وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج
وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا
* الفرقان:53*
بقلم: د. زغـلول النجـار
هـذه الآية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخير من سورة الفرقان, وهي سورة مكية, وآياتها سبع وسبعون, وقد سميت بهذا الاسم الكريم( الفرقان), وهو اسم من أسماء القرآن العظيم, لكونه فارقا بين الحق والباطل..
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, ومن ركائزها: تنزيه الله( تعالي) عن كل وصف لا يليق بجلاله من مثل نسبة الولد زورا إليه, والادعاء الباطل بوجود شركاء له في ملكه, والهروب من الاعتراف بالحقيقة الجلية أنه تعالي خالق كل شيء بتقدير دقيق, وحكمة بالغة, وأن له( وحده) ملك السماوات والأرض دون شريك, ولا شبيه, ولا منازع, وهي من صفات الألوهية الحقة..
وتبدأ سورة الفرقان بتمجيد الله وتعظيمه, وبالتأكيد علي أنه( تعالي) هو الذي أنزل القرآن الكريم علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) فارقا بين الحق والباطل ليكون نذيرا للعالمين, في كل وقت وفي كل حين; وتنعي السورة الكريمة علي الذين كفروا إنكارهم لتلك الحقيقة القائمة, وتطاولهم علي كل من كتاب الله وخاتم الأنبياء والمرسلين, وإنكارهم ليوم الدين, وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي):
قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما
[الفرقان:6].
كذلك تنعي عليهم تعنتهم بالاعتراض علي بشرية خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وعلي محدودية حظه من المال, وعلي تنزل القرآن منجما, وقد أنزل كل من الكتب السابقة دفعة واحدة; وتطاولهم بطلب الرسالة السماوية من الملائكة مباشرة; أو طلب رؤية الله جهرة حتي يؤمنوا به, وهي صورة من صور الصلف الكافر الذي لا يفهم لمدلولات كل من الألوهية والنبوة والرسالة, حقيقة ولا معني صحيحا...!!
وتعرض السورة الكريمة لشيء من مشاهد الآخرة, ولعذاب الكافرين في نار جهنم, وتقارن بين هذا العذاب المهين, وبين تكريم الله للمتقين في جنات النعيم...!!
كما تعرض لمصارع المكذبين في عدد من الأمم السابقة علي هذه الأرض, وإلي شيء من مصائرهم يوم القيامة, وندمهم علي ما قد فرطوا فيه من حقوق الله وحقوق عباده, وعلي انصرافهم عن اتباع الرسول الخاتم والنبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وتوليهم لأهل الكفر والشرك والضلال, اتباعا لغواية الشيطان, ولغواية الغاوين من بني الإنسان, وعبادة لهوي النفس الذي يعمي ويصم عن رؤية الحق, وعن الاستماع إلي حجيته ومنطقه فيهوي ذلك بالإنسان إلي ما دون مستوي البهائم..!!
ويشكو المصطفي( صلي الله عليه وسلم) إلي ربه هجر قومه للقرآن الكريم, وهذه الشكوي كما كانت قائمة في زمن النبوة تظل قائمة في كل زمان يهجر فيه القرآن, ويقصي عن مناط الحكم والتشريع...!!
وتعرج سورة الفرقان إلي تخفيف الأمر عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بتذكيره بأن كافة الأنبياء والمرسلين من قبله قد جوبهوا من قبل أهل الكفر والضلال بعداوة شديدة, وبالتأكيد له علي أن الله( تعالي) عالم بذلك, مطلع عليه, ومجاز به, وتوصيه بالصبر والمصابرة, وبمجاهدة الكافرين بما في القرآن العظيم من حق أبلج, وتعينه علي ذلك بأمره بالتوكل علي الله( تعالي), الحي الذي لا يموت, وبالتسبيح دوما بحمده, وتعيد إلي ذاكرته( صلي الله عليه وسلم) أن دوره هو دور البشير النذير..
وتقرر السورة الكريمة أن من صلف الكافرين وتطاولهم وضلالهم إنكار الله الخالق( سبحانه وتعالي) وعبادة من دونه ما لا ينفعهم ولا يضرهم, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر علي ربه ظهيرا
[الفرقان:55]..
ويقول( عز من قائل):
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا[ الفرقان:60].
