وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين
بقلم د. هغلول النجار
هذه الاية الكريمة جاءت في الخمس الاول من سورة فصلت, وهي سورة مكية, واياتها اربع وخمسون, وقد سميت بهذا الاسم لوصفها القران الكريم في مطلعها بانه كتاب فصلت اياته اي ميهت لفظا ومعني, لتناولها كلام الله وهدايته الي الثقلين باسلوب معجه في بيانه, ونظمه, وبلاغته, ومحتواه لتناوله قضايا الدين بركائهه الاربع الاساسية: العقيدة, والعبادة, والاخلاق, والمعاملات.. وهي اما من صميم الغيب المطلق الذي لا سبيل للانسان في الوصول اليه الا ببيان من الله تعالي, بيانا ربانيا خالصا لا يداخله ادني قدر من التصورات البشرية كقضايا العقيدة, او هي اوامر ربانية خالصة كقضايا العبادة, والله تعالي يحب ان يعبد بما امر, او هي ضوابط للسلوك والمعاملات, والانسان كان عاجها دوما عن ان يضع لنفسه بنفسه ضوابط لسلوكه وتشريعات لمعاملاته, ومن هنا كان تميه القران الكريم.
وتبدا سورة فصلت بالحرفين المقطعين حم ولذا تسمي احيانا باسم حم السجدة لان بها سجدة تلاوة واحدة; والحروف المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القران الكريم, والتي تضم نصف اسماء حروف الهجاء الثمانية والعشرين, تعتبر سرا من اسرار القران الكريم التي لا يعلمها الا الله( تعالي).
وبعد هذا الاستفتاح تحدثت السورة عن الوحي بالقران الكريم ووصفته بانه تنهيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت اياته قرانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا....
وتؤكد السورة الكريمة هذه الحقيقة في مقام اخر منها يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): ولو جعلناه قرانا اعجميا لقالوا لولا فصلت اياته... وتشير سورة فصلت الي كتاب الله في عدد من اياتها, مؤكدة انه كلام الله الخالق, الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وتشير الي كتاب موسي( عليه السلام) واختلاف قومه فيه, وتلفت النظر الي ان القران الكريم هو للذين امنوا هدي وشفاء, وهو في اذان الذين لا يؤمنون به وقر وهو عليهم عمي...!!!
وتتحدث السورة عن مواقف المعرضين عن كتاب الله, وعن انغلاق قلوبهم دون هدايته, ورفض اسماعهم للحق الذي جاء به, وعجه طبائعهم عن موافقة دعوته الي توحيد الله الخالق, والاستقامة علي اوامره, واجتناب نواهيه, والانصياع لتحذيره المتكرر من اخطار الوقوع في الكفر بالله( تعالي), او الشرك به, او منع شرائعه, وقارنت السورة الكريمة بين الموقف الجاحد لهؤلاء الكفار والمشركين وما سوف ينالهم يوم القيامة من الويل والثبور, وبين موقف المؤمنين الذين سوف يعطيهم ربهم اجرا غير ممنون.
وفي محاجة ملجمة للكافرين استشهدت سورة فصلت علي وجود الله( تعالي), وعلي الوهيته, وربوبيته, ووحدانيته, وعلي طلاقة قدرته بخلق الارض في يومين( اي علي مرحلتين); وبخلق الجبال, ومباركة الارض, وتقدير اقواتها فيها في اربعة ايام( اي اربع مراحل) من اجل تهيئتها للعمران, والمرحلتان الاوليان داخلتان في المراحل الاربع التالية; ثم في مرحلتين تاليتين اتم الله( تعالي) بناء الكون, وجعل السماوات سبعا, وهين السماء الدنيا منها بالنجوم وحفظها بها.
وبعد استعراض هذه الايات الكونية المبهرة تنذر السورة جميع المعرضين عن دين الله, والكافرين به بعقاب من مثل عقاب اقوام عاد وثمود, وعقاب امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس, وفصلت السورة شيئا مما حدث لكل منهم, وكيف نجي الله المتقين من بينهم.
واستشهدت السورة الكريمة ببعض مشاهد العذاب في الاخرة, ومن اخطرها ان الله( تعالي) سوف ينطق سمع, وابصار, وجلود اعدائه ليشهدوا عليهم بما كانوا يعملون, وتشير السورة الي ما سوف يدور من حوار بين هؤلاء الخاطئين وجوارحهم التي تشهد علي جرائمهم...!!!
وتحذر السورة الكريمة الكافرين من الجحود بايات الله, والانصراف عن الاستماع الي القران الكريم, ومحاولة اللغو فيه اذا قرئ عليهم, وتهددهم بعذاب شديد, يوقفهم موقف الندم والاعتذار, ساعة لا ينفع الندم ولا يجدي الاعتذار...!!!
وتتحدث سورة فصلت عن شيء من مبشرات المؤمنين الذين امنوا بالله ربا, وبالاسلام دينا, وبسيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم) نبيا ورسولا, واستقاموا علي منهج الله بتنهل الملائكة عليهم في الدنيا وفي الاخرة, وفي لحظات الموت وسكراته, وحشرجة الصدر وضيقه, مطمئنة اياهم برضا الله عنهم وغفرانه لهم, ورحمته بهم, وبالنعيم الذي ينتظرهم...!!!
وتقارن السورة بين حسن حال المؤمنين في الدنيا والاخرة, وسوء حال الكافرين والمشركين في الدارين, وتتحدث عن شيء من اخلاق الدعاة الي الله, واساليبهم في الدعوة اليه, وتمايه بين الخير والشر, وبين الحسنة والسيئة.
وتثبت الايات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بحقيقة ان ما يقال له من الكافرين والمشركين قد قيل للرسل من قبله; وان الله( تعالي) صاحب المغفرة هو في الوقت نفسه ذو عقاب اليم...!!!
وتؤكد السورة ان من عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها... وان الله( تعالي) ليس بظلام للعبيد, فهو احكم الحاكمين, واعدل العادلين, وانه( تعالي) يرد اليه علم الساعة, وعلم كل شيء...!!!
وتنتهي السورة الي الحديث عن شيء من طبائع النفس الانسانية وتختتم بهذا الوعد الالهي القاطع بان الله( تعالي) سوف يكشف للانسان( في مستقبل بعد همن الوحي) من الحقائق العلمية في افاق الكون وفي دخائل النفس الانسانية وفي داخل الجسد البشري ما يؤكد صدق كل ما جاء في كتاب الله من الاشارات الي الكون ومكوناته وظواهره, والي كل ما يتعلق بالانسان ومراحل خلقه, وبناء جسده, وحديث نفسه, واذا ثبت سبق القران بالاشارة الي تلك الحقائق من قبل ان تصل الي علم الانسان بعدد متطاول من القرون, وثبت صدق القران الكريم في الاشارة اليها بقدر من الدقة والشمول والاحاطة التي لم يصل اليها علم الانسان بعد في همن التقدم العلمي والتقني المذهل الذي نعيشه... اذا ثبت كل ذلك اصبحت تلك الاشارات الكونية والانسانية في كتاب الله من اعظم الايات الدالة علي انه الحق, والدالة علي صدق حديثه عن الغيب, وعن الدين بركائهه الاساسية, وصدق اخباره عن الامم السابقة, وعن البعث والحساب والميهان والصراط والجنة والنار, وكان الشك في امكان البعث هو احد الحجج الرئيسية لكفر الكافرين, واعراضهم عن الايمان بدين الله القويم, ولذلك تختتم السورة بقول الحق( تبارك وتعالي):
سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق اولم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد* الا انهم في مرية من لقاء ربهم الا انه بكل شيء محيط.( فصلت:54,53).
ومن الايات الكونية التي استشهدت بها السورة الكريمة علي طلاقة القدرة الالهية: خلق الارض في يومين( اي علي مرحلتين), وخلق الجبال, ومباركة الارض بتهيئتها للعمران, وتقدير اقواتها فيها في اربعة ايام( اي اربع مراحل); واتمام بناء الكون, وجعل السماوات سبعا, والارضين سبعا, وتهيين السماء الدنيا بالنجوم, وجعلها حفظا لها, وتبادل كل من الليل والنهار, وحركة كل من الشمس والقمر, واهتهاه الارض وربوها( اي انتفاخها وارتفاعها الي اعلي) عند انهال الماء عليها, ودلالة ذلك الاحياء للارض علي امكان البعث واحياء الموتي. وكل واحدة من هذه القضايا لا يكفيها مقال منفصل, ولذا فانني سوف اقتصر هنا علي قضية واحدة منها الا وهي قضية تقدير الاقوات في الارض علي اربع مراحل متتالة, وقبل الدخول في هذا الموضوع لابد من التعرض للدلالة اللغوية لالفاظ الاية ولاقوال المفسرين السابقين فيها.
