أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مقدمات سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها286, وعلي ذلك فهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود قصة بقرة بني إسرائيل فيها, وتتلخص في أن يهوديا قتل في زمن نبي الله موسي, ولم يعرف قاتله, فعرض الأمر علي موسي( عليه السلام) لعله يستطيع المعاونة في الكشف عن القاتل, فأوحي الله( تعالي) إليه أن يأمر القوم بذبح بقرة, وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن قاتله, وبعد لأي طويل فعل قومه ذلك, وتحقق ما وعدهم الله( تعالي) به كي تكون تلك الواقعة برهانا عمليا أمام أعينهم علي إمكانية البعث, وقد كانوا من المتشككين فيه أو المكذبين لإمكانية وقوعه...!!
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول الأحكام التشريعية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات, وهي صلب الدين.
ومن أسس العقيدة الإسلامية التي دعت إليها السورة الكريمة: الإيمان بأن القرآن الكريم هو الصورة النهائية التي تكاملت فيها كل رسالات السماء السابقة, وأنه كتاب لا ريب فيه, وأنه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة, ومما رزقهم الله ينفقون, والذين يؤمنون بما أنزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وما أنزل من قبله وبالآخرة هم يوقنون.
وهذه الركائز الأساسية للدين ترددت في ثنايا السورة مرات عديدة, مؤكدة حتمية الإيمان بالله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, الذي لا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, ولا شبيه له من خلقه, وذلك من أجل النجاح في الدنيا, والنجاة في الآخرة, وتعرض السورة لشيء من صفات هذا الخالق العظيم... تنزيها لجلاله عن الشبيه والشريك والمنازع, وتقديسا لألوهيته وربوبيته ووحدانيته.
وتؤكد السورة الكريمة حتمية الإيمان بملائكة الله, وكتبه ورسله دون أدني تفرقة بينهم, والإيمان بالبعث وبالحساب في الآخرة, وبالخلود في الجنة أبدا أو في النار أبدا, وهذه كلها من أمور الغيب المطلق التي لا سبيل للإنسان في الوصول إليها إلا ببيان من الله, بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من التصورات البشرية.
وفي مجال العبادات, ركزت سورة البقرة علي تفصيل أحكام الطهارة, والصلاة, والزكاة, والصوم, والحج, والعمرة, والجهاد في سبيل الله, وعلي تعظيم حرمة كل من البيت الحرام والأشهر الحرم, وبينت المحرمات من الطعام والشراب والسلوكيات, وأن كل ما عدا المحرمات من الطعام والشراب يؤكل ويشرب حلالا طيبا. وكذلك تأمر السورة الكريمة بالانفاق في سبيل الله, وبالإحسان الي الخلق.
وفي جانب المعاملات, أوضحت سورة البقرة أحكام الزواج, والطلاق, والعدة, والرضاع, والقصاص, والوصية, والدين, والرهن, والنذور, والصدقات, وحقوق الأيتام, وغير ذلك من المعاملات المالية.
وحذرت السورة الكريمة من متابعة الكفار والمشركين والمنافقين, خاصة من كان منهم من أهل الكتاب الذين حرفوا دينهم, وكذبوا علي رب العالمين, وأوهموا أنفسهم زورا أنهم شعب الله المختار, وأبناؤه وأحباؤه, وأن لهم عند رب العالمين ما ليس لغيرهم من المخلوقين من أمثال اليهود المجرمين, الذين كانوا ركازة الكفر عبر التاريخ, فوقفوا حجر عثرة أمام كل دعوة ربانية صحيحة, وحاربوا الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم) فعارضوه, ونقضوا كل عهودهم معه, وتحالفوا مع عبدة الأوثان ضده, ولايزالون هكذا الي اليوم, والي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها... يمثلون أبشع صور الكفر, والظلم والنفاق, وسوء الأخلاق وكراهية الحق, وبغض الإنسانية والاستعلاء كذبا عليها, والتآمر ضدها تآمر الشياطين الملاعين ما وسعهم إلي ذلك سبيلا.
وتحدثت سورة البقرة عن عدد من صفات المتقين, وعن بعض صفات المنافقين من الكفار والمشركين, وضربت نماذج لكل من الطائفتين, كما عرضت لشيء من وصف نعيم المتقين في الجنة, ولعذاب كل من الكافرين والمشركين في النار, وقد ماتوا علي كفرهم أو شركهم, ولذلك فسوف يخلدون فيها..!! وتصف السورة جانبا من ذلهم وحيرتهم يوم القيامة..!!
وفي هذه السورة الأولي في ترتيب المصحف الشريف بعد فاتحة الكتاب, جاء عرض رائع لقصة آدم( عليه السلام) من لحظة خلقه, وخلق أمنا حواء( رضي الله عنها) الي لحظة هبوطهما علي الأرض.
وفي أكثر من ثلث هذه السورة المباركة, جاء الحديث عن عصاة اليهود من بني إسرائيل( لعنهم الله في الدنيا والآخرة), وعن حقارة نفوسهم, وخبث نواياهم, وشيطانية مكرهم, وخطورة كيدهم, ولؤمهم, وغدرهم,وتحريفهم لدينهم, وكذبهم علي الله, ورسله, ومحاربتهم لأوليائه, وخياناتهم لكل الوعود والعهود والمواثيق التي يقطعونها علي أنفسهم, وتزييفهم للحق, ونصرتهم للباطل, وغير ذلك مما جبلت عليه نفوسهم الشيطانية الشريرة من كفر بالله وشرك به, وكراهية للخلق وتآمر عليهم, ورغبة دفينة في إيذاء الآخرين وتدميرهم, علي الرغم من أن الله( تعالي) كان قد نجاهم من آل فرعون الذين ساموهم سوء العذاب, إلا أنهم عبدوا العجل, وحرفوا الدين, وكتموا ما أنزل الله من كتاب, واشتروا به ثمنا قليلا.
كذلك أشارت سورة البقرة, الي اختلاف أتباع عيسي( عليه السلام) من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر, وعرضت لجانب من قصة إبراهيم( عليه السلام) مع النمرود( عليه اللعنة), وكذلك لقصته مع قضية البعث.
وتحدثت سورة البقرة, عن واقعة تحويل القبلة, وأكدت أن الله( تعالي) قد جعل أمة الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وتأمر السورة الكريمة في العديد من مقاطعها بالجهاد في سبيل الله دون اعتداء, وتعظم منازل الشهداء, ومنازل كل من الصابرين في البأساء والضراء, والموفين بعهودهم إذا عاهدوا.
