ذكر قصتي الخضر وإلياس عليهما السلام
أما الخضر : فقد تقدم أن موسى عليه السلام رحل إليه في طلب ما عنده من العلم اللدني ، وقص الله من خبرهما في كتابه العزيز في سورة الكهف ، وذكرنا في تفسير ذلك هنالك ، وأوردنا هنا ذكر الحديث المصرح بذكر الخضر عليه السلام ، وأن الذي رحل إليه هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام ، الذي أنزلت عليه التوراة .
وقد اختلف في الخضر ، في اسمه ، ونسبه ، ونبوته ، وحياته إلى الآن - على أقوال - سأذكرها لك هنالك إن شاء الله وبحوله وقوته.
قال الحافظ ابن عساكر : يقال إنه الخضر بن آدم عليه السلام لصلبه ، تم روى من طريق الدارقطني : حدثنا محمد بن الفتح القلانسي ، حدثنا العباس بن عبد الله الرومي ، حدثنا رواد ابن الجراح ، حدثنا مقاتل بن سليمان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الخضر ابن آدم لصلبه ، ونسئ له في أجله حتى يكذب الدجال . وهذا منقطع وغريب .
وقال أبو حاتم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني : سمعت مشيختنا منهم أبو عبيدة وغيره قالوا : إن أطول بني آدم عمراً الخضر ، واسمه خضرون بن قابيل بن آدم .
قال : وذكر ابن إسحاق . أن آدم عليهه السلام لما حضرته الوفاة أخبر بنيه أن الطوفان سيقع بالناس ، وأوصاهم إذا كان ذلك أن يحملوا جسده معهم في السفينة ، وأن يدفنوه معهم في مكان عينه لهم فلما كان الطوفان حملوه معهم ، فلما هبطوا إلى الأرض أمر نوح بنيه أن يذهبوا ببدنه فيدفنوه حيث أوصى . فقالوا ك إن الأرض ليس بها أنيس وعليها وحشة فحرضهم وحثهم على ذلك . وقال : إن آدم دعا لمن يلي دفنه بطول العمر ، فهابوا المسير إلى ذلك الموضع في ذلك الوقت ، فلم يزل جسده عندهم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه ، وأنجز الله ما وعده ، فهو يحيا إلى ما شاء الله له أن يحيا .
وذكر ابن قتيبة في المعارف عن وهب بن منبه : أن اسم الخضر بليا ويقال بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام .
وقال اسماعيل بن أبي أويس : اسم الخضر - فيما بلغنا والله أعلم - المعمر بن مالك بن عبد الله ابن نصر بن الأزد . وقال غيره : هو خضرون بن عماييل بن اليفز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل . ويقال هو : أرميا بن حلقيا . . فالله أعلم .
وقيل إنه كان ابن فرعون صاحب موسى ملك مصر . وهذا غريب جداً . قال ابن الجوزي : رواه محمد بن أيوب عن ابن لهيعة ، وهما ضعيفان .
وقيل : إنه ابن مالك وهو أخو إلياس ، قال السدي كما سيأتي . وقيل إنه كان على مقدمة ذي القرنين . وقيل كان ابن بعض من آمن بإبراهيم الخليل وهاجر معه . وقيل كان نبياً في زمن نشتاسب ابن بهراسب .
قال ابن جرير : والصحيح أنه كان متقدماً في زمن أفريدون ابن إثفيان حتى أدركه موسى عليه السلام .
وروى الحافظ ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه قال : الخضر أمه رومية وأبوه فارسي .
وقد ورد على أنه من بني إسرائيل في زمان فرعون أيضاً.
قال أبو زرعة في دلائل النبوة حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : أنه ليلة أسرى به وجد رائحة طيبة ، فقال : يا جبريل . . ما هذه الرائحة الطيبة ؟ قال : هذه ريح قبر الماشطة وابنيها وزوجها .
وقال : وكان بدء ذلك أن الخضر كان من أشرف بني إسرائيل ، وكان ممره براهب في صومعته ، فتطلع عليه الراهب فعلمه الإسلام فلما بلغ الخضر زوجه أبوه امرأة فعلمها الإسلام ، وأخذ عليها ألا تعلم أحداً ، وكان لا يقرب النساء ثم طلقها . ثم زوجه أبوه بأخرى فعلمها الإسلام وأخذ عليها ألا تعلم أحداً ثم طلقها ، فكتمت إحداهما وأفشت عليه الأخرى .