وفي المقابل تنتقل السورة الكريمة إلي استعراض عدد من صفات عباد الرحمن, في مقارنة رائعة بين صفات أهل الحق وصفات أهل الباطل, مؤكدة جزاء الصالحين بالخلود في جنات النعيم, في حفاوة وتكريم من الله وملائكته, وتنتهي بتأكيد هوان البشرية كلها علي الله( تعالي) لولا تلك الطائفة القليلة من عباده الصالحين الذين يعرفون معني الألوهية والربوبية الحقة لجلال الله الخالق( سبحانه وتعالي) فيجأرون بالدعاء له طلبا لرحمته ورضوانه, أما الغالبية الساحقة من البشر الذين كفروا بالله, أو أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا, واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا, لأن الله( تعالي) قد تعهد أن يجزيهم بسوء أعمالهم جزاء ملزما..
وفي معرض الاستشهاد علي صدق ما جاء بهذه السورة المباركة وردت الإشارة إلي العديد من الآيات الكونية التي منها:
(1) أن الله( تعالي) هو خالق كل شيء ومقدره تقديرا وفق علمه وحكمته وقدرته, وأنه( تعالي) هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض.
(2) أن تشقق السماء بالغمام من بدايات انهيار النظام الكوني.
(3) الإشارة إلي دوران الأرض حول محورها بمد الظل وقبضه.
(4) تخصيص الليل للنوم والراحة, وتخصيص النهار لليقظة والجري وراء المعايش.
(5) أن الله( تعالي) هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته, وأنه( سبحانه وتعالي) هو الذي ينزل من السماء ماء طهورا ليحيي به أرضا ميتة, ويسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا.
(6) أن الله( تعالي) هو... الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا.
(7) أن الله( تعالي) هو... الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا....
( أن الله( تعالي) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام( أي ست مراحل متتالية).
(9) أن الله( تعالي) هو... الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.
(10) أن الله( تعالي) هو... الذي جعل الليل والنهار خلفة... وهي إشارة ضمنية رقيقة إلي حقيقة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس.
وكل آية من هذه الآيات الكونية العشر تحتاج إلي مناقشة موضوعية خاصة بها, ولما كان المقام لا يتسع لذلك أجدني مضطرا لقصر الحديث هنا علي آية واحدة منها ألا وهي الآية الثالثة والخمسون المشار إليها هنا في النقطة السادسة أعلاه, التي تصف التقاء ماء النهر العذب الفرات بماء البحر الملح الأجاج, وقبل الولوج في ذلك أري لزاما علي أن أعرض لعدد من أقوال المفسرين السابقين في شرح هذه الآية الكريمة, ولشرح دلالات الغريب من ألفاظها علي مسامع أهل عصرنا الذي نسي كثير من العرب فيه لغتهم الأم ولغة كتاب دينهم العظيم.
من أقوال المفسرين
في تفسير الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي): وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا( الفرقان:53)..
ذكرابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله تعالي وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) أي خلق الماءين الحلو والمالح, فالحلو كالأنهار والعيون والآبار. قاله ابن جريج واختاره, وهذا المعني لا شك فيه, فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات, والله( سبحانه وتعالي) إنما أخبر بالواقع لينبه العباد إلي نعمه عليهم ليشكروه, فالبحر العذب فرقه الله تعالي بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا أو عيونا في كل أرض, بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم, وقوله تعالي وهذا ملح أجاج) أي مالح, مر, زعاف لا يستساغ, وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب, البحر المحيط وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر, وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري, ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح, ومنها ما فيه مد وجزر, ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض, فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتي ترجع إلي غايتها الأولي, فأجري الله( سبحانه وتعالي) ـوهو ذو القدرة التامةـ العادة بذلك; فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله( سبحانه وتعالي) مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء, فيفسد الوجود بذلك, ولئلا تجوي الأرض بما يموت فيها من الحيوان, ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة, ولهذا قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به؟ فقال هو الطهور ماؤه, الحل ميتته). وقوله تعالي وجعل بينهما برزخا وحجرا) أي بين العذب والمالح, وبرزخا أي حاجزا وهو اليبس من الأرض( وحجرا محجورا) أي مانعا من أن يصل أحدهما إلي الآخر كقوله تعالي مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان), وقوله تعالي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون).....
وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه وهو الذي مرج البحرين) أرسلهما متجاورين( هذا عذب فرات) شديد العذوبة( وهذا ملح أجاج) شديد الملوحة( وجعل بينهما برزخا) حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر( وحجرا محجورا) سترا ممنوعا به اختلاطهما.....