وتدعو سورة البقرة في كثير من أجزائها, الي التأمل بعين البصيرة في آيات الله العديدة المنتشرة في كل من الأرض والسماء, وتنهي عن اتباع الشيطان لأنه عدو مبين للإنسان, كما تنهي عن أخذ الدين بالميراث, أي بالاتباع الأعمي لما عليه الوالدان من دين, دون تمعن وتدبر واحتكام للعقل واقتناع بصحة ما يعتنقه الفرد, وتنهي كذلك عن التداول بالمال الحرام, وعن رشوة الحكام, وعن التعامل بالربا, وعن تناول الخمر, ولعب الميسر, وعن أكل مال اليتيم, وعن التزاوج بين المسلمين والمشركين, وتأمر باعتزال النساء في المحيض, وتكرر الحض علي الإنفاق في سبيل الله, وتؤكد أن الله( تعالي) هو الذي يؤتي الحكمة من يشاء, وأن من يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا, وتحذر الناس من يوم يرجعون فيه الي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون*, وتضع ضوابط للتعامل بالدين في آية تعتبر أطول آيات القرآن الكريم, وتحذر من كتم الشهادة.. ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم*.
وتختتم بقول الحق( تبارك وتعالي):
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله علي كل شيء قدير* آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله, وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير* لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت, ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا, ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين*.
(البقرة:284 ـ286)
وهو دعاء يهز القلوب والعقول, ويحرك الأرواح والمشاعر لما فيه من معاني الخضوع التام لله وحده بالعبودية, والإقرار له وحده بالألوهية والربوبية, دون الشبيه أو الشريك أو المنازع, والإيمان به( تعالي) وبملائكته وكتبه ورسله وباطلاعه علي خائنة الأعين وما تخفي الصدور, وتأكيد وحدة الرسالة السماوية دون أدني تفرقة بينهم.!! ثم طلب العفو, والمغفرة, والرحمة من الله( تعالي) وطلب النصر منه علي كافة أنماط الكفار والمشركين من أمثال الصهاينة المعتدين الغاصبين المتجبرين علي إخواننا الفلسطينيين العزل الآمنين علي أرض فلسطين, وأشياعهم من النصاري المتهودين كالأمريكان المتغطرسين بقوتهم المادية علي كافة شعوب الأرض, ومآلهم جميعا الدمار الكامل في الدنيا, والخلود في نار جهنم في الآخرة إن شاء الله رب العالمين, وما ذلك علي الله بعزيز اللهم آمين.. آمين.. آمين يارب العالمين.
والآيات الكونية التي جاءت الإشارة إليها في سورة البقرة عديدة, نختار منها ما يلي:
(1)( الصيب) وهو المطر الغزير المصحوب بالرعد والبرق والصواعق والعواصف والذي يكثر في ظلام الليل.
(2) إمكانية أن يخطف البرق بصر الذين يحملقون فيه.
(3) تقديم حاسة السمع علي حاسة الإبصار في العديد من آي القرآن الكريم, كما هو الحال في هذه السورة المباركة( الآية رقم40).
(4) فرش الأرض وبناء السماء بإذن الله.
(5) حقيقة الخلق.
(6) إنزال الماء من السماء, وإحياء الأرض به إن شاء الله( تعالي), ونمو النباتات ونضج ثمارها بنزوله بإذن الله.
(7) إنزال القرآن الكريم معجزة لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), الي قيام الساعة, وحفظه بنفس لغة وحيه( اللغة العربية) كلمة كلمة, وحرفا حرفا دون أدني تغيير أو تحريف أو تبديل كما حدث في الرسالات السابقة.
( حقيقة الخلق من العدم, والإفناء الي العدم, ثم الخلق من جديد.
(9) حقيقة خلق كل ما في الأرض قبل تسوية السماء الي سبع سماوات.
(10) وصف تفجر الحجارة بالأنهار, وتشققها فيخرج منها الماء.
(11) خلق السماوات والأرض.
(12) اختلاف الليل والنهار.
(13) جري الفلك في البحر.
(14) خلق الحياة وبثها في الأرض.
(15) تصريف الرياح.
(16) تسخير السحاب بين السماء والأرض.
(17) تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.
(18) الأهلة مواقيت للناس والحج.
(19) تحريم كل من الخمر والميسر.
(20) الأمر باجتناب النساء في وقت المحيض.
(21) التشبيه بقوله( تعالي):.. كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين.
(22) التشبيه بقول الحق( تبارك وتعالي):.. فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت...*.
(23) تحريم الربا.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة مستقلة, خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي القضية الأولي من القضايا المسرودة في هذه القائمة, والتي يشبه الله( تعالي) فيها موقف المنافقين من أمثال اليهود المجرمين الذين آمنوا ثم كفروا, بالذي انتقل من النور الي الظلام, ومن البصيرة الي العمي, ومن الهداية الي الضلال, ومن الرشد الي الغي, فترك في ظلمات الشك والحيرة, والكفر أو الشرك, والنفاق والضياع, لا يهتدي الي خير, ولا يدرك طريقا للنجاة, ولذلك قال( تعالي) فيهم:
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون* صم بكم عمي فهم لا يرجعون* أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين* يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله علي كل شيء قدير*
(البقرة:17 ـ20).
وقبل عرض الدلالة العلمية للتعبير القرآني أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..*, لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين فيه.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..*( البقرة:19).
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: هذا مثل آخر ضربه الله تعالي لضرب آخر من المنافقين, وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخري, قلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم( كصيب) والصيب: المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق, و(رعد): وهو ما يزعج القلوب من الخوف, فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالي يحسبون كل صيحة عليهم)..( وبرق) هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) ما نصه أو) مثلهم( كصيب) أي: كأصحاب مطر, وأصله صيوب من صاب يصوب, أي: نزل ينزل( من السماء) السحاب( فيه) أي: السحاب( ظلمات) متكاثفة( ورعد) وهو الملك الموكل به, وقيل صوته( وبرق) لمعان سوطه الذي يزجره به....
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:
إنه مشهد عجيب, حافل بالحركة, مشوب بالاضطراب... إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل, الي الظلمات والرعد والبرق, الي الحائرين المفزعين فيه, الي الخطوات المروعة الوجلة, التي تقف عندما يخيم الظلام... إن هذه الحركة في المشهد لترسم ـ عن طريق التأثر الإيحائي ـ حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون....
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته) ما نصه أو كصيب من السماء) الصيب ـ كسيد ـ: المطر, من الصوب وهو النزول, يقال: صاب صوبا, إذا نزل وانحدر, سمي به المطر لنزوله, أي كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء, وهي جهة العلو والمراد السحاب, وهو مثل آخر للمنافقين, يصف حيرتهم وشدة الأمر عليهم,( فيه ظلمات ورعد وبرق) تصحب الأمطار الشديدة التي تحدث عند تكاثف السحب في السماء وحجبها ضوء الشمس عن الأرض ـ ظلمات كأنها سواد الليل, ورعد يصم الآذان, وبرق يخطف الأبصار, وصواعق تحرق ما تصيبه....