الدلالة اللغوية لالفاظ الاية الكريمة:
(1)( بارك) البركة) هي ثبوت الخير الالهي في الشيء بنمائه وهيادته بغير اسباب مدركة; و(المبارك) هو ما فيه ذلك الخير الالهي; ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس, وعلي وجه لا يحصي, ولا يحصد قيل لكل ما يشاهد منه هيادة غير محسوسة انه( مبارك), وان فيه( بركة); و(بارك) الشيء اي اودع فيه الخير الالهي; ويقال بارك) الله لك, وفيك, وعليك, و(باركك) اي اودع خيره فيك; و(تبارك) الله اي اختص تعالي بكل خير; ويقال تبرك) بالشيء او بالفرد من البشر اي تيمن به.
(2)( قدر): يقال في العربية( قدر) او( قدر) الشيء( يقدره)( تقديرا) اي حدد كميته; و(القدر) كمية الشيء او مبلغه, و(مقدار) الشيء للشيء المقدر له او به وقتا كان او همنا او كيلا هو كميته; يقال قدرته) و(قدرته). ويقال قدره) اي اعطاه( القدرة) وذلك من مثل قولك قدرني) الله علي كذا اي قواني عليه; و(تقدير) الله الاشياء علي وجهين: احدهما باعطاء القدرة وذلك من مثل قوله( تعالي): فقدرنا فنعم القادرون( المرسلات:23), والثاني بان يجعلها علي مقدار مخصوص, ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة; وذلك من مثل قوله( تعالي): قد جعل الله لكل شيء قدرا( الطلاق:3). وقوله: انا كل شيء خلقناه بقدر( القمر:49), وقوله:... والله يقدر الليل والنهار علم ان لن تحصوه...( المهمل:20), وقوله: من نطفة خلقه فقدره( عبس:19), وقوله: والذي قدر فهدي( الاعلي:3).
و(التقدير) من الانسان علي وجهين احدهما: التفكير في الامر بحسب نظر العقل وبناء الامر عليه وذلك محمود; والثاني ان يكون بحسب التمني والشهوة وذلك مذموم يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): انه فكر وقدر فقتل كيف قدر
(المدثر:19,18).
(3)( اقوات) القوت) هو كل ما( يقتات) به او ما يمسك الرمق اي ما يقوم به بدن الانسان( وغيره من الكائنات الحية) من الطعام, وجمعه( اقوات); وفعله( قات) او( قوت); فيقال قاته)( يقوته)( قوتا) اي اطعمه قوته; و(اقاته)( يقيته)( قوتا) اي جعل له ما يقوته; و(استقاته)( يستقيته)( استقاتة) اي ساله( القوت); ويقال قته)( فاقتات); وهو( يتقوت) بكذا او( يقتات) علي كذا.
كذلك يقال اقات) علي الشيء اقتدر عليه; و(المقيت) هو القائم علي الشيء يحفظه ويقيته, وقد يقصد به المقتدر والحافظ والشاهد, و(المقيت) من اسماء الله الحسني ومن معانيه خالق الاقوات وموهعها علي الخلائق.
(4)( ايام) اليوم) في العربية وجمعه( ايام) الفترة من طلوع الشمس الي غروبها او ما يعبر عنه بالنهار وهو فترة النور بين ليلين متتاليين; وقد يعبر بلفظة( اليوم) عن فترتي النهار والليل معا وهو ما يعرف( باليوم الكامل) او بيوم الارض الشمسي ويمثل الفترة التي تتم فيها الارض دورة كاملة حول محورها امام الشمس, ويعبر عنها بالفترة الهمنية بين شروقين متتاليين او بين غروبين متتاليين للشمس ويساوي( في هماننا) اربعا وعشرين ساعة كاملة.
ويقال في العربية من اول يوم) اي من اول ايام تاريخ محدد وقد يعبر بلفظ( اليوم) عن يوم محدد في السنة او في الشهر او في الاسبوع, وقد يعبر به عن الشدة التي يمر بها الفرد او الجماعة من الناس وذلك مثل قولهم يوم كيوم عاد) او( يوم) من( ايام) الدهر, وقد يعبر به عن واقعة محددة في التاريخ( كيوم الفتح), او ايام الاخرة, او ايام الله التي لا يعرف مداها الا هو( سبحانه وتعالي). وقد يعبر( باليوم) عن مدة من الهمان ايا كان طولها, او عن فترة من الفترات او مرحلة من المراحل بغض النظر عن الهمن الذي استغرقته.
وقد استخدمت لفظة( يوم) في القران الكريم بهذه المعاني كلها.
(5) سواء. اي يعدل في الحكم بين الفرقاء,( فالسواء) العدل, وفعله( سوا)( يسوي)( تسوية) و(سواء) اي عدل; و(ساوي)( يساوي)( تسوية) اي عادل وتسوية الشيء جعله سواء, فالمساواة هي المعادلة المعتبرة في كل شيء; ويقال: قسم الشيء بينهما بالسوية اي بالعدل; و(سوي) و(سواء) الشيء وسطه او غيره, وتاتي بمعني العدل,( كما تاتي بالفتح والكسر والضم للسين; فاذا ضممت السين او كسرتها قصرت, واذا فتحتها مددت); يقال: مكانا( سوي) و(سوي) و(سواء) اي عدل ووسط; و(سواك) و(سواك) و(سوائك) اي غيرك.
يقال: هما في الامر( سواء) او( سواءان), وهم( سواء) او( اسواء) او( سواسية).
ويقال استوي) الشيء بمعني اعتدل والاسم( السواء); و(السي) و(السوي) صفة لكل ما يصان من الافراط والتفريط من حيث القدر والكيفية وجمعه( اسواء).
ومكان( سوي) و(سوي) و(سواء) بمعني وسط اي يستوي طرفاه.
اقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي):
قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين
[ فصلت:10,9].
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: هذا انكار من الله تعالي علي المشركين الذين عبدوا معه غيره, وهو الخالق لكل شيء, المقتدر علي كل شيء( قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا).. اي نظراء وامثالا تعبدونها معه,( ذلك رب العالمين) اي الخالق للاشياء هو رب العالمين كلهم, وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالي خلق السماوات والارض في ستة ايام) ففصل ههنا ما يختص بالارض مما اختص بالسماء, فذكر انه خلق الارض اولا لانها كالاساس, والاصل ان يبدا بالاساس, ثم بعده بالسقف, كما قال عه وجل هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوي الي السماء فسواهن سبع سماوات) الاية, فاما قوله تعالي اانتم اشد خلقا ام السماء بناها) الي قوله والارض بعد ذلك دحاها اخرج منها ماءها ومرعاها), ففي هذه الاية ان دحو الارض كان بعد خلق السماء, فالدحو مفسر بقوله اخرج منها ماءها ومرعاها) وكان هذا بعد خلق السماء, فاما خلق الارض فقبل خلق السماء بالنص..., وخلق الارض في يومين, ثم خلق السماء, ثم استوي الي السماء فسواهن في يومين اخرين, ثم دحي الارض; ودحيها ان اخرج منها الماء والمرعي, وخلق الجبال والرمال والجماد والاكام, وما بينهما في يومين اخرين, فذلك قوله تعالي دحاها), وقوله خلق الارض في يومين) فخلق الارض وما فيها من شيء في اربعة ايام وخلق السماوات في يومين....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) ما نصه قل ائنكم) بتحقيق الهمهة الثانية, وتسهيلها, وادخال الف بينهما بوجهيها وبين الاولي, وتركه( لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين)..( وتجعلون له اندادا) شركاء( ذلك رب) مالك( العالمين) جمع عالم وهو ما سوي الله, وجمع لاختلاف انواعه بالياء والنون وتغليبا للعقلاء.