وجاء في تفسير الظلال( رحم الله كاتبه) ما نصه:... وهو الذي ترك البحرين, الفرات العذب والملح المر, يجريان ويلتقيان, فلا يختلطان ولا يمتزجان, إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالبا أعلي من سطح البحر, ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح, ولا يقع العكس إلا شذوذا, وبهذا التقدير الدقيق لا يطغي البحر ـوهو أضخم وأغزرـ علي النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات, ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام..
وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغي مياه المحيطات الملحة لا علي الأنهار ولا علي اليابسة حتي في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي علي سطح الأرض, ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما..
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) ما نصه مرج البحرين...) أرسل البحرين: العذب والملح في مجاريهما متجاورين; كما ترسل الخيل في المرج. يقال: مرج الدابة يمرجها, أرسلها ترعي. أو خلطهما فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه; من المرج وأصله الخلط. يقال: مرج أمرهم يمرج, اختلط; ومنه قيل للمرعي: مرج; لاجتماع أخلاط من الدواب فيه.
( عذب فرات) شديد العذوبة, مائل إلي الحلاوة وهو ماء الأنهار. وسمي فراتا لأنه يفرت العطش, أي يقطعه ويكسره.( ملح أجاج) شديد الملوحة والمرارة, وهو ماء البحار. سمي أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار, لأن شربه بزيد العطش.( وبرزخا) حاجزا عظيما من الأرض, يمنع بغي أحدهما علي الآخر; لحفظ حياة الإنسان والنبات; كما قال تعالي بينهما برزخ لا يبغيان).( وحجرا محجورا) أي وجعل كل واحد منهما حراما محرما علي الآخر أن يفسده. والمراد: لزوم كل منهما صفته; فلا ينقلب العذب في مكانه ملحا ولا الملح في مكانه عذبا..
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: والله هو الذي أجري البحرين: البحر العذب والبحر الملح, وجعل المجري لكل واحد يجاور المجري الآخر, ومع ذلك لا يختلطان, نعمة ورحمة بالناس..
وجاء في تعليق الخبراء العلميين بالهامش ما يلي:.. قد تشير هذه الآية إلي نعمة الله علي عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تاما بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق يطفو العذب منها فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بغي أحدهما علي الآخر, وحجرا محجورا, أي حاجزا خفيا مستورا لا نراه..
وليس هذا فقط بل إن هناك قانونا ثابتا يحكم هذه العلاقة ويتحكم فيها لمصلحة البشر ممن يسكنون في تلك المناطق وتتوقف حياتهم علي توافر الماء العذب, فقد ثبت أن طبقة الماء العذب العليا يزداد سمكها مع زيادة الارتفاع عن منسوب البحر بعلاقة منتظمة حتي إنه يمكن حساب العمق الأقصي للماء العذب الذي يمكن الوصول إليه. فهو يساوي قدر الفرق بين منسوب الأرض ومنسوب البحر أربعين مرة..
وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خير الجزاء) ما نصه وهو الذي مرج البحرين) أي هو تعالي بقدرته خلي وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان( هذا عذب فرات) أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته( وهذا ملح أجاج) أي بليغ الملوحة, مر شديد المرارة( وجعل بينهما برزخا) أي جعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما علي الآخر( وحجرا محجورا) أي ومنعا من وصول أثر أحدهما إلي الآخر وامتزاجه به.....
الدلالات اللفظية لبعض كلمات الآية الكريمة
(1)( مرج): ذكرت معاجم اللغة( كمعجم ابن فارس) أن الميم, والراء, والجيم أصل صحيح يدل علي المجيء والذهاب والاضطراب, وقالوا مرج) الخاتم في الإصبع أي قلق واضطرب لاتساعه عن حجم الإصبع; ومنه قيل مرجت) أمانات القوم وعهودهم أي اضطربت واختلطت; و(مرج) الأمر اختلط, ومنه الهرج والمرج, وأمر( مريج) أي مختلط, و(المرج) في اللغة هو مرعي الدواب, أي الأرض التي يكثر فيها النبات فتمرج فيه الدواب وتختلط; ولذلك قيل مرج) الدابة و(أمرجها) أي أرسلها ترعي وتختلط بغيرها من الحيوانات في المرعي فـ(مرجت), لأن أصل( المرج) هو الخلط, و(المروج) هو الاختلاط, وقوله( تعالي) مرج البحرين) أي أفاض أحدهما بالآخر, وجعلهما يختلطان دون امتزاج كامل أي دون أن يلتبس أحدهما بالآخر التباسا كاملا..