وذكر كل من أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم وغيرهم من المفسرين, كما ذكر صاحب صفوة التفاسير( جزاهم الله خيرا) كلاما مشابها لا داعي لتكراره هنا.
الدلالة العلمية للآية الكريمة
ـ البرق والصواعق المصاحبة للعواصف والاعاصير الرعدية
ـ الاظلام المصاحب للعواصف والاعاصير الرعدية
ـ الدوامات الهوائية القمعية الشكل
هذا الوصف القرآني المعجز, الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالي: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..* ينطبق علي الأعاصير الرعدية العنيفة, وهي أعاصير حلزونية, دوارة, عنيفة الحركة والسرعة, ولذلك تعرف باسم الأعاصير الدوارة
Cyclones
وهي كتل من الهواء تدور حول منطقة من مناطق الضغط المنخفض في عكس اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي, وفي اتجاهها تماما في نصف الكرة الجنوبي, وتتحرك هذه الأعاصير بسرعات فائقة تزيد علي73 ميلا في الساعة, وقد تصل الي130 ميلا في الساعة أو الي سرعات أعلي. ولذلك فهي أعاصير عنيفة, مدمرة, تصاحب غالبا بتلبد السماء بالغيوم الداكنة السميكة القريبة من سطح الأرض, والتي تحجب أشعة الشمس بالنهار, ونور القمر والنجوم بالليل, محدثة ظلمة قابضة.
وتصاحب هذه الظلمة بحدوث كل من ظاهرتي البرق والرعد, وهطول الأمطار بغزارة شديدة, وهذا ما تصفه الآية الكريمة بدقة علمية بالغة, علي الرغم من ورودها في مقام التشبيه.
ونظرا لانتشار هذه الأعاصير في المناطق المدارية, فقد سميت باسم الأعاصير المدارية الدوارة
Tropical Cyclones
وقد عرفت بأسماء أخري في كل منطقة من تلك المناطق المدارية, منها اسم هريكين
Hurricane
في الأمريكتين, واسم تيفون
Typhoon
في مناطق بحر الصين( وهي لفظة صينية تعني الرياح الكبيرة), واذا كانت محددة المساحة علي اليابسة فإنها تأخذ أشكالا قمعية ولذا تعرف باسم الدوامات الهوائية القمعية أو التورنادو
Tornadoes
وهي من أصغر تلك الأعاصير حجما وأكثرها تدميرا.
والأعاصير ليست مقصورة علي المناطق المدارية وإن سادت فيها, وذلك لأنها تحدث أيضا في مناطق العروض الوسطي, وهذه الأعاصير لم تعرف صفاتها, ولم يتم تصنيفها إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي, ووصفها بهذه الدقة العلمية البالغة من قبل اثني عشر قرنا علي الأقل, لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويشهد لهذا النبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه, ومن تبع هداه, ودعا بدعوته الي يوم الدين رغم أنف المارقين من الكفار والمشركين في كل عصر ومصر وفي كل حين...!!
الأعاصير المدارية
تتكون الأعاصير المدارية بين خطي عرض5 و20 درجة شمال وجنوب خط الاستواء, وتنشأ بدوران الهواء البارد حول مناطق الضغط المنخفض التي تتكون بالتسخين المحلي في بعض المناطق وبتوافر بقية الظروف اللازمة لتكون تلك الأعاصير ومن بينها هدوء الهواء وسكونه أو قلة تحركه, ويؤدي ذلك الي تسخين طبقة الهواء الملامسة لسطح الأرض( سواء كان ذلك يابسة أو ماء) فتتمدد الي أعلي ليحل محلها تيارات من الهواء البارد, مما يؤدي الي حدوث حالة من عدم الاستقرار في هواء المنطقة.
وكلما زاد عمق منطقة الضغط المنخفض, وزادت شدة انحدار جوانبها بزيادة الفرق بين ضغطها, والضغوط المحيطة بها, زاد الإعصار عنفا, فتدور حولها الرياح بسرعات فائقة تصل الي قرابة الثلاثمائة كيلومتر في الساعة, بينما يكون الهواء الساخن في مركزها ساكنا تقريبا.
وتتوافر ظروف تكون هذه الأعاصير بصفة خاصة في منطقة الركود الاستوائي, حيث تتقابل الرياح التجارية في نصفي الكرة الأرضية مندفعة باتجاه منطقة الضغط المنخفض وما بها من هواء ساخن يتجدد ويتصاعد الي أعلي باستمرار, ومنحرفة الي يمين اتجاهها في نصف الكرة الشمالي, والي يسار اتجاهها في نصفها الجنوبي, وذلك بسبب دوران الأرض حول محورها.
ولذلك تنشأ هذه الأعاصير بصفة خاصة فوق البحار الاستوائية والمدارية في فصلي الصيف والخريف, ويصل قطر الدوامة الواحدة منها الي خمسمائة كيلومتر, ويصل قطر مركزها الذي يسمي عين الإعصار الي أربعين كيلومترا, وتتراوح مدد مكث تلك الأعاصير بين عدد قليل من الأيام وأكثر من أسبوعين.
وتصاحب الأعاصير المدارية عادة بتكون السحب الداكنة الكثيفة والقريبة من سطح الأرض, وبسقوط الأمطار الغزيرة المصاحبة بظاهرتي البرق والرعد.
ومما يساعد علي استمرار ارتفاع الهواء الساخن في مناطق الركود الاستوائية, ارتفاع نسبة الاشعاع الشمسي مما يؤثر علي ارتفاع معدلات تبخر ماء البحار والمحيطات, وبالتالي الي ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء مما يعين علي تكوين السحب الكثيفة الداكنة بإذن الله وعلي هطول الأمطار الغزيرة, حيث يشاء, وكلها من العمليات التي تتسبب في رفع درجات الحرارة الكامنة في عين الإعصار, وفي استمرار تحرك الهواء الساخن الي أعلي, واندفاع الهواء البارد من المناطق المحيطة ليدور حوله أو يحل محله.
والأعاصير المدارية تتكون أساسا فوق البحار والمحيطات, وعندما تندفع في اتجاه اليابسة تفقد كثيرا من سرعتها باحتكاكها مع سطح الأرض, ولكنها تظل قادرة علي إحداث قدر هائل من الدمار من مثل هدم المباني والمنشآت, والخسائر في الأرواح والممتلكات, وحدوث السيول الجارفة, والفيضانات والأمواج المغرقة للسفن والمنشآت البحرية علي طول السواحل والي مسافات متباينة في عمق اليابسة.