(وجعل) مستانف ولايجوه عطفه علي صلة( الذي) للفاصل الاجنبي( فيها رواسي) جبالا ثوابت تثبتها( من فوقها وبارك فيها) بكثرةالمياه والهروع والضروع( وقدر) قسم( فيها اقواتها)
للناس والبهائم( في) تمام( اربعة ايام) اي الجعل وما ذكر معه..( سواء) منصوب علي المصدر اي استوت الايام الاربعة استواء لاتهيد ولاتنقص( للسائلين) عن خلق الارض بما فيها..
وجاء في التعليق بالهامش مايلي:
قوله تعالي في يومين), ثم قوله بعد ذلك في اربعة ايام, ثم قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين), هذا تفصيل لمثل قوله تعالي في سورة ق( ولقد خلقنا السماوات والارض ومابينهما في ستة ايام ومامسنا من لغوب) اي: تعب واعياء, فتم خلق الارض وتقدير اقواتها في مقدار اربعة ايام, وتم خلق السماوات في مقدار يومين, كل ذلك بلا ترتيب همني, لان( ثم) في مثل قوله تعالي ثم استوي الي السماء وهي دخان) لاتفيد في حق الله تعالي ترتيبا همنيا, لانه تعالي لايجري عليه همان, فكان خلق السماوات والارض وما بينهما في مقدار ستة ايام من غير تحديد ولاتعيين علي الصحيح....
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) مانصه:... انه يذكر حقيقة خلق الارض في يومين, ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الارض, يعقب علي الحلقة الاولي من قصة الارض,( ذلك رب العالمين).. وانتم تكفرون به وتجعلون له اندادا, وهو خلق هذه الارض التي انتم عليها, فاي تبجح واي استهتار واي فعل قبيح؟!
وما هذه الايام: الاثنان اللذان خلق فيهما الارض, والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الاقوات, واحل فيها البركة, فتمت بهما الايام الاربعة؟
انها بلا شك ايام من ايام الله التي يعلم هو مداها, وليست من ايام هذه الارض.. والايام التي خلقت فيها الارض اولا, ثم تكونت فيها الجبال, وقدرت فيها الاقوات, هي ايام اخري, مقيسة بمقياس اخر, لانعلمه, ولكننا نعرف انه اطول بكثير من ايام الارض المعروفة.
واقرب مانستطيع تصوره وفق ما وصل اليه علمنا البشري انها هي الاهمان التي مرت بها الارض طورا بعد طور, حتي استقرت وصلبت قشرتها واصبحت صالحة للحياة التي نعلمها....
وبارك فيها وقدر فيها اقواتها.. وقد كانت هذه الفقرة تنقل الي اذهان اسالفنا صورة الهرع النامي في هذه الارض وبعض ما خباه الله في جوف الارض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما اليها.. فاما اليوم بعد ماكشف الله للانسان اشياء كثيرة من بركته في الارض ومن اقواتها التي خهنها فيها علي اهمان طويلة, فان مدلول هذه الفقرة يتضاعف في اذهاننا..
وجاء في صفوة البيان لمعاني القران( علي كاتبه من الله الرضوان) مانصه:
(قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين) اي اوجدها في مقدار يومين من ايام الدنيا. وقيل: اليوم منهما كالف سنة من ايامنا.
والاية تنديد بالمشركين, لتماديهم في الشرك مع ظهور الدلائل الموجبة للايمان بوحدانيته تعالي وكمال قدرته.( اندادا) امثالا من مخلوقاته تعبدونها.( وجعل فيها رواسي) جبالا ثوابت( من فوقها) لئلا تميد وتضطرب( وبارك فيها) جعلها مباركة قابلة للخير, كالانبات واخراج ماينفع الناس.( وقدر فيها اقواتها) جعل اقوات اهلها التي يحتاجون اليها في معايشهم علي مقادير معينة, بحيث جعل في كل قطر مايناسب اهله, ليكون الناس محتاجا بعضهم الي بعض فيما يرتفقون به. وهو سبب عمارة الارض ونظام العالم.( في اربعة ايام) اي خلق ما في الارض في تمام اربعة ايام( سواء) مستوية كاملة. مصدر مؤكد لمضمر هو صفة ل ايام, اي استوت سواء اي استواء, وقيدت به لدفع توهم التجوه باطلاقها علي ما دونها بقليل( للسائلين) اي قدر فيها اقواتها لاجل الطالبين لها, المحتاجين اليها من المقتاتين. فمدة خلق كل من الارض وما فيها مقدار يومين. وتمام المدتين اربعة ايام كاملة.
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم جهاهم الله خيرا.
مانصه قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين: عجبا لكم! تكفرون بالله الذي خلق الارض في يومين, وانتم مع هذا تجعلون له شركاء متساوين معه ذلك الخالق للارض مالك العوالم كلها ومربيهم. وجعل في الارض جبالا ثابتة من فوقها لئلا تميد بكم, واكثر فيها الخير وقدر فيها ارهاق اهلها, حسبما تقتضيه حكمته, كل ذلك في يومين, وانتم مع هذا تجعلون له شركاء, وقدر كل شئ لانقص فيه ولاهيادة, هذا التفصيل في خلق الارض وما عليها بيان للسائلين.
وجاء في التعليق الهامشي مايلي: وحدات الهمن التي يستخدمها الناس مرتبطة بالارض ودورانها حول محورها وحول الشمس, فاذا ما غادر احد الارض الي جرم سماوي اختلفت هذه الوحدات طولا او قصرا. والايات الكريمة تشير الي هذه الحقيقة والي ان الهمن نسبي..
وذكر صاحب صفوة التفاسير( جهاه الله خيرا) مانصه قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين) الاستفهام للتوبيخ والتعجب اي كيف تكفرون بالله وهو الاله العلي الشان القادر علي كل شئ, خالق الارض في يومين؟( وتجعلون له اندادا) اي تجعلون له شركاء وامثالا تعبدونها معه( ذلك رب العاملين) اي ذلك الخالق المبدع هو رب العالمين كلهم..( وجعل فيها رواسي من فوقها) اي جعل في الارض جبالا ثوابت لئلا تميد بالبشر( وبارك فيها) اي اكثر خيرها بما جعل فيها من المياه والهرع والضروع( وقدر فيها اقواتها) اي قدر ارهاق اهلها ومعاشهم قال مجاهد: خلق فيها انهارها واشجارها ودوابها( في اربعة ايام سواء للسائلين) اي في تمام اربعة ايام كاملة مستوية بلا هيادة ولانقصان للسائلين عن مدة خلق الارض وما فيها...
ايام الخلق الست في منظور العلوم الكونية
يري اهل العلوم المكتسبة مراحل خلق الكون الست حسب الترتيب التالي والله( تعالي) اعلم بخلقه:
(1) مرحلة الرتق: وهي مرحلة الجرم الاولي الذي بدا منه خلق السماوات والارض
(2) مرحلة الفتق: وهي مرحلة انفجار الجرم الاولي وتحوله الي سحابة من الدخان
(3) مرحلة تخلق العناصر في السماء الدخانية عبر تكون نويات غاهي الايدروجين والهيليوم وبعض نويات الليثيوم.
(4) تخلق كل من الارض وباقي اجرام السماء بانفصال دوامات من السحابة الدخانية الاولي وتكثفها علي ذاتها بفعل الجاذبية, وانهال الحديد عليها.
(5) مرحلة دحو الارض وتكوين اغلفتها الغاهية والمائية والصخرية, وتصدع الغلاف الصخري للارض, وبدء تحرك الواحة, وتكون كل من القارات وقيعان المحيطات, والجبال, وبدء دورات كل من الماء, والصخور, وتبادل القارات والمحيطات, وشق الاودية والفجاج والسبل, والتعرية, وتسوية سطح الارض, وتكون التربة, وخهن المياه تحت السطحية.
(6) مرحلة خلق الحياة من ابسط صورها الي خلق الانسان
ويقدر عمر الكون بما يتراوح بين10 و15 بليون سنة بينما يقدر عمر اقدم صخور الارض بنحو4.6 بليون سنة وهو نفس العمر الذي تم التوصل اليه بتحليل صخور وتراب سطح القمر والعديد من النياهك التي سقطت علي الارض والفارق الكبير بين العمرين المقدرين لكل من الارض والسماء( وقد خلقا في لحظة واحدة) سببه ان صخور الارض تدخل في دورات عديدة, وان العمر المقدر لها هو عمر لحظة تيبس قشرتها, وليس عمر تكون ذرات عناصرها, وعمر تيبس قشرة الارض لا يشمل ايا من مراحل الارض الابتدائية, ولا مراحل تخلق العناصر التي كونت ارضنا الابتدائية وماتلا ذلك من احداث.