و(مارج) من نار أي: لهب من نيران مختلطة لا دخان لها..
(2)( عذب فرات): الماء( العذب) هو الماء الطيب المذاق, و(الفرات) هو الشديد العذوبة; والبحر العذب الفرات هو النهر لشدة عذوبة مائه.
(3)( ملح أجاج): الماء( الملح الأجاج) هو, الماء شديد الملوحة والمرارة; وما كان من الماء( ملحا أجاجا) هو م
وكلما كانت كمية الرسوبيات التي يلقيها النهر عند مصبه أكبر من قدرة كل من تيارات المد والجزر, والأمواج والتيارات البحرية الموازية للشاطئ علي إزالته; وتلعب التراكيب الجيولوجية الكبيرة( من مثل حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض) دورا بارزا في ذلك..
عوامل تحكم نشاط النهر علي منطقة مصبه
عند مصبات الأنهار عادة ما يضعف أثر كل من ظاهرتي المد والجزر, وشدة الأمواج والتيارات البحرية فتسود قوي ثلاث أخري هي: القصور الذاتي( أو قوة واستمرارية تدفق تيار الماء في النهر), وقدر الاحتكاك بالرسوبيات في قاع مجري النهر, وطفو الماء العذب فوق سطح الماء المالح..
وتبقي عوامل أخري مساعدة من مثل معدلات تدفق الماء وسرعة تياره, وعمق الماء في مجري النهر, وكتلة الرسوبيات التي يحملها ماء النهر. ففي ظل زيادة سرعة تدفق تيار الماء في مجري النهر, وعمق الحوض البحري الذي يصب فيه, وتدني الفارق في كثافة الماءين الملتقيين يسود القصور الذاتي فيندفع ماء النهر إلي البحر بشدة علي هيئة نفاثات دوارة تعزل ماء النهر عن ماء البحر وتؤخر اختلاطهما وامتزاجهما حتي تضعف معدلات تدفق الماء فيبدأ الامتزاج علي حواف كتلة الماء العذب مكونا ماء قليل الملوحة يفصل ماء النهر عن ماء البحر باستمرار..
وفي كثير من الأنهار يؤدي نقل كميات كبيرة من نواتج عمليات التعرية علي هيئة الرسوبيات المحمولة مع ماء النهر إلي ترسيبها في منطقة مصبه مما يرفع منسوب قاع منطقة المصب ويجعل سمك الماء فيها قليلا خاصة في المنطقة بعد المصب مباشرة مما يؤدي إلي جعلها أعلي من منسوب قاع مجري النهر, وتظل هذه المنطقة تنمو باستمرار نتيجة لاندفاع الماء من النهر علي هيئة تيار نفاث يحتك بالرسوبيات المتجمعة فوق قاعه. وفي منطقة مصبه حتي يبني برزخا من تلك الرسوبيات عموديا علي اتجاه تدفق النهر فيحول دون امتزاج مائه مع ماء البحر امتزاجا كاملا لوجود هذا البرزخ من الرسوبيات ولتكون ماء قليل الملوحة علي حواف طبقة الماء العذب الرقيقة الطافية فوق الماء المالح..
ويؤدي بناء هذا البرزخ الرسوبي إلي تفرع مجري النهر إلي فرعين( أو أكثر) كل واحد منهما علي جانبي البرزخ نظرا لتباطؤ تدفق الماء نتيجة لضحالة المجري وشدة احتكاك الماء بقاعه في أثناء جريانه; وقد يؤدي ذلك إلي زيادة نمو البرزخ علي هيئة حاجزوسطي كبير أو تكرار ترسب أعداد من تلك البرازخ..
ولما كانت كثافة الماء العذب( في حدود جرام واحد/ سم3) أقل من كثافة الماء المالح( في حدود1.026 إلي1.028 جرام/ سم3) فإن الماء العذب يطفو فوق سطح الماء المالح علي الرغم مما يحمله من رسوبيات, ويسمي هذا التدفق المائي باسم التدفق المتباين الكثافة..
ويظل الماء العذب طافيا فوق الماء المالح حتي تتمكن كل من تيارات المد والجزر, والأمواج والتيارات البحرية من المزج بين حواف هذه الطبقة الرقيقة من الماء العذب والماء المالح مكونة ماء قليل الملوحة يفصل بينهما, وهنا يتأثر تدفق الماء العذب بكل من قوة الاستمرار في الاندفاع( القصور الذاتي), وشدة الاحتكاك بقاع المجري, وفرق الكثافة بين الماءين العذب والمالح..