وتكثر الأعاصير المدارية في كل من جزر الهند الغربية, وسواحل فلوريدا, وخليج المكسيك, وفي بحر الصين وسواحل الجزر اليابانية, وفي بقية جزر المحيط الهادي وفي شرقي استراليا, وفي خليج البنغال, وفي جنوب المحيط الهندي.
الدوامات الهوائية القمعية الشكل
تطلق كلمة تورنادو
Tornado
علي الدوامات الهوائية القمعية الشكل, وهي من الأعاصير المدارية الشديدة الأثر والتي تضرب الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية سنويا في مساحات صغيرة من الأرض قد لا يتعدي قطرها المائة متر, تدور فيها الرياح بسرعات مدمرة حول مركز الإعصار الذي ينخفض الضغط الجوي فيه بدرجة قياسية, وتصاحبه الأمطار الغزيرة المصحوبة بظاهرتي البرق والرعد في أشد صورهما.
وعند مرور هذه الدوامات الهوائية القمعية الشكل فوق ماء البحار والمحيطات, يرتفع سطح الماء الي أعلي علي هيئة مخروط يعرف باسم النافورات المائية, يقابله مخروط من السحب يتدلي نحو سطح البحرفيحدث ظلمة شبه كاملة, وتشكل هذه الظروف خطرا داهما يهدد السفن البحرية بالإغراق, وتحدث مثل هذه الدوامات الهوائية القمعية الشكل غالبا بعد الظهر في فصلي الربيع والصيف حين تبلغ درجات الحرارة نهاياتها العظمي وتستمر بضع ساعات.
وتتحرك هذه الدوامات الهوائية بسرعات كبيرة تصل الي70 كيلومترا في الساعة, ولكن أثرها سرعان ما يتلاشي علي الرغم من قوتها التدميرية الكبيرة, المتمثلة في اقتلاع الأشجار وتحطيم المباني والمنشآت علي اليابسة, وفي إغراق السفن في عرض البحار.
أعاصير العروض الوسطي
تنشأ أعاصير العروض الوسطي بين خطي عرض35 و65 درجة في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي, حيث تنشأ في النصف الشمالي من التقاء الرياح المدارية العكسية( الغربية) الدافئة الرطبة القادمة من الجنوب مع الرياح القطبية الباردة الجافة القادمة من الشمال, فتندفع الرياح الباردة تحت الدافئة, رافعة إياها الي أعلي ومكونة سطح انفصال بين الكتلتين الباردة والدافئة, يندفع فوقه الهواء الدافيء علي هيئة موجات تشكل كل واحدة منها النواة الأولي لإعصار منخفض, يأخذ في النمو التدريجي مكونا منطقة من الضغط المنخفض فوق سطح الانفصال, يندفع فيها الهواء البارد محاولا الوصول الي مركزها باتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي, ومعه في نصف الكرة الجنوبي, ويظل الإعصار نشيطا حتي يتم هيمنة الهواء البارد علي قلب الإعصار فيبدأ في التلاشي بالتدريج, وتصاحب أعاصير العروض الوسطي بتكون سحب رقيقة متفرقة علي ارتفاع كبير, تتزايد كثافة وسمكا وقربا من سطح الأرض بتزايد الإعصار شدة, حتي تتلبد السماء بالغيوم الداكنة الكثيفة فتحجب ضوء الشمس بالنهار, ونور القمر وأضواء النجوم بالليل, وعندئذ يبدأ هطول المطر بزخات خفيفة تتزايد بالتدريج مع حدوث البرق والرعد, حتي تنهمر الأمطار بغزارة في جو من البرودة الشديدة والاضطرابات الجوية العديدة, ثم يأخذ الجو في التحسن التدريجي بابتعاد مركز الاعصار ولكن تظل درجة الحرارة مائلة الي البرودة النسبية.
وتتفاوت أعاصير العروض الوسطي في أحجامها, وأعماق بؤرها, وفي شدة انحدار جوانبها, فمنها ما لا يزيد قطره علي(300) كيلومتر, ومنها ما يتجاوز ذلك(1500) كيلومتر, ومنها ما هو شديد العمق وما هو ضحل, ومنها ما هو شديد الانحدار, وما هو قليله.
وأثر هذه الأعاصير لا يقتصر علي حدود المنطقة التي تغطيها, ولكنه يمتد الي خارجها, ويتوقف ذلك علي عمق مركز الاعصار وعلي درجة انحدار جوانبه, أي: علي تباين كل من الضغط ودرجة الحرارة بين عين الإعصار وحوافه, والتي تتوقف عليها سرعة الرياح حول مركز الإعصار.
من هذا الاستعراض يتضح بجلاء أن الوصف القرآني للأعاصير كما جاء في هذا النص القرآني المعجز:
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق...( البقرة:19).
ينطبق انطباقا كاملا علي الحقائق التي توصلت إليها المعارف المكتسبة في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه, والتي لم يدرك علم الإنسان طرفا منها إلا مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي.
وورودها في كتاب الله الذي أنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنا بهذه الدقة العلمية الفائقة, والشمول الكامل, والإحاطة التامة لايمكن لعاقل أن يتصور له مصدرا غير الله الخالق( تبارك وتعالي).
فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم, أنزله بعلمه, علي خاتم أنبيائه ورسله, وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم, والرسول الخاتم, الذي تلقي هذا الوحي الخاتم, فبلغ الرسالة, وأدي الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين, فنسأل الله( تعالي) أن يجزيه خير ما جازي به نبيا عن أمته, ورسولا علي حسن تبليغ رسالته, والحمد لله أولا وأخيرا علي حفظ القرآن العظيم, هذا الكتاب الكريم, بنفس لغة الوحي( اللغة العربية), في صفائه الرباني, وإشراقاته النورانية, فجاء معجزا في كل أمر من أموره, وفي كل آية من آياته, وكلمة وحرف من كلماته وحروفه, ولو جاء ذلك في مقام ضرب المثل أو التشبيه, حتي يبقي هذا الكتاب الخالد حجة علي الناس كافة الي قيام الساعة لا ينكره إلا جاحد, ولا يتركه وراء ظهره إلا شقي.
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مقدمات سورة البقرة, وهي سورة مدنية, وآياتها286, وعلي ذلك فهي أطول سور القرآن الكريم علي الإطلاق, وقد سميت بهذا الاسم لورود قصة بقرة بني إسرائيل فيها, وتتلخص في أن يهوديا قتل في زمن نبي الله موسي, ولم يعرف قاتله, فعرض الأمر علي موسي( عليه السلام) لعله يستطيع المعاونة في الكشف عن القاتل, فأوحي الله( تعالي) إليه أن يأمر القوم بذبح بقرة, وأن يضربوا الميت بجزء منها فيحيا بإذن الله ويخبرهم عن قاتله, وبعد لأي طويل فعل قومه ذلك, وتحقق ما وعدهم الله( تعالي) به كي تكون تلك الواقعة برهانا عمليا أمام أعينهم علي إمكانية البعث, وقد كانوا من المتشككين فيه أو المكذبين لإمكانية وقوعه...!!