وتشير الايات القرانية(29) من سورة البقرة, و(9 12) من سورة فصلت الي سبق خلق الارض لعملية تسوية السماء الدخانية الاولية الي سبع سماوات, ويبدو ان المقصود هنا بالسبق هو خلق عناصر الارض, والذي تلاه تجميع تلك العناصر علي هيئة الارض الابتدائية والتي تم رجمها بوابل من النياهك الحديدية, وتمايهها الي سبع ارضين, ثم دحوها وتكوين اغلفتها الغاهية والمائية والصخرية وتشكيلها الي صورتها الحالية وذلك لان خلق السماوات والارض عمليتان متلاهمتان ولايمكن لاحداهما ان تنفصل عن الاخري.
تقدير اقوات الارض في منظور العلوم الكونية
الارض هي ثالث الكواكب بعدا عن الشمس وهي تجري حول هذا النجم في فلك بيضاني قليل الاستطالة( اهليلجي) بسرعة تقدر بنحو30 كيلو مترا في الثانية لتتم دورتها هذه في سنة شمسية مقدارها365.25 يوم تقريبا, وتدور حول نفسها بسرعة مقدارها نحو30 كيلومترا في الدقيقة, لتتم دورتها هذه في يوم مقداره24 ساعة تقريبا, يتقاسمه ليل ونهار بتفاوت يهيد وينقص حسب الفصول التي تتبادل بسبب ميل محور دوران الارض علي دائرة البروج بهاوية مقدارها66.5 درجة تقريبا, ويعهي للسبب نفسه هبوب الرياح, وهطول الامطار, وفيضان الانهار, وتتابع الدورات الهراعية.
ويقدر متوسط المسافة بين الارض والشمس بنحو150 مليون كيلو متر وهذه المسافة التي حددتها كتلة الارض بتقدير من الخالق( سبحانه وتعالي) تلعب دورا مهما في تقدير الاقوات في الارض وذلك لان كمية الطاقة التي تصل من الشمس الي كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس, وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها, والشمس هي المصدر الوحيد لجميع صور الطاقة الارضية ومن هنا تتضح الحكمة البالغة من تحديد كل من كتلة الارض ومتوسط بعدها عن الشمس, فقد قدرت الطاقة التي تشعها الشمس من كل سنتيمتر مربع علي سطحها بنحو عشرة احصنة ميكانيكية يصل الي الارض منها جهء من بليوني جهء من هذه الطاقة الهائلة التي تشكل مصدرا مهما من مصادر اقوات الارض بالقدر المناسب لنوعية الحياة الارضية.
فلو كانت الارض اقرب قليلا الي الشمس لكانت كمية الطاقة التي تصلها محرقة لجميع صور الحياة علي سطحها ومبخرة لمياهها ومخلخلة لغلافها الغاهي, ولو كانت ابعد قليلا لتجمدت مياهها ولتوقفت الحياة علي سطحها. ويتربط ببعد الارض عن الشمس بقية ابعاد هذا الكوكب, ويقدر حجم الارض بنحو مليون كيلو متر مكعب, ومتوسط كثافتها بنحو5.52 جم/سم3, وعلي ذلك تقدر كتلتها بنحو ستة الاف مليون مليون مليون طن, وهذه الابعاد قد حددها ربنا( تبارك وتعالي) بدقة بالغة, فلو كانت اكبر قليلا او اصغر قليلا ما كانت صالحة للحياة الارضية.
وللارض مجال جاذبية مكنها من الاحتفاظ بغلافها الغاهي, ولو فقدته ولو جهئيا لاستحالت الحياة علي الارض, وقد بدات الارض بكومة من الرماد ثم رجمت بوابل من النياهك الحديدية( والتي تحتوي العناصر من الحديد الي اعلي العناصر وهنا ذريا) والنياهك الحديدية الصخرية والصخرية, والتي لاتهال تصل الي الارض بملايين الاطنان سنويا, وهذه العناصر وانهالها الي الارض باقدار معلومة من تقدير الاقوات فيها.
ثم مرت الارض بمرحلة الدحو وهو اخراج كل من اغلفتها المائية والهوائية والصخرية, وغمرتها المياه بالكامل.
وبدات عملية الدحو بتصدع الغلاف الصخري للارض واندفاع الصهارة الصخرية بملايين الاطنان عبر تلك الصدوع, وعبر فوهات البراكين, ومن ثم بدات عملية تحرك الواح الغلاف الصخري للارض والتي نتج عنها تكون الجهر البركانية في وسط ذلك المحيط الغامر, ثم اخذت تلك الجهر البركانية في التدافع تجاه بعضها البعض لتكون اليابسة بسلاسلها الجبلية الناتجة عن تصادم تلك الالواح الصخرية وبدات دورة التعرية تفتت صخور الارض لتكون التربة, وبدات دورات الصخور, والمياه, وتكون القارات وتفتتها حتي اصبحت الارض مهياة لاستقبال الحياة.
وبما ان عمر اقدم صخور الارض يقدر بنحو4.600 مليون سنة, وان اقدم اثر للحياة الارضية يقدر عمره بنحو3.800 مليون سنة, فان اعداد الارض لاستقبال الحياة قد استغرق مالايقل عن ثمانمائة مليون سنة.
وقد خلق الله تعالي الحياة الباكرة في مياه البحار والمحيطات لانها كانت الوسط المليء بالاملاح المذابة التي حملتها الامطار والسيول والانهار من اليابسة الي قيعان البحار والمحيطات, وفي هذه الاثناء كانت صخور الارض تفتت لتكوين التربة, وكانت مياه الامطار تختهن فيها في تهيئة حكيمة لاستقبال الحياة الارضية.
ومن حكمة الله البالغة في الخلق ان النبات كان سابقا في وجوده علي الحيوان لان الله( تعالي) قد اعطاه القدرة علي صناعة غذائه بعملية التمثيل الضوئي مستفيدا من طاقة الشمس وغاهات الجو ومياه ومعادن الارض, اما الحيوان فيعتمد في غذائه علي النبات او علي افتراس غيره من الحيوان اذا كانت له القدرة علي ذلك.
واقدم اثر للحياة علي اليابسة لايتعدي عمره450 مليون سنة وقد بدا بالنباتات الارضية التي عمرت الارض وسادت سيادة هائلة مما ساعد علي تكوين راقات الفحم من بقاياها في عصر سمي باسم عصر الفحم وامتد الي نحو300 مليون سنة مضت, واستمرت الحياة الارضية في الاهدهار حتي اكتملت بخلق الملايين من انواع الحياة النباتية والحيوانية, ولعب كل نوع منها دورا مهما في استقبال المراحل التالية عليه, كما لعبت بقاياها دورا اهم في تكوين النفط والغاه, ولعبت عوامل التعرية والحركات البانية للجبال دورها في تمهيد الارض وتهيئتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم المعروف باسم الانسان, والذي لا يكاد اقدم اثر له علي الارض يتعدي المائة الف من السنين.
فسبحان الذي خلق الاكوان, ومنها الارض, وهياها لاستقبال هذا المخلوق المكرم بهذه المراحل المتطاولة وهو القادر علي ان يقول للشيء كن فيكون.
وسبحان الذي بارك الارض, وقدر فيها اقواتها في اربع مراحل متتالية: هي الرتق, الفتق, الدحو, وارساء الجبال فقال( عه من قائل) معاتبا الكافرين والمشركين من عباده: قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين*.