فانطلق هارباً حتى أتى جزيرة في البحر ، فأقبل رجلان يحتطبان فرأياه فكتم أحدهما وأفشى عليه الآخر . قال : قد رأيت الخضر ، قيل : ومن رآه معك ؟ قال فلان ، فسئل فكتم . وكان من دينهم أنه من كذب قتل ، فقتل ، وكان قد تزوج الكاتم المرأة الكاتمة . قال : فبينما هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها ، فقالت : تعس فرعون ، فأخبرت أباها ، وكان للمرأة ابنان وزوج ، فأرسل إليهم فراود المرأة وزوجها أن يرجعا عن دينهما ، فأبيا ، فقال : إني قاتلكما ، فجعلهما في قبر واحد ، فقال : وما وجدت ريحا أطيب منهما ، وقد دخلت الجنة .
وقد تقدمت قصة مائلة بنت فرعون ، وهذا المشط في أمر الخضر قد يكون مدرجاً من كلام أبي بن كعب ، أو عبد الله بن عباس . . والله أعلم . وقال بعضهم : كنيته أبو العباس ، والأشبه ، والله أعلم أن الخضر لقب غلب عليه .
قال البخاري رحمه الله : حدثنا محمد بن سعيد االأصبهاني ، حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ،
عن همام ، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : " إنما سمى الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتزمن خلفه خضراء " .
تفرد به البخاري ، وكدلك رواه عبد الرزاق عن معمر به .
ثم قال عبد الرزاق : الفروة : الحثسيش الأبيض وما أشبه ، يعني الهشيم اليابس . وقال الخطابي : وقال أبو عمر : الفروة : الأرض التي لا نبات فيها . وقال غيره : هو الهشيم اليابس شبهه بالفروة ، ومنه قيل : فروة الرأس وهي جلدته بما عليها من الشعر ، كما قال الراعي :
ولقد ترى الحبشي حول بيوتنا جذلا إذا ما نا يوماً مأكلا
صعلا أصك كان فروة رأسه بذرت فأنبيت جانباه فلفلا
قال الخطابي : ويقال : إنما سمى الخضر خضراً لحسنه وإشراق وجهه ، قلت : وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيح ، فإن كان ولا بد من التعليل بأحدهما ، فما ثبت في الصحيح أولى وأقوى ، بل لا يلتفت إلى ما عداه .
وقد روى الحافظ ابن عساكر هذا الحديث أيضاً من طريق إسماعيل بن حفص بن عمر الأبلى : حدثنا عثمان وأبو جزى وهمام بن يحيى ، عن قتادة ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : " إنما سمى الخضر خضراً لأنه صلى على فروة بيضاء فاهتزت خضراء " . وهذا غريب من هذا الوجه .
وقال قبيصة عن الثوري عن منصور عن مجاهد قال : إنما سمى الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله .
وتقدم أن موسى ويوشع عليهما السلام لما رجعا يقصان الأثر ، وجداه على طنفسة خضراء على كبد البحر ، وهو مسجى بثوب قد جعل طرفاه من تحت رأسه وقدميه ، فسلم موسى عليه السلام فكشف عن وجهه فرد ، وقال : إني بأرضك السلام ؟ من أنت ؟ قال : أنا موسى .قال : نبي بني إسرائيل ؟ قال : نعم . فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه عنهما .
وقد دل سياق القصة على نبوته من وجوه : أحدها : قوله تعالى : " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " .
الثاني : قول موسى له :" هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا " .
فلو كان ولياً وليس ببني لم يخاطبه بهذه المخاطبة ، ولم يرد على موسى هذا الرد ، بل موسى إنما سأل صحبته لينال ما عنده من العلم الذي اختصه الله به دونه . فلو كان غير نبي ، لم يكن معصوماً ، ولم تكن لموسى - وهو نبي عظيم ورسول كريم واجب العصمة - كبير رغبة ولا عظيم طلبة في علم ولي غير واجب العصمة ، ولما عزم على الذهاب إليه والتفتيش عنه ، ولو أنه يمضي حقباً من الزمان ، قيل ثمانين سنة . ثم لما اجتمع به تواضع له وعظمه ، واتبعه في صورة مستفيد منه فدل على أنه نبي مثله يوحى إليه كما يوحى إليه ، وقد خص من العلوم اللدنية والأسرار النبوية بما لم يطلع الله عليه موسى الكليم ، نبي بني إسرائيل الكريم . وقد احتج بهذا المسلك بعينه الرماني على نبوة الخضر عليه السلام .
الثالث : أن الخضر أقدم على قتل الغلام ، وما ذلك إلا للوحي إليه من الملك العلام .وهذا دليل مستقل على نبوته ، وبرهان ظاهر على عصمته ، لأن الولي لا يجوز له الإقدام على قتل النفوس بمجرد ما يلقى في خلده ، لأن خاطره ليس بواجب العصمة ، إذ يجوز عليه الخطأ بالاتفاق . ولما أقدم الخضر على قتل ذلك الغلام الذي لم يبلغ الحلم ، علما منه بأنه إذا بللغ يكفر ، ويحمل أبويه على الكفر لشدة محبتهما له فيتابعانه عليه ، ففي قتله مصلحة عظيمة تربو على بقاء مهجته ، صيانة لأبويه عن الوقوع في الكفر وعقوبته ، دل ذلك على نبوته ، وأنه مؤيد من الله بعصمته .