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول الأحكام التشريعية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات, وهي صلب الدين.
ومن أسس العقيدة الإسلامية التي دعت إليها السورة الكريمة: الإيمان بأن القرآن الكريم هو الصورة النهائية التي تكاملت فيها كل رسالات السماء السابقة, وأنه كتاب لا ريب فيه, وأنه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة, ومما رزقهم الله ينفقون, والذين يؤمنون بما أنزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وما أنزل من قبله وبالآخرة هم يوقنون.
وهذه الركائز الأساسية للدين ترددت في ثنايا السورة مرات عديدة, مؤكدة حتمية الإيمان بالله الواحد الأحد, الفرد الصمد, الذي لم يلد ولم يولد, ولم يكن له كفوا أحد, الذي لا شريك له في ملكه, ولا منازع له في سلطانه, ولا شبيه له من خلقه, وذلك من أجل النجاح في الدنيا, والنجاة في الآخرة, وتعرض السورة لشيء من صفات هذا الخالق العظيم... تنزيها لجلاله عن الشبيه والشريك والمنازع, وتقديسا لألوهيته وربوبيته ووحدانيته.
وتؤكد السورة الكريمة حتمية الإيمان بملائكة الله, وكتبه ورسله دون أدني تفرقة بينهم, والإيمان بالبعث وبالحساب في الآخرة, وبالخلود في الجنة أبدا أو في النار أبدا, وهذه كلها من أمور الغيب المطلق التي لا سبيل للإنسان في الوصول إليها إلا ببيان من الله, بيانا ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من التصورات البشرية.
وفي مجال العبادات, ركزت سورة البقرة علي تفصيل أحكام الطهارة, والصلاة, والزكاة, والصوم, والحج, والعمرة, والجهاد في سبيل الله, وعلي تعظيم حرمة كل من البيت الحرام والأشهر الحرم, وبينت المحرمات من الطعام والشراب والسلوكيات, وأن كل ما عدا المحرمات من الطعام والشراب يؤكل ويشرب حلالا طيبا. وكذلك تأمر السورة الكريمة بالانفاق في سبيل الله, وبالإحسان الي الخلق.
وفي جانب المعاملات, أوضحت سورة البقرة أحكام الزواج, والطلاق, والعدة, والرضاع, والقصاص, والوصية, والدين, والرهن, والنذور, والصدقات, وحقوق الأيتام, وغير ذلك من المعاملات المالية.
وحذرت السورة الكريمة من متابعة الكفار والمشركين والمنافقين, خاصة من كان منهم من أهل الكتاب الذين حرفوا دينهم, وكذبوا علي رب العالمين, وأوهموا أنفسهم زورا أنهم شعب الله المختار, وأبناؤه وأحباؤه, وأن لهم عند رب العالمين ما ليس لغيرهم من المخلوقين من أمثال اليهود المجرمين, الذين كانوا ركازة الكفر عبر التاريخ, فوقفوا حجر عثرة أمام كل دعوة ربانية صحيحة, وحاربوا الرسالة الخاتمة التي بعث بها النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم) فعارضوه, ونقضوا كل عهودهم معه, وتحالفوا مع عبدة الأوثان ضده, ولايزالون هكذا الي اليوم, والي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن عليها... يمثلون أبشع صور الكفر, والظلم والنفاق, وسوء الأخلاق وكراهية الحق, وبغض الإنسانية والاستعلاء كذبا عليها, والتآمر ضدها تآمر الشياطين الملاعين ما وسعهم إلي ذلك سبيلا.
وتحدثت سورة البقرة عن عدد من صفات المتقين, وعن بعض صفات المنافقين من الكفار والمشركين, وضربت نماذج لكل من الطائفتين, كما عرضت لشيء من وصف نعيم المتقين في الجنة, ولعذاب كل من الكافرين والمشركين في النار, وقد ماتوا علي كفرهم أو شركهم, ولذلك فسوف يخلدون فيها..!! وتصف السورة جانبا من ذلهم وحيرتهم يوم القيامة..!!
وفي هذه السورة الأولي في ترتيب المصحف الشريف بعد فاتحة الكتاب, جاء عرض رائع لقصة آدم( عليه السلام) من لحظة خلقه, وخلق أمنا حواء( رضي الله عنها) الي لحظة هبوطهما علي الأرض.
وفي أكثر من ثلث هذه السورة المباركة, جاء الحديث عن عصاة اليهود من بني إسرائيل( لعنهم الله في الدنيا والآخرة), وعن حقارة نفوسهم, وخبث نواياهم, وشيطانية مكرهم, وخطورة كيدهم, ولؤمهم, وغدرهم,وتحريفهم لدينهم, وكذبهم علي الله, ورسله, ومحاربتهم لأوليائه, وخياناتهم لكل الوعود والعهود والمواثيق التي يقطعونها علي أنفسهم, وتزييفهم للحق, ونصرتهم للباطل, وغير ذلك مما جبلت عليه نفوسهم الشيطانية الشريرة من كفر بالله وشرك به, وكراهية للخلق وتآمر عليهم, ورغبة دفينة في إيذاء الآخرين وتدميرهم, علي الرغم من أن الله( تعالي) كان قد نجاهم من آل فرعون الذين ساموهم سوء العذاب, إلا أنهم عبدوا العجل, وحرفوا الدين, وكتموا ما أنزل الله من كتاب, واشتروا به ثمنا قليلا.
كذلك أشارت سورة البقرة, الي اختلاف أتباع عيسي( عليه السلام) من بعده فمنهم من آمن ومنهم من كفر, وعرضت لجانب من قصة إبراهيم( عليه السلام) مع النمرود( عليه اللعنة), وكذلك لقصته مع قضية البعث.
وتحدثت سورة البقرة, عن واقعة تحويل القبلة, وأكدت أن الله( تعالي) قد جعل أمة الإسلام أمة وسطا ليكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليهم شهيدا.
وتأمر السورة الكريمة في العديد من مقاطعها بالجهاد في سبيل الله دون اعتداء, وتعظم منازل الشهداء, ومنازل كل من الصابرين في البأساء والضراء, والموفين بعهودهم إذا عاهدوا.