وفي حالة الأنهار ذات التدفق العالي للماء, أو عند فيضاناتها يكون التدفق الطافي للماء العذب فوق سطح الماء المالح هو السمة الغالبة لتدفق ماء تلك الأنهار; ويزداد الاحتكاك برسوبيات القاع مما يؤدي إلي تجمع كم هائل من الرسوبيات أمام مصب النهر علي هيئة سدود نهرية مستقيمة وموازية لمجري النهر تحت الماء في منطقة المصب, تحيط بالماء العذب من الجهتين فاصلة إياه عن الماء المالح فتعينه بذلك علي مزيد من الاندفاع في داخل البحر..
كذلك تبني الرسوبيات سدا هائلا في مواجهة مجري النهر يعرف باسم حاجز توزيع الماء في مصب النهر
(Distributary-MouthBar)
يتراوح عرضه بين أربعة وستة أضعاف عرض مجري النهر; وهذا الحاجز يفصل الماء قليل الملوحة( المتكون نتيجة لمزج جزء من ماء النهر العذب مع ماء البحر الملح) عن الماء العذب. ويتكرر تكون أمثال هذا الحاجز عدة مرات علي مسافات متباعدة من مصب النهر حتي تتكون منطقة تعرف باسم منطقة توزيع ماء النهر تعمل علي مزيد من الفصل بين الأنواع الثلاثة من الماء الموجود في مصبات الأنهار وهي: الماء العذب, والماء قليل الملوحة, والماء الملح..
وعلي ذلك فإن جميع النظم النهرية التي تصب في بحار تتميز بتداخلات معقدة بين كل من العمليات النهرية والبحرية, منها عمليات المد والجزر, التي تعمل علي اختلاط الماءين مكونة ماء متوسط الملوحة يفصل بين هذين الماءين خاصة في حالة التدفقات النهرية الضعيفة, وتزداد عمليات الخلط بين ماء النهر وماء البحر كلما توغلنا في داخل البحر حتي يتحول الماء إلي الطبيعة البحرية الكاملة تاركا وراءه مراحل من الماء القليل الملوحة تعمل كفاصل بين الماءين.
كذلك تساعد عمليات المد والجزر علي تجميع الرسوبيات التي يلقي بها النهر علي هيئة حواجز رسوبية علي مسافات من مصب النهر, ومتصلة بفم النهر بواسطة حواجز طولية موازية لاتجاه تدفق النهر تحول دون امتزاج مائه بماء البحر..
وفي الحالات التي يسود فيها دور عمليات المد والجزر سيادة واضحة يلاحظ أن مجري النهر يتسع عند مصبه اتساعا كبيرا علي هيئة الدلتا التي تعترضها تلال من رسوبيات النهر تعمل كذلك علي عزل مائه عن ماء البحر..
وهذه الحواجز الرسوبية الطولية والهلالية الشكل المعترضة لمجري النهر, وكذلك الشرف النهرية الموازية لمجراه والمندفعة من فم النهر إلي داخل البحر تساعد كلها علي عزل ماء النهر العذب عن ماء البحر المحيط لأطول فترة ممكنة, ثم يتكون بينهما نطاق من الماء قليل الملوحة يزيد من عملية الفصل تلك. وكل من الماء العذب والماء المالح له من صفاته الطبيعية والكيميائية ما يمكنه من البقاء منفصلا انفصالا كاملا عن الآخر علي الرغم من التقاء حدودهما عند مصب النهر, وذلك بتكوين برزخ من الرسوبيات أمام فوهة النهر ومن حوله, ويؤدي ذلك إلي تفرع الماء العذب إلي فرعين أو فروع من حوله, يتدفق منهما أو منها الماء العذب مكونا طبقة رقيقة طافية فوق الماء الملح, وتختلط به عند حوافها مكونة حزاما من الماء قليل الملوحة وذلك بفعل تيارات المد والجزر, والتيارات والأمواج البحرية المختلفة, ويعمل هذا الحزام من الماء القليل الملوحة علي مزيد من الفصل بين المائين العذب والملح, ولكل بيئة من هذه البيئات الثلاث( الماء العذب, والماء قليل الملوحة والماء الملح) أنواع خاصة من أنواع الأحياء المائية المحدودة بحدود بيئتها, وأنواع خاصة من الرسوبيات التي تترسب منها, وبذلك تكون أنواع الحياة في الماء القليل الملوحة مقصورة علي تلك البيئة, ومحجورة فيها, أي لا تستطيع الخروج منها وإلا هلكت, كما أن كل مجموعة من أنواع الحياة في البيئتين الأخريين لاتستطيع دخول الماء القليل الملوحة وإلا هلكت, فيما عدا أعداد قليلة جدا منها تستطيع العبور فيها دون بقاء طويل, ومن هنا كان هذا الماء القليل الملوحة حجرا علي الحياة الخاصة به, ومحجورا علي الحياة في البيئتين الأخريين من حوله.
