءة من الغبار أو الهباب الناجم عن عمليات الاحتراق المختلفة, أو مما تقذف به البراكين عبر فوهاتها من غازات وأبخرة, أو ماينتج عن احتراق الشهب باحتكاكها بالغلاف الغازي للأرض في أجزائه العليا, أو من الأملاح المختلفة التي يمكن أن تحملها الأبخرة المتصاعدة من أسطح البحار والمحيطات, أو غير ذلك من ملوثات الهواء.
وعندما يتم تكثف بخار الماء تحت الصفر المئوي بحوالي الثلاثين درجة فإنه يتحول إلي ثلج مباشرة عند توافر نوي التكاثف الصلبة, دون مروره بمرحلة قطران الماء السائل,
أما إذا حدثت عملية التكثف في هذه الدرجات المنخفضة من الحرارة دون توافر نوي التكثف الصلبة تتكون نقط من الماء شديد البرودة الذي لايتجمد علي الرغم من الانخفاض الشديد لدرجة الحرارة إلي ما دون درجة تكون الجليد, وتظل نقط الماء الشديد البرودة تلك في حالة من عدم الاستقرار يجعلها قابلة للتجمد بمجرد تصادمها مع بعضها البعض أو مع أي جسم صلب, وبذلك يتكون البرد, وبتكونه ينشأ البرق, ويصاحبه الرعد, وتنزل الثلوج والبرد وتهطل الأمطار بإذن الله, وذلك لأن ضغط التشبع بالنسبة للماء السائل أكبر من ضغط التشبع بالنسبة إلي الثلج في نفس درجة الحرارة, ومن هنا فإن سحابة ركامية بها مقادير كافية من قطرات الماء الشديد البرودة تصبح مهيأة لإنزال المطر بإذن الله( تعالي) بمجرد تجمد تلك القطرات.
والسحابات الركامية عادة ماتكون لها قمم ناصعة البياض لتوافر بلورات الثلج فيها, وبمجرد تساقط شيء من تلك البلورات الثلجية إلي المنطقة الوسطي من السحابة وهي غنية بقطرات من الماء الشديد البرودة يبدأ البرد في التشكل, وتنشط ظاهرتا البرق والرعد, وتكون السحابة مرشحة لإنزال الماء بأمر من الله( تعالي) وبرحمة منه وفضل علي هيئة رخات قليلة تبدأ من وسط السحابة, ثم لاتلبث أن تنتشر في كل قاعدتها.
ومصدر الشحنات الكهربائية المندفعة من السحب الركامية إلي سطح الأرض وبالعكس أثناء هطول كل من الأمطار والثلوج يوجد علي ارتفاعات تكاد تنحصر بين سطحين في الغلاف الغازي للأرض تتراوح درجتي حرارتهما بين(15) درجة مئوية تحت الصفر, و(25) درجة مئوية تحت الصفر, وعلي الرغم من اختلاف أنواع السحب الركامية مكانا, وزمانا, وبناء, وفي عوامل التكوين إلا أن هذا الحيز الحراري يبقي ثابتا.
ويصحب عملية تكون كل من الثلج والبرد تخلق مجال كهربائي إذا وصل تركيز بلورات الثلج في الحيز المحصور بين(-15 م),(-25 م) إلي عشر بلورات في اللتر الواحد.
من هنا توصل العلماء في منتصف الثمانينيات من القرن العشرين إلي أن البرد بمعناه الواسع هو السبب الرئيسي في تكون ظاهرة البرق والتي يصاحبها الرعد بإذن الله( تعالي), وهي حقيقة سبق القرآن الكريم بتأكيدها من قبل ألف وأربعمائة سنة وذلك في الآية التي نحن بصددها( رقم(43) من سورة النور) التي أكدت إزجاء السحاب, ثم التأليف بينه, ثم جعله ركاما, ثم إنزال الودق من خلاله, وفصل بين المراحل الثلاث الأولي بحرف العطف( ثم) الذي يفيد الترتيب مع التراخي لأن كل مرحلة منها تستغرق فترة زمنية حتي تتم, فلما وصل إلي المرحلة الرابعة فصلها بحرف العطف( فـ) والذي من معانيه الترتيب مع التعقيب لأن نزول المطر بإذن الله( تعالي) يتم بعد إتمام عملية الركم مباشرة, وأن هذا الماء ينزل من خلال وسط قاعدة السحابة الركامية أولا وهي منطقة ضعف تنتج عن توقف اندفاع تيارات الهواء الصاعد أو ضعفها, وغلبة تيار الهواء الهابط عليها, ثم بعد ذلك ينزل من جوانب قاعدة السحابة أو منها كلها.
كذلك فإن وصف السحب الركامية بلفظ الجبال, وقصر نزول البرد عليها, وحدوث البرق بلمعانه الخاطف, ونسبة البرق إلي البرد, كل ذلك من الحقائق العلمية التي لم تصل إليها المعارف المكتسبة إلا بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلاف العلماء, ومئات السنين حتي تبلور شيء من فهم الانسان لها في العقود المتأخرة من القرن العشرين, وسبق القرآن الكريم بالاشارة إليها في آية واحدة نري فيها من الإيجاز, والشمول, والكمال, والجمال, والدقة في التعبير والإحاطة بالمعاني مالا يقدر عليه إلا الله الخالق( سبحانه وتعالي) فلم يكن لأحد من البشر إدراك لهذه الحقائق الكونية إلا في العقود الثلاثة الماضية, فصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد الذي تلقي هذا القرآن عن ربه, والحمد لله الذي أنزل هذا القرآن بعلمه, وحفظه بوعده وعهده.