وتدعو سورة البقرة في كثير من أجزائها, الي التأمل بعين البصيرة في آيات الله العديدة المنتشرة في كل من الأرض والسماء, وتنهي عن اتباع الشيطان لأنه عدو مبين للإنسان, كما تنهي عن أخذ الدين بالميراث, أي بالاتباع الأعمي لما عليه الوالدان من دين, دون تمعن وتدبر واحتكام للعقل واقتناع بصحة ما يعتنقه الفرد, وتنهي كذلك عن التداول بالمال الحرام, وعن رشوة الحكام, وعن التعامل بالربا, وعن تناول الخمر, ولعب الميسر, وعن أكل مال اليتيم, وعن التزاوج بين المسلمين والمشركين, وتأمر باعتزال النساء في المحيض, وتكرر الحض علي الإنفاق في سبيل الله, وتؤكد أن الله( تعالي) هو الذي يؤتي الحكمة من يشاء, وأن من يؤتاها فقد أوتي خيرا كثيرا, وتحذر الناس من يوم يرجعون فيه الي الله ثم توفي كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون*, وتضع ضوابط للتعامل بالدين في آية تعتبر أطول آيات القرآن الكريم, وتحذر من كتم الشهادة.. ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم*.
وتختتم بقول الحق( تبارك وتعالي):
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله علي كل شيء قدير* آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله, وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير* لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت, ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته علي الذين من قبلنا, ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين*.
(البقرة:284 ـ286)
وهو دعاء يهز القلوب والعقول, ويحرك الأرواح والمشاعر لما فيه من معاني الخضوع التام لله وحده بالعبودية, والإقرار له وحده بالألوهية والربوبية, دون الشبيه أو الشريك أو المنازع, والإيمان به( تعالي) وبملائكته وكتبه ورسله وباطلاعه علي خائنة الأعين وما تخفي الصدور, وتأكيد وحدة الرسالة السماوية دون أدني تفرقة بينهم.!! ثم طلب العفو, والمغفرة, والرحمة من الله( تعالي) وطلب النصر منه علي كافة أنماط الكفار والمشركين من أمثال الصهاينة المعتدين الغاصبين المتجبرين علي إخواننا الفلسطينيين العزل الآمنين علي أرض فلسطين, وأشياعهم من النصاري المتهودين كالأمريكان المتغطرسين بقوتهم المادية علي كافة شعوب الأرض, ومآلهم جميعا الدمار الكامل في الدنيا, والخلود في نار جهنم في الآخرة إن شاء الله رب العالمين, وما ذلك علي الله بعزيز اللهم آمين.. آمين.. آمين يارب العالمين.
والآيات الكونية التي جاءت الإشارة إليها في سورة البقرة عديدة, نختار منها ما يلي:
(1)( الصيب) وهو المطر الغزير المصحوب بالرعد والبرق والصواعق والعواصف والذي يكثر في ظلام الليل.
(2) إمكانية أن يخطف البرق بصر الذين يحملقون فيه.
(3) تقديم حاسة السمع علي حاسة الإبصار في العديد من آي القرآن الكريم, كما هو الحال في هذه السورة المباركة( الآية رقم40).
(4) فرش الأرض وبناء السماء بإذن الله.
(5) حقيقة الخلق.
(6) إنزال الماء من السماء, وإحياء الأرض به إن شاء الله( تعالي), ونمو النباتات ونضج ثمارها بنزوله بإذن الله.
(7) إنزال القرآن الكريم معجزة لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم), الي قيام الساعة, وحفظه بنفس لغة وحيه( اللغة العربية) كلمة كلمة, وحرفا حرفا دون أدني تغيير أو تحريف أو تبديل كما حدث في الرسالات السابقة.
( حقيقة الخلق من العدم, والإفناء الي العدم, ثم الخلق من جديد.
(9) حقيقة خلق كل ما في الأرض قبل تسوية السماء الي سبع سماوات.
(10) وصف تفجر الحجارة بالأنهار, وتشققها فيخرج منها الماء.
(11) خلق السماوات والأرض.
(12) اختلاف الليل والنهار.
(13) جري الفلك في البحر.
(14) خلق الحياة وبثها في الأرض.
(15) تصريف الرياح.
(16) تسخير السحاب بين السماء والأرض.
(17) تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.
(18) الأهلة مواقيت للناس والحج.
(19) تحريم كل من الخمر والميسر.
(20) الأمر باجتناب النساء في وقت المحيض.
(21) التشبيه بقوله( تعالي):.. كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين.
(22) التشبيه بقول الحق( تبارك وتعالي):.. فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت...*.
(23) تحريم الربا.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج الي معالجة مستقلة, خاصة بها, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي القضية الأولي من القضايا المسرودة في هذه القائمة, والتي يشبه الله( تعالي) فيها موقف المنافقين من أمثال اليهود المجرمين الذين آمنوا ثم كفروا, بالذي انتقل من النور الي الظلام, ومن البصيرة الي العمي, ومن الهداية الي الضلال, ومن الرشد الي الغي, فترك في ظلمات الشك والحيرة, والكفر أو الشرك, والنفاق والضياع, لا يهتدي الي خير, ولا يدرك طريقا للنجاة, ولذلك قال( تعالي) فيهم:
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون* صم بكم عمي فهم لا يرجعون* أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين* يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله علي كل شيء قدير*
(البقرة:17 ـ20).
وقبل عرض الدلالة العلمية للتعبير القرآني أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..*, لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين فيه.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..*( البقرة:19).
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) ما نصه: هذا مثل آخر ضربه الله تعالي لضرب آخر من المنافقين, وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخري, قلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم( كصيب) والصيب: المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق, و(رعد): وهو ما يزعج القلوب من الخوف, فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالي يحسبون كل صيحة عليهم)..( وبرق) هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان....
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) ما نصه أو) مثلهم( كصيب) أي: كأصحاب مطر, وأصله صيوب من صاب يصوب, أي: نزل ينزل( من السماء) السحاب( فيه) أي: السحاب( ظلمات) متكاثفة( ورعد) وهو الملك الموكل به, وقيل صوته( وبرق) لمعان سوطه الذي يزجره به....
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:
إنه مشهد عجيب, حافل بالحركة, مشوب بالاضطراب... إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل, الي الظلمات والرعد والبرق, الي الحائرين المفزعين فيه, الي الخطوات المروعة الوجلة, التي تقف عندما يخيم الظلام... إن هذه الحركة في المشهد لترسم ـ عن طريق التأثر الإيحائي ـ حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون....
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته) ما نصه أو كصيب من السماء) الصيب ـ كسيد ـ: المطر, من الصوب وهو النزول, يقال: صاب صوبا, إذا نزل وانحدر, سمي به المطر لنزوله, أي كمثل قوم نزل بهم المطر من السماء, وهي جهة العلو والمراد السحاب, وهو مثل آخر للمنافقين, يصف حيرتهم وشدة الأمر عليهم,( فيه ظلمات ورعد وبرق) تصحب الأمطار الشديدة التي تحدث عند تكاثف السحب في السماء وحجبها ضوء الشمس عن الأرض ـ ظلمات كأنها سواد الليل, ورعد يصم الآذان, وبرق يخطف الأبصار, وصواعق تحرق ما تصيبه....