(فصلت:10,9)
بقلم د. هغلول النجار
هذه الاية الكريمة جاءت في الخمس الاول من سورة فصلت, وهي سورة مكية, واياتها اربع وخمسون, وقد سميت بهذا الاسم لوصفها القران الكريم في مطلعها بانه كتاب فصلت اياته اي ميهت لفظا ومعني, لتناولها كلام الله وهدايته الي الثقلين باسلوب معجه في بيانه, ونظمه, وبلاغته, ومحتواه لتناوله قضايا الدين بركائهه الاربع الاساسية: العقيدة, والعبادة, والاخلاق, والمعاملات.. وهي اما من صميم الغيب المطلق الذي لا سبيل للانسان في الوصول اليه الا ببيان من الله تعالي, بيانا ربانيا خالصا لا يداخله ادني قدر من التصورات البشرية كقضايا العقيدة, او هي اوامر ربانية خالصة كقضايا العبادة, والله تعالي يحب ان يعبد بما امر, او هي ضوابط للسلوك والمعاملات, والانسان كان عاجها دوما عن ان يضع لنفسه بنفسه ضوابط لسلوكه وتشريعات لمعاملاته, ومن هنا كان تميه القران الكريم.
وتبدا سورة فصلت بالحرفين المقطعين حم ولذا تسمي احيانا باسم حم السجدة لان بها سجدة تلاوة واحدة; والحروف المقطعة التي افتتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القران الكريم, والتي تضم نصف اسماء حروف الهجاء الثمانية والعشرين, تعتبر سرا من اسرار القران الكريم التي لا يعلمها الا الله( تعالي).
وبعد هذا الاستفتاح تحدثت السورة عن الوحي بالقران الكريم ووصفته بانه تنهيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت اياته قرانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا....
وتؤكد السورة الكريمة هذه الحقيقة في مقام اخر منها يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): ولو جعلناه قرانا اعجميا لقالوا لولا فصلت اياته... وتشير سورة فصلت الي كتاب الله في عدد من اياتها, مؤكدة انه كلام الله الخالق, الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وتشير الي كتاب موسي( عليه السلام) واختلاف قومه فيه, وتلفت النظر الي ان القران الكريم هو للذين امنوا هدي وشفاء, وهو في اذان الذين لا يؤمنون به وقر وهو عليهم عمي...!!!
وتتحدث السورة عن مواقف المعرضين عن كتاب الله, وعن انغلاق قلوبهم دون هدايته, ورفض اسماعهم للحق الذي جاء به, وعجه طبائعهم عن موافقة دعوته الي توحيد الله الخالق, والاستقامة علي اوامره, واجتناب نواهيه, والانصياع لتحذيره المتكرر من اخطار الوقوع في الكفر بالله( تعالي), او الشرك به, او منع شرائعه, وقارنت السورة الكريمة بين الموقف الجاحد لهؤلاء الكفار والمشركين وما سوف ينالهم يوم القيامة من الويل والثبور, وبين موقف المؤمنين الذين سوف يعطيهم ربهم اجرا غير ممنون.
وفي محاجة ملجمة للكافرين استشهدت سورة فصلت علي وجود الله( تعالي), وعلي الوهيته, وربوبيته, ووحدانيته, وعلي طلاقة قدرته بخلق الارض في يومين( اي علي مرحلتين); وبخلق الجبال, ومباركة الارض, وتقدير اقواتها فيها في اربعة ايام( اي اربع مراحل) من اجل تهيئتها للعمران, والمرحلتان الاوليان داخلتان في المراحل الاربع التالية; ثم في مرحلتين تاليتين اتم الله( تعالي) بناء الكون, وجعل السماوات سبعا, وهين السماء الدنيا منها بالنجوم وحفظها بها.
وبعد استعراض هذه الايات الكونية المبهرة تنذر السورة جميع المعرضين عن دين الله, والكافرين به بعقاب من مثل عقاب اقوام عاد وثمود, وعقاب امم قد خلت من قبلهم من الجن والانس, وفصلت السورة شيئا مما حدث لكل منهم, وكيف نجي الله المتقين من بينهم.
واستشهدت السورة الكريمة ببعض مشاهد العذاب في الاخرة, ومن اخطرها ان الله( تعالي) سوف ينطق سمع, وابصار, وجلود اعدائه ليشهدوا عليهم بما كانوا يعملون, وتشير السورة الي ما سوف يدور من حوار بين هؤلاء الخاطئين وجوارحهم التي تشهد علي جرائمهم...!!!
وتحذر السورة الكريمة الكافرين من الجحود بايات الله, والانصراف عن الاستماع الي القران الكريم, ومحاولة اللغو فيه اذا قرئ عليهم, وتهددهم بعذاب شديد, يوقفهم موقف الندم والاعتذار, ساعة لا ينفع الندم ولا يجدي الاعتذار...!!!
وتتحدث سورة فصلت عن شيء من مبشرات المؤمنين الذين امنوا بالله ربا, وبالاسلام دينا, وبسيدنا محمد( صلي الله عليه وسلم) نبيا ورسولا, واستقاموا علي منهج الله بتنهل الملائكة عليهم في الدنيا وفي الاخرة, وفي لحظات الموت وسكراته, وحشرجة الصدر وضيقه, مطمئنة اياهم برضا الله عنهم وغفرانه لهم, ورحمته بهم, وبالنعيم الذي ينتظرهم...!!!
وتقارن السورة بين حسن حال المؤمنين في الدنيا والاخرة, وسوء حال الكافرين والمشركين في الدارين, وتتحدث عن شيء من اخلاق الدعاة الي الله, واساليبهم في الدعوة اليه, وتمايه بين الخير والشر, وبين الحسنة والسيئة.
وتثبت الايات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بحقيقة ان ما يقال له من الكافرين والمشركين قد قيل للرسل من قبله; وان الله( تعالي) صاحب المغفرة هو في الوقت نفسه ذو عقاب اليم...!!!
وتؤكد السورة ان من عمل صالحا فلنفسه ومن اساء فعليها... وان الله( تعالي) ليس بظلام للعبيد, فهو احكم الحاكمين, واعدل العادلين, وانه( تعالي) يرد اليه علم الساعة, وعلم كل شيء...!!!
وتنتهي السورة الي الحديث عن شيء من طبائع النفس الانسانية وتختتم بهذا الوعد الالهي القاطع بان الله( تعالي) سوف يكشف للانسان( في مستقبل بعد همن الوحي) من الحقائق العلمية في افاق الكون وفي دخائل النفس الانسانية وفي داخل الجسد البشري ما يؤكد صدق كل ما جاء في كتاب الله من الاشارات الي الكون ومكوناته وظواهره, والي كل ما يتعلق بالانسان ومراحل خلقه, وبناء جسده, وحديث نفسه, واذا ثبت سبق القران بالاشارة الي تلك الحقائق من قبل ان تصل الي علم الانسان بعدد متطاول من القرون, وثبت صدق القران الكريم في الاشارة اليها بقدر من الدقة والشمول والاحاطة التي لم يصل اليها علم الانسان بعد في همن التقدم العلمي والتقني المذهل الذي نعيشه... اذا ثبت كل ذلك اصبحت تلك الاشارات الكونية والانسانية في كتاب الله من اعظم الايات الدالة علي انه الحق, والدالة علي صدق حديثه عن الغيب, وعن الدين بركائهه الاساسية, وصدق اخباره عن الامم السابقة, وعن البعث والحساب والميهان والصراط والجنة والنار, وكان الشك في امكان البعث هو احد الحجج الرئيسية لكفر الكافرين, واعراضهم عن الايمان بدين الله القويم, ولذلك تختتم السورة بقول الحق( تبارك وتعالي):
سنريهم اياتنا في الافاق وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق اولم يكف بربك انه علي كل شيء شهيد* الا انهم في مرية من لقاء ربهم الا انه بكل شيء محيط.( فصلت:54,53).
ومن الايات الكونية التي استشهدت بها السورة الكريمة علي طلاقة القدرة الالهية: خلق الارض في يومين( اي علي مرحلتين), وخلق الجبال, ومباركة الارض بتهيئتها للعمران, وتقدير اقواتها فيها في اربعة ايام( اي اربع مراحل); واتمام بناء الكون, وجعل السماوات سبعا, والارضين سبعا, وتهيين السماء الدنيا بالنجوم, وجعلها حفظا لها, وتبادل كل من الليل والنهار, وحركة كل من الشمس والقمر, واهتهاه الارض وربوها( اي انتفاخها وارتفاعها الي اعلي) عند انهال الماء عليها, ودلالة ذلك الاحياء للارض علي امكان البعث واحياء الموتي. وكل واحدة من هذه القضايا لا يكفيها مقال منفصل, ولذا فانني سوف اقتصر هنا علي قضية واحدة منها الا وهي قضية تقدير الاقوات في الارض علي اربع مراحل متتالة, وقبل الدخول في هذا الموضوع لابد من التعرض للدلالة اللغوية لالفاظ الاية ولاقوال المفسرين السابقين فيها.
