قصة موسى والخضر عليهما السلام
قال الله تعالى : " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا * فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا * قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا * فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما * قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن تستطيع معي صبرا * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا * قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا * قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا * فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا * أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا * وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما * وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " .
قال بعض أهل الكتاب : إن موسى هذا الذي رحل إلى الخضر هو موسى بن منسا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ، وتابعهم على ذلك بعض من يأخذ من صحفهم وينقل عن كتبهم ، منهم نوف بن فضالة الحميري الشامي البكالي . ويقال إنه دمشقي ، وكانت أمه زوجة كعب الأحبار .
والصحيح الذي دل عليه سياق القرآن ونص الحديث الصحيح الصريح المتفق عليه : أنه موسى بن عمران صاحب بني إسرائيل .
قال البخاري : حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، قال : أخبرني سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو صاحب بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب عدو الله . حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل : أي الناس أعلم ؟ فقال :أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه ، إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال موسى : يارب . . فكيف لي به ؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما . واضطرب الحوت في المكتب ، فخرج منه فسقط في البحر ، واتخذ سبيله في البحر سرباً . وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما .
حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ، فقال له فتاه : " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا " قال : فكان للحوت سرباً ، ولموسى ولفتاه عجباً فقال له موسى : " ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا " .
قال : فرجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى ، فقال الخضر ، وأنى بأرضك السلام ؟ قال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً : " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه .
فقال موسى : " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " .
فقال له الخضر : " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا * فانطلقا " يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوههم بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول ، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها " لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا * قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا " .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فكانت الأولى من موسى نسياناً . قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من هذا البحر !
ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " قال : وهذه أشد من الأولى " قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " .
" فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " قال : مائل . فقام الخضر " فأقامه " بيده ، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا " لو شئت لاتخذت عليه أجرا * قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك " إلى قوله : " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " .
قال سعيد بن جبير : فكان ابن عباس يقرأ : وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً وكان يقرأ : وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين .
ثم رواه البخاري أيضاً عن قتيبة عن سفيان بن عيينة بإسناده نحوه ، وفيه : فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها ، قال ؟ فوضع موسى رأسه فنام .
قال سفيان : وفي حديث غير عمرو قال : وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة ، لا يصيب من مائها شيء إلا حيى ، فأصاب الحوت من ماء تلك العين ، قال : فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر ، فلما استيقظ قال موسى لفتاه : " آتنا غداءنا لقد لقينا " الآية وساق الحديث .
وقال : ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر ، فقال الخضر لموسى : ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره . . وذكر تمام الحديث .
* * *
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام بن يوسف : أن ابن جريج أخبرهم ، قال : أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدثه عن سعيد بن جبير قال : إنا لعند ابن عباس في بيته إذ قال : سلوني ، فقلت : أي أبا عباس - جعلني الله فداك - بالكوفة رجل قاص يقال له نوف ، يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل . أما عمرو فقال لي ، فقال : قد كذب عدو الله . وأما يعلى فقال لي : قال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : موسى رسول الله قال : ذكر الناس يوماً حتى إذا فاضت العيون ، ورقت القلوب ولى ، فأدركه رجل فقال : أي رسول الله ! هل في الأرض أحد أعلم منك ؟ قال : لا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله ، وقيل : بلى . قال : أي رب فأين ؟ قال : بمجمع البحرين ، قال : أي رب اجعل لي علماً أعلم ذلك به . قال لي عمرو : قال : حيث يفارقك الحوت ، وقال لي يعلى : قال : خذ نوناً ميتاً حيت ينفخ فيه الروح .
فأخد حوتاً فجعله في مكتل ، فقال لفتاه : لا أكلفك إلا أن تخبني بحيث يفارقك الحوت ، قال : ما كلفت كثيراً ، فذلك قوله جل ذكره : " وإذ قال موسى لفتاه " يوشع بن نون ، ليست عن سعيد بن جبير ، قال بينما هو في ظل صخرة في مكان ثريان إذ تضرب الحوت وموسى نائم ، فقال فتاه لا أوقظه ، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره ، وتضرب الحوت حتى دخل البحر فأمسك الله عنه جرية البحر حتى كان أثره في حجر ، قال لي عمرو : هكذا ، كان أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليانهما .
" لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " قال : قد قطع الله عنك النصب ليست هذه عن سعيد . أخبره فرجعا فوجدا خضراً - قال لي عثمان بن أبي سلمان - عن طنفسة خضراء على كبد البحر ، قال سعيد بن جبير مسجى بثوبه ، قد جعل طرفه تحت رجليه ، وطرفه تحت رأسه ، فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه ، وقال : هل بأرضي من سلام ؟ من أنت ؟ فقال : أنا موسى . قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . قال : فما شأنك ؟ قال : جئتك لتعلمني مما علمت رشداً ، قال : أما يكفيك أن التوراة بيديك ، وأن الوحي يأتيك ؟ يا موسى . . إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه ، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه . فأخذ طائر بمنقاره من البحر ، فقال : والله ماعلمي وعلمك في جنب علم الله كما أخذ هذا الطائر بمنقاره من البحر .
" حتى إذا ركبا في السفينة " وجد معابر صغاراً تحمل أهل هذا الساحر إلي أهل هذا الساحل الآخر ، عرفوه فقالوا : عبد الله الصالح . قال : فقلنا لسعيد : خضر ؟ قال : نعم . لا نحمله بأجر ، فخرقها ووتد فيها وتداً " قال " موسى : " أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " قال مجاهد : منكراً ؟ " قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " كانت الأولى نسياناً . والوسطى شرطاً ، والثالثة عمداً " قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا * فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله " قال يعلى قال سعيد : وجد غلماناً يلعبون فأخذ غلاماً كافراً ظريفاً فأضجعه . ثم ذبحه بالسكين " قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس " لم تعلم
بالخبيث . وكان ابن عباس قرأها : زكية زاكية مسلمة . كقولك : غلاماً زكياً .
فانطلقا " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه " قال سعيد بيده هكذا ، ورفع يده فاستقام . قال يعلى : حسبت أن سعيداً قال : فمسح بيده فاستقام : " قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا " قال سعيد ، أجراً نأكله .
" وكان وراءهم " كان أمامهم ، قرأها ابن عباس : أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد والغلام المقتول اسمه يزعمون جيسور " ملك يأخذ كل سفينة غصبا " فأردت إذا هي مرت به أن يدعها لعيبها ، فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها ، ومنهم من يقول : سدوها بقارورة ، ومنهم من يقول بالقار .
" فكان أبواه مؤمنين " وكان كافراً " فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا " أي يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة " لقوله : " أقتلت نفسا زكية " " وأقرب رحما " هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل الخضر .
وزعم غير سعيد بن جبير أنهم أبدلا جارية ، وأما داود ابن أبي عاصم فقال غير واحد :إنها جارية .
وقد رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : خطب موسى بني إسرائيل ، فقال : ما أحد أعلم بالله وبأمره مني ، فأمر أن يلقى هذا الرجل ، فذكر نحو ما تقدم .
وهكذا رواه محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ابن عيينة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنحو ما تقدم أيضاً .
ورواه العوفي عنه موقوفاً . وقال الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس : أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خضر فمر بهم أبي بن كعب فدعاه ابن عباس ، فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقياه ، فهل سمعت من رسول الله فيه شيئاً ؟ قال : نعم ، وذكر الحديث .
وقد تقصينا طرق هذا الحديث وألفاظه في تفسير سورة الكهف ولله الحمد .
وقوله : " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة " قال السهيلى : وهما أصرم وصريم ابنا كاشح " وكان تحته كنز لهما " قيل كان ذهباً ، قاله عكرمة . وقيل علماً ، قاله ابن عباس ، والأشبه أنه كان لوحاً من ذهب مكتوباً في علم . قال البزار : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا بشر بن المنذر ، حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي ، عن عياش بن عباس الغساني ، عن ابن حجيرة ، عن أبي ذر رفعه قال : " إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من الذهب مصمت مكتوب فيه : عجبت لمن أيقن بالقدر كيف نصب ؟ وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك ؟ وعجبت لمن ذكر الموت كيف غفل ؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله " .
وهكذا روى عن الحسن البصري وعمر مولى غفرة وجعفر الصادق نحو هذا .
وقوله : " وكان أبوهما صالحا " قيل إنه كان الأب السابع وقيل العاشر ، وعلى كل تقدير : فيه دلالة على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته . . والله المستعان .