وذكر كل من أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم وغيرهم من المفسرين, كما ذكر صاحب صفوة التفاسير( جزاهم الله خيرا) كلاما مشابها لا داعي لتكراره هنا.
الدلالة العلمية للآية الكريمة
ـ البرق والصواعق المصاحبة للعواصف والاعاصير الرعدية
ـ الاظلام المصاحب للعواصف والاعاصير الرعدية
ـ الدوامات الهوائية القمعية الشكل
هذا الوصف القرآني المعجز, الذي يقول فيه ربنا تبارك وتعالي: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق..* ينطبق علي الأعاصير الرعدية العنيفة, وهي أعاصير حلزونية, دوارة, عنيفة الحركة والسرعة, ولذلك تعرف باسم الأعاصير الدوارة
Cyclones
وهي كتل من الهواء تدور حول منطقة من مناطق الضغط المنخفض في عكس اتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي, وفي اتجاهها تماما في نصف الكرة الجنوبي, وتتحرك هذه الأعاصير بسرعات فائقة تزيد علي73 ميلا في الساعة, وقد تصل الي130 ميلا في الساعة أو الي سرعات أعلي. ولذلك فهي أعاصير عنيفة, مدمرة, تصاحب غالبا بتلبد السماء بالغيوم الداكنة السميكة القريبة من سطح الأرض, والتي تحجب أشعة الشمس بالنهار, ونور القمر والنجوم بالليل, محدثة ظلمة قابضة.
وتصاحب هذه الظلمة بحدوث كل من ظاهرتي البرق والرعد, وهطول الأمطار بغزارة شديدة, وهذا ما تصفه الآية الكريمة بدقة علمية بالغة, علي الرغم من ورودها في مقام التشبيه.
ونظرا لانتشار هذه الأعاصير في المناطق المدارية, فقد سميت باسم الأعاصير المدارية الدوارة
Tropical Cyclones
وقد عرفت بأسماء أخري في كل منطقة من تلك المناطق المدارية, منها اسم هريكين
Hurricane
في الأمريكتين, واسم تيفون
Typhoon
في مناطق بحر الصين( وهي لفظة صينية تعني الرياح الكبيرة), واذا كانت محددة المساحة علي اليابسة فإنها تأخذ أشكالا قمعية ولذا تعرف باسم الدوامات الهوائية القمعية أو التورنادو
Tornadoes
وهي من أصغر تلك الأعاصير حجما وأكثرها تدميرا.
والأعاصير ليست مقصورة علي المناطق المدارية وإن سادت فيها, وذلك لأنها تحدث أيضا في مناطق العروض الوسطي, وهذه الأعاصير لم تعرف صفاتها, ولم يتم تصنيفها إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي, ووصفها بهذه الدقة العلمية البالغة من قبل اثني عشر قرنا علي الأقل, لمما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويشهد لهذا النبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة فصلي الله وسلم وبارك عليه وعلي آله وصحبه, ومن تبع هداه, ودعا بدعوته الي يوم الدين رغم أنف المارقين من الكفار والمشركين في كل عصر ومصر وفي كل حين...!!
الأعاصير المدارية
تتكون الأعاصير المدارية بين خطي عرض5 و20 درجة شمال وجنوب خط الاستواء, وتنشأ بدوران الهواء البارد حول مناطق الضغط المنخفض التي تتكون بالتسخين المحلي في بعض المناطق وبتوافر بقية الظروف اللازمة لتكون تلك الأعاصير ومن بينها هدوء الهواء وسكونه أو قلة تحركه, ويؤدي ذلك الي تسخين طبقة الهواء الملامسة لسطح الأرض( سواء كان ذلك يابسة أو ماء) فتتمدد الي أعلي ليحل محلها تيارات من الهواء البارد, مما يؤدي الي حدوث حالة من عدم الاستقرار في هواء المنطقة.
وكلما زاد عمق منطقة الضغط المنخفض, وزادت شدة انحدار جوانبها بزيادة الفرق بين ضغطها, والضغوط المحيطة بها, زاد الإعصار عنفا, فتدور حولها الرياح بسرعات فائقة تصل الي قرابة الثلاثمائة كيلومتر في الساعة, بينما يكون الهواء الساخن في مركزها ساكنا تقريبا.
وتتوافر ظروف تكون هذه الأعاصير بصفة خاصة في منطقة الركود الاستوائي, حيث تتقابل الرياح التجارية في نصفي الكرة الأرضية مندفعة باتجاه منطقة الضغط المنخفض وما بها من هواء ساخن يتجدد ويتصاعد الي أعلي باستمرار, ومنحرفة الي يمين اتجاهها في نصف الكرة الشمالي, والي يسار اتجاهها في نصفها الجنوبي, وذلك بسبب دوران الأرض حول محورها.
ولذلك تنشأ هذه الأعاصير بصفة خاصة فوق البحار الاستوائية والمدارية في فصلي الصيف والخريف, ويصل قطر الدوامة الواحدة منها الي خمسمائة كيلومتر, ويصل قطر مركزها الذي يسمي عين الإعصار الي أربعين كيلومترا, وتتراوح مدد مكث تلك الأعاصير بين عدد قليل من الأيام وأكثر من أسبوعين.
وتصاحب الأعاصير المدارية عادة بتكون السحب الداكنة الكثيفة والقريبة من سطح الأرض, وبسقوط الأمطار الغزيرة المصاحبة بظاهرتي البرق والرعد.
ومما يساعد علي استمرار ارتفاع الهواء الساخن في مناطق الركود الاستوائية, ارتفاع نسبة الاشعاع الشمسي مما يؤثر علي ارتفاع معدلات تبخر ماء البحار والمحيطات, وبالتالي الي ارتفاع نسبة الرطوبة في الهواء مما يعين علي تكوين السحب الكثيفة الداكنة بإذن الله وعلي هطول الأمطار الغزيرة, حيث يشاء, وكلها من العمليات التي تتسبب في رفع درجات الحرارة الكامنة في عين الإعصار, وفي استمرار تحرك الهواء الساخن الي أعلي, واندفاع الهواء البارد من المناطق المحيطة ليدور حوله أو يحل محله.
والأعاصير المدارية تتكون أساسا فوق البحار والمحيطات, وعندما تندفع في اتجاه اليابسة تفقد كثيرا من سرعتها باحتكاكها مع سطح الأرض, ولكنها تظل قادرة علي إحداث قدر هائل من الدمار من مثل هدم المباني والمنشآت, والخسائر في الأرواح والممتلكات, وحدوث السيول الجارفة, والفيضانات والأمواج المغرقة للسفن والمنشآت البحرية علي طول السواحل والي مسافات متباينة في عمق اليابسة.