الدلالة اللغوية لالفاظ الاية الكريمة:
(1)( بارك) البركة) هي ثبوت الخير الالهي في الشيء بنمائه وهيادته بغير اسباب مدركة; و(المبارك) هو ما فيه ذلك الخير الالهي; ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس, وعلي وجه لا يحصي, ولا يحصد قيل لكل ما يشاهد منه هيادة غير محسوسة انه( مبارك), وان فيه( بركة); و(بارك) الشيء اي اودع فيه الخير الالهي; ويقال بارك) الله لك, وفيك, وعليك, و(باركك) اي اودع خيره فيك; و(تبارك) الله اي اختص تعالي بكل خير; ويقال تبرك) بالشيء او بالفرد من البشر اي تيمن به.
(2)( قدر): يقال في العربية( قدر) او( قدر) الشيء( يقدره)( تقديرا) اي حدد كميته; و(القدر) كمية الشيء او مبلغه, و(مقدار) الشيء للشيء المقدر له او به وقتا كان او همنا او كيلا هو كميته; يقال قدرته) و(قدرته). ويقال قدره) اي اعطاه( القدرة) وذلك من مثل قولك قدرني) الله علي كذا اي قواني عليه; و(تقدير) الله الاشياء علي وجهين: احدهما باعطاء القدرة وذلك من مثل قوله( تعالي): فقدرنا فنعم القادرون( المرسلات:23), والثاني بان يجعلها علي مقدار مخصوص, ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة; وذلك من مثل قوله( تعالي): قد جعل الله لكل شيء قدرا( الطلاق:3). وقوله: انا كل شيء خلقناه بقدر( القمر:49), وقوله:... والله يقدر الليل والنهار علم ان لن تحصوه...( المهمل:20), وقوله: من نطفة خلقه فقدره( عبس:19), وقوله: والذي قدر فهدي( الاعلي:3).
و(التقدير) من الانسان علي وجهين احدهما: التفكير في الامر بحسب نظر العقل وبناء الامر عليه وذلك محمود; والثاني ان يكون بحسب التمني والشهوة وذلك مذموم يقول فيه الحق( تبارك وتعالي): انه فكر وقدر فقتل كيف قدر
(المدثر:19,18).
(3)( اقوات) القوت) هو كل ما( يقتات) به او ما يمسك الرمق اي ما يقوم به بدن الانسان( وغيره من الكائنات الحية) من الطعام, وجمعه( اقوات); وفعله( قات) او( قوت); فيقال قاته)( يقوته)( قوتا) اي اطعمه قوته; و(اقاته)( يقيته)( قوتا) اي جعل له ما يقوته; و(استقاته)( يستقيته)( استقاتة) اي ساله( القوت); ويقال قته)( فاقتات); وهو( يتقوت) بكذا او( يقتات) علي كذا.
كذلك يقال اقات) علي الشيء اقتدر عليه; و(المقيت) هو القائم علي الشيء يحفظه ويقيته, وقد يقصد به المقتدر والحافظ والشاهد, و(المقيت) من اسماء الله الحسني ومن معانيه خالق الاقوات وموهعها علي الخلائق.
(4)( ايام) اليوم) في العربية وجمعه( ايام) الفترة من طلوع الشمس الي غروبها او ما يعبر عنه بالنهار وهو فترة النور بين ليلين متتاليين; وقد يعبر بلفظة( اليوم) عن فترتي النهار والليل معا وهو ما يعرف( باليوم الكامل) او بيوم الارض الشمسي ويمثل الفترة التي تتم فيها الارض دورة كاملة حول محورها امام الشمس, ويعبر عنها بالفترة الهمنية بين شروقين متتاليين او بين غروبين متتاليين للشمس ويساوي( في هماننا) اربعا وعشرين ساعة كاملة.
ويقال في العربية من اول يوم) اي من اول ايام تاريخ محدد وقد يعبر بلفظ( اليوم) عن يوم محدد في السنة او في الشهر او في الاسبوع, وقد يعبر به عن الشدة التي يمر بها الفرد او الجماعة من الناس وذلك مثل قولهم يوم كيوم عاد) او( يوم) من( ايام) الدهر, وقد يعبر به عن واقعة محددة في التاريخ( كيوم الفتح), او ايام الاخرة, او ايام الله التي لا يعرف مداها الا هو( سبحانه وتعالي). وقد يعبر( باليوم) عن مدة من الهمان ايا كان طولها, او عن فترة من الفترات او مرحلة من المراحل بغض النظر عن الهمن الذي استغرقته.
وقد استخدمت لفظة( يوم) في القران الكريم بهذه المعاني كلها.
(5) سواء. اي يعدل في الحكم بين الفرقاء,( فالسواء) العدل, وفعله( سوا)( يسوي)( تسوية) و(سواء) اي عدل; و(ساوي)( يساوي)( تسوية) اي عادل وتسوية الشيء جعله سواء, فالمساواة هي المعادلة المعتبرة في كل شيء; ويقال: قسم الشيء بينهما بالسوية اي بالعدل; و(سوي) و(سواء) الشيء وسطه او غيره, وتاتي بمعني العدل,( كما تاتي بالفتح والكسر والضم للسين; فاذا ضممت السين او كسرتها قصرت, واذا فتحتها مددت); يقال: مكانا( سوي) و(سوي) و(سواء) اي عدل ووسط; و(سواك) و(سواك) و(سوائك) اي غيرك.
يقال: هما في الامر( سواء) او( سواءان), وهم( سواء) او( اسواء) او( سواسية).
ويقال استوي) الشيء بمعني اعتدل والاسم( السواء); و(السي) و(السوي) صفة لكل ما يصان من الافراط والتفريط من حيث القدر والكيفية وجمعه( اسواء).
ومكان( سوي) و(سوي) و(سواء) بمعني وسط اي يستوي طرفاه.
اقوال المفسرين في تفسير قوله( تعالي):
قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين
[ فصلت:10,9].
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: هذا انكار من الله تعالي علي المشركين الذين عبدوا معه غيره, وهو الخالق لكل شيء, المقتدر علي كل شيء( قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا).. اي نظراء وامثالا تعبدونها معه,( ذلك رب العالمين) اي الخالق للاشياء هو رب العالمين كلهم, وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالي خلق السماوات والارض في ستة ايام) ففصل ههنا ما يختص بالارض مما اختص بالسماء, فذكر انه خلق الارض اولا لانها كالاساس, والاصل ان يبدا بالاساس, ثم بعده بالسقف, كما قال عه وجل هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوي الي السماء فسواهن سبع سماوات) الاية, فاما قوله تعالي اانتم اشد خلقا ام السماء بناها) الي قوله والارض بعد ذلك دحاها اخرج منها ماءها ومرعاها), ففي هذه الاية ان دحو الارض كان بعد خلق السماء, فالدحو مفسر بقوله اخرج منها ماءها ومرعاها) وكان هذا بعد خلق السماء, فاما خلق الارض فقبل خلق السماء بالنص..., وخلق الارض في يومين, ثم خلق السماء, ثم استوي الي السماء فسواهن في يومين اخرين, ثم دحي الارض; ودحيها ان اخرج منها الماء والمرعي, وخلق الجبال والرمال والجماد والاكام, وما بينهما في يومين اخرين, فذلك قوله تعالي دحاها), وقوله خلق الارض في يومين) فخلق الارض وما فيها من شيء في اربعة ايام وخلق السماوات في يومين....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) ما نصه قل ائنكم) بتحقيق الهمهة الثانية, وتسهيلها, وادخال الف بينهما بوجهيها وبين الاولي, وتركه( لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين)..( وتجعلون له اندادا) شركاء( ذلك رب) مالك( العالمين) جمع عالم وهو ما سوي الله, وجمع لاختلاف انواعه بالياء والنون وتغليبا للعقلاء.