وقد رأيت الشيخ أبا الفرج ابن الجوزي طرق هذا المسلك بعينه في الاحتجاج على نبوة الخضر وصححه ، وحكى الاحتجاج عليه الرماني أيضاً .
الرابع : أنه لما فسر الخضر تأويل الأفاعيل لموسى ووضح له عن حقيقة أمره وجلى ، قال بعد ذلك كله : " رحمة من ربك وما فعلته عن أمري " يعني ما فعلته من تلقاء نفسي ، بل أمر أمرت به وأوحى إلي فيه .
فدلت هذه الوجوه على نبوته . ولا ينافي ذلك حصول ولايته ، بل ولا رسالته ، كما قاله آخرون . وأما كونه ملكاً من الملائكة فقول غريب جداً ، وإذا ثبتت نبوته - كما ذكرناه ، لم يبق لمن قال بولايته وأن الولي قد يطلع على حقيقة الأمور دون أرباب الشرع الظاهر ، مستند يستندون إليه ، ولا معتمد يعتمدون عليه .
وأما الخلاف في وجوه إلى زماننا هذا ، فالجمهور على أنه باق إلى اليوم ، قيل لأنه دفن آدم بعد خروجهم من الطوفان فنالته دعوة أبيه آدم بطول الحياة ، وقيل لأنه شرب من عين الحياة فحيى . وذكروا أخباراً استشهدوا بها على بقائه إلى الآن . وسنوردها مع غيرها إن شاء الله تعالى وبه الثقة .
وهذه وصيته لموسى حين : " قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " روى في ذلك آثار منقطعة كثيرة : قال البيهقي : أنبأنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو عبد الله الصفار ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، حدثنا جرير ، حدثني أبو عبد الله الملطي قال : لما أرد موسى أن يفارق الخضر قال له موسى : أوصني . قال : كن نفاعاً ولا تكن ضراراً ، كن بشاشاً ولا تكن غضبان ، ارجع عن اللجاجة ولا تمشي في غير حاجة . وفي رواية من طريق أخرى زيادة : ولا تضحك إلا من عجب .
وقال وهب بن منبه : قال الخضر : يا موسى .. إن الناس معذبون في الدنيا على قدر همومهم بها .
وقال بشر بن الحارث الحافي : قال موسى للخضر : أوصني . فقال : يسر الله عليك طاعته .
وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه ابن عساكر من طريق زكريا بن يحيى الوقاد - إلا أنه من الكذابين الكبار - قال : قرئ على عبد الله بن وهب وأنا أسمع ، قال الثوري ، قال مجالد ، قال أبو الوداك قال أبو سعيد الخدري ، قال عمر بن الخطاب ، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : " قال أخي موسى : يا رب .. وذكر كلمته - فأتاه الخضر وهو فتى طيب الريح حسن بياض الثياب مشمرها ، فقال : السلام عليك ورحمة الله يا موسى بن عمران ، إن ربك يقرأ عليك السلام . قال موسى : هو السلام وإليه السلام ، والحمد لله رب العالمين ، الذي لا أحصي نعمه ، ولا أقدر على أداء شكره إلا بمعونته .
ثم قال موسى : أريد أن توصينى بوصية ينفعني الله بها بعدك ، فقال الخضر : يا طالب العلم إن القائل أقل ملالة من المستمع ، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم ، واعلم أن قلبك وعاء فانظر ماذا تحشو به وعاءك واعزف عن الدنيا وانبذها وراءك فإنها ليست لك بدار ولا لك فيها محل قرار ، وإنما جعلت بلغة للعباد والتزود منها ليوم المعاد ورض نفسك على الصبر تخلص من الإثم .
يا موسى . . تفرغ للعلم إن كنت تريده ، فإنما العلم لمن تفرغ له ، ولا تكن مكثاراً للعلم مهذاراً فإن كثرة المنطق تشين العلماء وتبدي مساوئ السخفاء . . ولكن عليك بالاقتصاد ، فإن ذلك من التوفيق والسداد وأعرض عن الجهال وماطلهم ، واحلم عن السفهاء ، فإن ذلك فعل الحكماء وزين العلماء . وإذا شتمك الجاهل فاسكت عنه حلماً ، وجانبه حزماً ، فإن ما بقى من جهلة عليك وسبه إياك أكثر وأعظم .
يا ابن عمران . .