وتكثر الأعاصير المدارية في كل من جزر الهند الغربية, وسواحل فلوريدا, وخليج المكسيك, وفي بحر الصين وسواحل الجزر اليابانية, وفي بقية جزر المحيط الهادي وفي شرقي استراليا, وفي خليج البنغال, وفي جنوب المحيط الهندي.
الدوامات الهوائية القمعية الشكل
تطلق كلمة تورنادو
Tornado
علي الدوامات الهوائية القمعية الشكل, وهي من الأعاصير المدارية الشديدة الأثر والتي تضرب الأجزاء الجنوبية من الولايات المتحدة الأمريكية سنويا في مساحات صغيرة من الأرض قد لا يتعدي قطرها المائة متر, تدور فيها الرياح بسرعات مدمرة حول مركز الإعصار الذي ينخفض الضغط الجوي فيه بدرجة قياسية, وتصاحبه الأمطار الغزيرة المصحوبة بظاهرتي البرق والرعد في أشد صورهما.
وعند مرور هذه الدوامات الهوائية القمعية الشكل فوق ماء البحار والمحيطات, يرتفع سطح الماء الي أعلي علي هيئة مخروط يعرف باسم النافورات المائية, يقابله مخروط من السحب يتدلي نحو سطح البحرفيحدث ظلمة شبه كاملة, وتشكل هذه الظروف خطرا داهما يهدد السفن البحرية بالإغراق, وتحدث مثل هذه الدوامات الهوائية القمعية الشكل غالبا بعد الظهر في فصلي الربيع والصيف حين تبلغ درجات الحرارة نهاياتها العظمي وتستمر بضع ساعات.
وتتحرك هذه الدوامات الهوائية بسرعات كبيرة تصل الي70 كيلومترا في الساعة, ولكن أثرها سرعان ما يتلاشي علي الرغم من قوتها التدميرية الكبيرة, المتمثلة في اقتلاع الأشجار وتحطيم المباني والمنشآت علي اليابسة, وفي إغراق السفن في عرض البحار.
أعاصير العروض الوسطي
تنشأ أعاصير العروض الوسطي بين خطي عرض35 و65 درجة في نصفي الكرة الشمالي والجنوبي, حيث تنشأ في النصف الشمالي من التقاء الرياح المدارية العكسية( الغربية) الدافئة الرطبة القادمة من الجنوب مع الرياح القطبية الباردة الجافة القادمة من الشمال, فتندفع الرياح الباردة تحت الدافئة, رافعة إياها الي أعلي ومكونة سطح انفصال بين الكتلتين الباردة والدافئة, يندفع فوقه الهواء الدافيء علي هيئة موجات تشكل كل واحدة منها النواة الأولي لإعصار منخفض, يأخذ في النمو التدريجي مكونا منطقة من الضغط المنخفض فوق سطح الانفصال, يندفع فيها الهواء البارد محاولا الوصول الي مركزها باتجاه معاكس لاتجاه عقارب الساعة في نصف الكرة الشمالي, ومعه في نصف الكرة الجنوبي, ويظل الإعصار نشيطا حتي يتم هيمنة الهواء البارد علي قلب الإعصار فيبدأ في التلاشي بالتدريج, وتصاحب أعاصير العروض الوسطي بتكون سحب رقيقة متفرقة علي ارتفاع كبير, تتزايد كثافة وسمكا وقربا من سطح الأرض بتزايد الإعصار شدة, حتي تتلبد السماء بالغيوم الداكنة الكثيفة فتحجب ضوء الشمس بالنهار, ونور القمر وأضواء النجوم بالليل, وعندئذ يبدأ هطول المطر بزخات خفيفة تتزايد بالتدريج مع حدوث البرق والرعد, حتي تنهمر الأمطار بغزارة في جو من البرودة الشديدة والاضطرابات الجوية العديدة, ثم يأخذ الجو في التحسن التدريجي بابتعاد مركز الاعصار ولكن تظل درجة الحرارة مائلة الي البرودة النسبية.
وتتفاوت أعاصير العروض الوسطي في أحجامها, وأعماق بؤرها, وفي شدة انحدار جوانبها, فمنها ما لا يزيد قطره علي(300) كيلومتر, ومنها ما يتجاوز ذلك(1500) كيلومتر, ومنها ما هو شديد العمق وما هو ضحل, ومنها ما هو شديد الانحدار, وما هو قليله.
وأثر هذه الأعاصير لا يقتصر علي حدود المنطقة التي تغطيها, ولكنه يمتد الي خارجها, ويتوقف ذلك علي عمق مركز الاعصار وعلي درجة انحدار جوانبه, أي: علي تباين كل من الضغط ودرجة الحرارة بين عين الإعصار وحوافه, والتي تتوقف عليها سرعة الرياح حول مركز الإعصار.
من هذا الاستعراض يتضح بجلاء أن الوصف القرآني للأعاصير كما جاء في هذا النص القرآني المعجز:
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق...( البقرة:19).
ينطبق انطباقا كاملا علي الحقائق التي توصلت إليها المعارف المكتسبة في زمن التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه, والتي لم يدرك علم الإنسان طرفا منها إلا مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي.
وورودها في كتاب الله الذي أنزل منذ أكثر من أربعة عشر قرنا بهذه الدقة العلمية الفائقة, والشمول الكامل, والإحاطة التامة لايمكن لعاقل أن يتصور له مصدرا غير الله الخالق( تبارك وتعالي).
فسبحان الذي أنزل القرآن الكريم, أنزله بعلمه, علي خاتم أنبيائه ورسله, وصلي الله وسلم وبارك علي النبي الخاتم, والرسول الخاتم, الذي تلقي هذا الوحي الخاتم, فبلغ الرسالة, وأدي الأمانة, ونصح الأمة, وجاهد في سبيل الله حتي أتاه اليقين, فنسأل الله( تعالي) أن يجزيه خير ما جازي به نبيا عن أمته, ورسولا علي حسن تبليغ رسالته, والحمد لله أولا وأخيرا علي حفظ القرآن العظيم, هذا الكتاب الكريم, بنفس لغة الوحي( اللغة العربية), في صفائه الرباني, وإشراقاته النورانية, فجاء معجزا في كل أمر من أموره, وفي كل آية من آياته, وكلمة وحرف من كلماته وحروفه, ولو جاء ذلك في مقام ضرب المثل أو التشبيه, حتي يبقي هذا الكتاب الخالد حجة علي الناس كافة الي قيام الساعة لا ينكره إلا جاحد, ولا يتركه وراء ظهره إلا شقي.