وقوله : " رحمة من ربك " دليل على أنه كان نبياً ، وأنه ما فعل شيئاً من تلقاء نفسه بل بأمر ربه فهو نبي ، وقيل رسول ، وقيل ولي ، وأغرب من هذا من قال إنه كان ملكاً . قلت وقد أغرب جداً من قال هو ابن فرعون ، وقيل إنه ابن ضحاك الذي ملك الدنيا ألف سنة .
قال ابن جرير : والذي عليه جمهور أهل الكتاب أنه كان في زمن أفريدون ويقال إنه كان على مقدمة ذي القرنين ، الذي قيل إنه كان أفريدون ، وذو الفرس هو الذي كان في زمن الخليل ، وزعموا أنه شرب من ماء الحياة فخلد وهو باق إلى الآن .
وقيل إنه من ولد بعض من آمن بإبراهيم ، وهاجر معه من أرض بابل . وقيل اسمه ملكان وقيل أرميا بن حلقيا وقيل كان نبياً في زمن سباسب بن بهراسب .
قال ابن جرير : وقد كان بين أفريدون وبين سباسب دهور طويلة لا يجهلها أحد من أهل العلم بالأنساب ، قال ابن جرير والصحيح أنه كان في زمن أفريدون ، واستمر حياً إلى أن أدركه موسى عليه السلام . وكانت نبوة موسى في زمن منو شهر الذي هو من ولد أبرج بن أفريدون أحد ملوك الفرس ، وكان إليه الملك بعد جده أفريدون لعهده وكان عدلاً . وهو أول من خندق الخنادق . وأول من جعل في كل قرية دهقاناً وكانت مدة ملكه قريباً من مائة وخمسين سنة . ويقال إنه كان من سلالة إسحاق بن إبراهيم .
وقد ذكر عنه من الخطب الحسان والكلم البليغ النافع الفصيح ما يبهر العقل ، ويحير السامع ، وهذا يدل على أنه من سلالة الخليل . . والله أعلم .
وقد قال الله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين " .
فأخذ الله ميثاق كل نبي على أن يؤمن بمن يجيء بعده من الأنبياء وينصره واستلزم ذلك الإيمان وأخذ الميثاق لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه خاتم الأنبياء فحق على كل نبي أدركه أن يؤمن به وينصره فلو كان الخضر حياً في زمانه ، لما وسعه إلا اتباعه والإجتماع به والقيام بنصره ، ولكان من جملة من تحت لوائه يوم بدر ، كما كان تحتها جبريل وسادات من الملائكة .
وقصارى الخضر عليه السلام أن يكون نبياً ، وهو الحق . أو رسولاً كما قيل ، أو ملكاً فيها ذكر ، وأياً ما كان فجبريل رئيس الملائكة ، وموسى أشرف من الخضر ، ولو كان حياً لوجب عليه الإيمان بمحمد ونصرته ، فكيف إن كان الخضر ولياً كما يقوله طوائف كثيرون ؟ فأولى أن يدخل في عموم البعثة وأحرى ، ولم ينقل في حديث حسن بل ولا ضعيف يعتمد أنه جاء يوماً واحداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا اجتمع به وما ذكر من حديث التعزية فيه ، وإن كان الحاكم قد رواه ، فإسناده ضعيف . . والله أعلم ، وسنفرد لخضر ترجمة على حدة بعد هذا .
ذكر الحديث الملقب بحديث الفتون المتضمن قصة موسى من أولها إلى آخرها
قال الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب التفسير من سننه ، عند قوله تعالى في سورة طه : " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا " : حديث الفتون .
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم ابن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله تعالى لموسى : " وفتناك فتونا " فسألته عن الفتون ما هي ؟ فقال : استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثاً طويلاً .
فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأتنجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ما يشكون فيه ، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ فأتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذبحوه ففعلوا ذلك .
فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون قالوا : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي كانوا يكفونهم ، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم ، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثركم إياكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم .
فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يقتل فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة .
فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام ، فوقع قي قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون ، يا ابن جبير . . ما دخل عليه في بطن أمه مما يراد به . فأوحى الله إليها : " لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليم .
فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني ؟ لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه .
فانتهى الماء به حتى أوفي عند فرضة تستقي منها جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه ، فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن : إن في هذا مالاً ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً حتى دفعنه إليها . فلما فتحته رأت فيه غلاماً ، فألقي الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه . وذلك من الفتون