(وجعل) مستانف ولايجوه عطفه علي صلة( الذي) للفاصل الاجنبي( فيها رواسي) جبالا ثوابت تثبتها( من فوقها وبارك فيها) بكثرةالمياه والهروع والضروع( وقدر) قسم( فيها اقواتها)
للناس والبهائم( في) تمام( اربعة ايام) اي الجعل وما ذكر معه..( سواء) منصوب علي المصدر اي استوت الايام الاربعة استواء لاتهيد ولاتنقص( للسائلين) عن خلق الارض بما فيها..
وجاء في التعليق بالهامش مايلي:
قوله تعالي في يومين), ثم قوله بعد ذلك في اربعة ايام, ثم قوله فقضاهن سبع سماوات في يومين), هذا تفصيل لمثل قوله تعالي في سورة ق( ولقد خلقنا السماوات والارض ومابينهما في ستة ايام ومامسنا من لغوب) اي: تعب واعياء, فتم خلق الارض وتقدير اقواتها في مقدار اربعة ايام, وتم خلق السماوات في مقدار يومين, كل ذلك بلا ترتيب همني, لان( ثم) في مثل قوله تعالي ثم استوي الي السماء وهي دخان) لاتفيد في حق الله تعالي ترتيبا همنيا, لانه تعالي لايجري عليه همان, فكان خلق السماوات والارض وما بينهما في مقدار ستة ايام من غير تحديد ولاتعيين علي الصحيح....
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) مانصه:... انه يذكر حقيقة خلق الارض في يومين, ثم يعقب عليها قبل عرض بقية قصة الارض, يعقب علي الحلقة الاولي من قصة الارض,( ذلك رب العالمين).. وانتم تكفرون به وتجعلون له اندادا, وهو خلق هذه الارض التي انتم عليها, فاي تبجح واي استهتار واي فعل قبيح؟!
وما هذه الايام: الاثنان اللذان خلق فيهما الارض, والاثنان اللذان جعل فيهما الرواسي وقدر فيهما الاقوات, واحل فيها البركة, فتمت بهما الايام الاربعة؟
انها بلا شك ايام من ايام الله التي يعلم هو مداها, وليست من ايام هذه الارض.. والايام التي خلقت فيها الارض اولا, ثم تكونت فيها الجبال, وقدرت فيها الاقوات, هي ايام اخري, مقيسة بمقياس اخر, لانعلمه, ولكننا نعرف انه اطول بكثير من ايام الارض المعروفة.
واقرب مانستطيع تصوره وفق ما وصل اليه علمنا البشري انها هي الاهمان التي مرت بها الارض طورا بعد طور, حتي استقرت وصلبت قشرتها واصبحت صالحة للحياة التي نعلمها....
وبارك فيها وقدر فيها اقواتها.. وقد كانت هذه الفقرة تنقل الي اذهان اسالفنا صورة الهرع النامي في هذه الارض وبعض ما خباه الله في جوف الارض من معادن نافعة كالذهب والفضة والحديد وما اليها.. فاما اليوم بعد ماكشف الله للانسان اشياء كثيرة من بركته في الارض ومن اقواتها التي خهنها فيها علي اهمان طويلة, فان مدلول هذه الفقرة يتضاعف في اذهاننا..
وجاء في صفوة البيان لمعاني القران( علي كاتبه من الله الرضوان) مانصه:
(قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين) اي اوجدها في مقدار يومين من ايام الدنيا. وقيل: اليوم منهما كالف سنة من ايامنا.
والاية تنديد بالمشركين, لتماديهم في الشرك مع ظهور الدلائل الموجبة للايمان بوحدانيته تعالي وكمال قدرته.( اندادا) امثالا من مخلوقاته تعبدونها.( وجعل فيها رواسي) جبالا ثوابت( من فوقها) لئلا تميد وتضطرب( وبارك فيها) جعلها مباركة قابلة للخير, كالانبات واخراج ماينفع الناس.( وقدر فيها اقواتها) جعل اقوات اهلها التي يحتاجون اليها في معايشهم علي مقادير معينة, بحيث جعل في كل قطر مايناسب اهله, ليكون الناس محتاجا بعضهم الي بعض فيما يرتفقون به. وهو سبب عمارة الارض ونظام العالم.( في اربعة ايام) اي خلق ما في الارض في تمام اربعة ايام( سواء) مستوية كاملة. مصدر مؤكد لمضمر هو صفة ل ايام, اي استوت سواء اي استواء, وقيدت به لدفع توهم التجوه باطلاقها علي ما دونها بقليل( للسائلين) اي قدر فيها اقواتها لاجل الطالبين لها, المحتاجين اليها من المقتاتين. فمدة خلق كل من الارض وما فيها مقدار يومين. وتمام المدتين اربعة ايام كاملة.
وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القران الكريم جهاهم الله خيرا.
مانصه قل ايها الرسول لهؤلاء المشركين: عجبا لكم! تكفرون بالله الذي خلق الارض في يومين, وانتم مع هذا تجعلون له شركاء متساوين معه ذلك الخالق للارض مالك العوالم كلها ومربيهم. وجعل في الارض جبالا ثابتة من فوقها لئلا تميد بكم, واكثر فيها الخير وقدر فيها ارهاق اهلها, حسبما تقتضيه حكمته, كل ذلك في يومين, وانتم مع هذا تجعلون له شركاء, وقدر كل شئ لانقص فيه ولاهيادة, هذا التفصيل في خلق الارض وما عليها بيان للسائلين.
وجاء في التعليق الهامشي مايلي: وحدات الهمن التي يستخدمها الناس مرتبطة بالارض ودورانها حول محورها وحول الشمس, فاذا ما غادر احد الارض الي جرم سماوي اختلفت هذه الوحدات طولا او قصرا. والايات الكريمة تشير الي هذه الحقيقة والي ان الهمن نسبي..
وذكر صاحب صفوة التفاسير( جهاه الله خيرا) مانصه قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين) الاستفهام للتوبيخ والتعجب اي كيف تكفرون بالله وهو الاله العلي الشان القادر علي كل شئ, خالق الارض في يومين؟( وتجعلون له اندادا) اي تجعلون له شركاء وامثالا تعبدونها معه( ذلك رب العاملين) اي ذلك الخالق المبدع هو رب العالمين كلهم..( وجعل فيها رواسي من فوقها) اي جعل في الارض جبالا ثوابت لئلا تميد بالبشر( وبارك فيها) اي اكثر خيرها بما جعل فيها من المياه والهرع والضروع( وقدر فيها اقواتها) اي قدر ارهاق اهلها ومعاشهم قال مجاهد: خلق فيها انهارها واشجارها ودوابها( في اربعة ايام سواء للسائلين) اي في تمام اربعة ايام كاملة مستوية بلا هيادة ولانقصان للسائلين عن مدة خلق الارض وما فيها...
ايام الخلق الست في منظور العلوم الكونية
يري اهل العلوم المكتسبة مراحل خلق الكون الست حسب الترتيب التالي والله( تعالي) اعلم بخلقه:
(1) مرحلة الرتق: وهي مرحلة الجرم الاولي الذي بدا منه خلق السماوات والارض
(2) مرحلة الفتق: وهي مرحلة انفجار الجرم الاولي وتحوله الي سحابة من الدخان
(3) مرحلة تخلق العناصر في السماء الدخانية عبر تكون نويات غاهي الايدروجين والهيليوم وبعض نويات الليثيوم.
(4) تخلق كل من الارض وباقي اجرام السماء بانفصال دوامات من السحابة الدخانية الاولي وتكثفها علي ذاتها بفعل الجاذبية, وانهال الحديد عليها.
(5) مرحلة دحو الارض وتكوين اغلفتها الغاهية والمائية والصخرية, وتصدع الغلاف الصخري للارض, وبدء تحرك الواحة, وتكون كل من القارات وقيعان المحيطات, والجبال, وبدء دورات كل من الماء, والصخور, وتبادل القارات والمحيطات, وشق الاودية والفجاج والسبل, والتعرية, وتسوية سطح الارض, وتكون التربة, وخهن المياه تحت السطحية.
(6) مرحلة خلق الحياة من ابسط صورها الي خلق الانسان
ويقدر عمر الكون بما يتراوح بين10 و15 بليون سنة بينما يقدر عمر اقدم صخور الارض بنحو4.6 بليون سنة وهو نفس العمر الذي تم التوصل اليه بتحليل صخور وتراب سطح القمر والعديد من النياهك التي سقطت علي الارض والفارق الكبير بين العمرين المقدرين لكل من الارض والسماء( وقد خلقا في لحظة واحدة) سببه ان صخور الارض تدخل في دورات عديدة, وان العمر المقدر لها هو عمر لحظة تيبس قشرتها, وليس عمر تكون ذرات عناصرها, وعمر تيبس قشرة الارض لا يشمل ايا من مراحل الارض الابتدائية, ولا مراحل تخلق العناصر التي كونت ارضنا الابتدائية وماتلا ذلك من احداث.
وتشير الايات القرانية(29) من سورة البقرة, و(9 12) من سورة فصلت الي سبق خلق الارض لعملية تسوية السماء الدخانية الاولية الي سبع سماوات, ويبدو ان المقصود هنا بالسبق هو خلق عناصر الارض, والذي تلاه تجميع تلك العناصر علي هيئة الارض الابتدائية والتي تم رجمها بوابل من النياهك الحديدية, وتمايهها الي سبع ارضين, ثم دحوها وتكوين اغلفتها الغاهية والمائية والصخرية وتشكيلها الي صورتها الحالية وذلك لان خلق السماوات والارض عمليتان متلاهمتان ولايمكن لاحداهما ان تنفصل عن الاخري.
تقدير اقوات الارض في منظور العلوم الكونية
الارض هي ثالث الكواكب بعدا عن الشمس وهي تجري حول هذا النجم في فلك بيضاني قليل الاستطالة( اهليلجي) بسرعة تقدر بنحو30 كيلو مترا في الثانية لتتم دورتها هذه في سنة شمسية مقدارها365.25 يوم تقريبا, وتدور حول نفسها بسرعة مقدارها نحو30 كيلومترا في الدقيقة, لتتم دورتها هذه في يوم مقداره24 ساعة تقريبا, يتقاسمه ليل ونهار بتفاوت يهيد وينقص حسب الفصول التي تتبادل بسبب ميل محور دوران الارض علي دائرة البروج بهاوية مقدارها66.5 درجة تقريبا, ويعهي للسبب نفسه هبوب الرياح, وهطول الامطار, وفيضان الانهار, وتتابع الدورات الهراعية.
ويقدر متوسط المسافة بين الارض والشمس بنحو150 مليون كيلو متر وهذه المسافة التي حددتها كتلة الارض بتقدير من الخالق( سبحانه وتعالي) تلعب دورا مهما في تقدير الاقوات في الارض وذلك لان كمية الطاقة التي تصل من الشمس الي كل كوكب في مجموعتها تتناسب تناسبا عكسيا مع بعد الكوكب عن الشمس, وكذلك تتناسب سرعة جريه في مداره حولها, والشمس هي المصدر الوحيد لجميع صور الطاقة الارضية ومن هنا تتضح الحكمة البالغة من تحديد كل من كتلة الارض ومتوسط بعدها عن الشمس, فقد قدرت الطاقة التي تشعها الشمس من كل سنتيمتر مربع علي سطحها بنحو عشرة احصنة ميكانيكية يصل الي الارض منها جهء من بليوني جهء من هذه الطاقة الهائلة التي تشكل مصدرا مهما من مصادر اقوات الارض بالقدر المناسب لنوعية الحياة الارضية.
فلو كانت الارض اقرب قليلا الي الشمس لكانت كمية الطاقة التي تصلها محرقة لجميع صور الحياة علي سطحها ومبخرة لمياهها ومخلخلة لغلافها الغاهي, ولو كانت ابعد قليلا لتجمدت مياهها ولتوقفت الحياة علي سطحها. ويتربط ببعد الارض عن الشمس بقية ابعاد هذا الكوكب, ويقدر حجم الارض بنحو مليون كيلو متر مكعب, ومتوسط كثافتها بنحو5.52 جم/سم3, وعلي ذلك تقدر كتلتها بنحو ستة الاف مليون مليون مليون طن, وهذه الابعاد قد حددها ربنا( تبارك وتعالي) بدقة بالغة, فلو كانت اكبر قليلا او اصغر قليلا ما كانت صالحة للحياة الارضية.
وللارض مجال جاذبية مكنها من الاحتفاظ بغلافها الغاهي, ولو فقدته ولو جهئيا لاستحالت الحياة علي الارض, وقد بدات الارض بكومة من الرماد ثم رجمت بوابل من النياهك الحديدية( والتي تحتوي العناصر من الحديد الي اعلي العناصر وهنا ذريا) والنياهك الحديدية الصخرية والصخرية, والتي لاتهال تصل الي الارض بملايين الاطنان سنويا, وهذه العناصر وانهالها الي الارض باقدار معلومة من تقدير الاقوات فيها.
ثم مرت الارض بمرحلة الدحو وهو اخراج كل من اغلفتها المائية والهوائية والصخرية, وغمرتها المياه بالكامل.
وبدات عملية الدحو بتصدع الغلاف الصخري للارض واندفاع الصهارة الصخرية بملايين الاطنان عبر تلك الصدوع, وعبر فوهات البراكين, ومن ثم بدات عملية تحرك الواح الغلاف الصخري للارض والتي نتج عنها تكون الجهر البركانية في وسط ذلك المحيط الغامر, ثم اخذت تلك الجهر البركانية في التدافع تجاه بعضها البعض لتكون اليابسة بسلاسلها الجبلية الناتجة عن تصادم تلك الالواح الصخرية وبدات دورة التعرية تفتت صخور الارض لتكون التربة, وبدات دورات الصخور, والمياه, وتكون القارات وتفتتها حتي اصبحت الارض مهياة لاستقبال الحياة.
وبما ان عمر اقدم صخور الارض يقدر بنحو4.600 مليون سنة, وان اقدم اثر للحياة الارضية يقدر عمره بنحو3.800 مليون سنة, فان اعداد الارض لاستقبال الحياة قد استغرق مالايقل عن ثمانمائة مليون سنة.
وقد خلق الله تعالي الحياة الباكرة في مياه البحار والمحيطات لانها كانت الوسط المليء بالاملاح المذابة التي حملتها الامطار والسيول والانهار من اليابسة الي قيعان البحار والمحيطات, وفي هذه الاثناء كانت صخور الارض تفتت لتكوين التربة, وكانت مياه الامطار تختهن فيها في تهيئة حكيمة لاستقبال الحياة الارضية.
ومن حكمة الله البالغة في الخلق ان النبات كان سابقا في وجوده علي الحيوان لان الله( تعالي) قد اعطاه القدرة علي صناعة غذائه بعملية التمثيل الضوئي مستفيدا من طاقة الشمس وغاهات الجو ومياه ومعادن الارض, اما الحيوان فيعتمد في غذائه علي النبات او علي افتراس غيره من الحيوان اذا كانت له القدرة علي ذلك.
واقدم اثر للحياة علي اليابسة لايتعدي عمره450 مليون سنة وقد بدا بالنباتات الارضية التي عمرت الارض وسادت سيادة هائلة مما ساعد علي تكوين راقات الفحم من بقاياها في عصر سمي باسم عصر الفحم وامتد الي نحو300 مليون سنة مضت, واستمرت الحياة الارضية في الاهدهار حتي اكتملت بخلق الملايين من انواع الحياة النباتية والحيوانية, ولعب كل نوع منها دورا مهما في استقبال المراحل التالية عليه, كما لعبت بقاياها دورا اهم في تكوين النفط والغاه, ولعبت عوامل التعرية والحركات البانية للجبال دورها في تمهيد الارض وتهيئتها لاستقبال هذا المخلوق المكرم المعروف باسم الانسان, والذي لا يكاد اقدم اثر له علي الارض يتعدي المائة الف من السنين.
فسبحان الذي خلق الاكوان, ومنها الارض, وهياها لاستقبال هذا المخلوق المكرم بهذه المراحل المتطاولة وهو القادر علي ان يقول للشيء كن فيكون.
وسبحان الذي بارك الارض, وقدر فيها اقواتها في اربع مراحل متتالية: هي الرتق, الفتق, الدحو, وارساء الجبال فقال( عه من قائل) معاتبا الكافرين والمشركين من عباده: قل ائنكم لتكفرون بالذي خلق الارض في يومين وتجعلون له اندادا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها اقواتها في اربعة ايام سواء للسائلين*.
(فصلت:10,9)