وهذه حقائق لم يدركها الإنسان إلا في العقـود المتأخرة من القرن العشرين, وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة, مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويجزم بنبوة هذا النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم).. فسبحان الذي أنزل قوله الحق:
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا[ الفرقان:53]..
وقال: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها.....
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..
وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا
* الفرقان:53*
بقلم: د. زغـلول النجـار
هـذه الآية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخير من سورة الفرقان, وهي سورة مكية, وآياتها سبع وسبعون, وقد سميت بهذا الاسم الكريم( الفرقان), وهو اسم من أسماء القرآن العظيم, لكونه فارقا بين الحق والباطل..
ويدور المحور الرئيسي للسورة حول قضية العقيدة الإسلامية, ومن ركائزها: تنزيه الله( تعالي) عن كل وصف لا يليق بجلاله من مثل نسبة الولد زورا إليه, والادعاء الباطل بوجود شركاء له في ملكه, والهروب من الاعتراف بالحقيقة الجلية أنه تعالي خالق كل شيء بتقدير دقيق, وحكمة بالغة, وأن له( وحده) ملك السماوات والأرض دون شريك, ولا شبيه, ولا منازع, وهي من صفات الألوهية الحقة..
وتبدأ سورة الفرقان بتمجيد الله وتعظيمه, وبالتأكيد علي أنه( تعالي) هو الذي أنزل القرآن الكريم علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) فارقا بين الحق والباطل ليكون نذيرا للعالمين, في كل وقت وفي كل حين; وتنعي السورة الكريمة علي الذين كفروا إنكارهم لتلك الحقيقة القائمة, وتطاولهم علي كل من كتاب الله وخاتم الأنبياء والمرسلين, وإنكارهم ليوم الدين, وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي):
قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما
[الفرقان:6].
كذلك تنعي عليهم تعنتهم بالاعتراض علي بشرية خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وعلي محدودية حظه من المال, وعلي تنزل القرآن منجما, وقد أنزل كل من الكتب السابقة دفعة واحدة; وتطاولهم بطلب الرسالة السماوية من الملائكة مباشرة; أو طلب رؤية الله جهرة حتي يؤمنوا به, وهي صورة من صور الصلف الكافر الذي لا يفهم لمدلولات كل من الألوهية والنبوة والرسالة, حقيقة ولا معني صحيحا...!!
وتعرض السورة الكريمة لشيء من مشاهد الآخرة, ولعذاب الكافرين في نار جهنم, وتقارن بين هذا العذاب المهين, وبين تكريم الله للمتقين في جنات النعيم...!!
كما تعرض لمصارع المكذبين في عدد من الأمم السابقة علي هذه الأرض, وإلي شيء من مصائرهم يوم القيامة, وندمهم علي ما قد فرطوا فيه من حقوق الله وحقوق عباده, وعلي انصرافهم عن اتباع الرسول الخاتم والنبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم), وتوليهم لأهل الكفر والشرك والضلال, اتباعا لغواية الشيطان, ولغواية الغاوين من بني الإنسان, وعبادة لهوي النفس الذي يعمي ويصم عن رؤية الحق, وعن الاستماع إلي حجيته ومنطقه فيهوي ذلك بالإنسان إلي ما دون مستوي البهائم..!!
ويشكو المصطفي( صلي الله عليه وسلم) إلي ربه هجر قومه للقرآن الكريم, وهذه الشكوي كما كانت قائمة في زمن النبوة تظل قائمة في كل زمان يهجر فيه القرآن, ويقصي عن مناط الحكم والتشريع...!!
وتعرج سورة الفرقان إلي تخفيف الأمر عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بتذكيره بأن كافة الأنبياء والمرسلين من قبله قد جوبهوا من قبل أهل الكفر والضلال بعداوة شديدة, وبالتأكيد له علي أن الله( تعالي) عالم بذلك, مطلع عليه, ومجاز به, وتوصيه بالصبر والمصابرة, وبمجاهدة الكافرين بما في القرآن العظيم من حق أبلج, وتعينه علي ذلك بأمره بالتوكل علي الله( تعالي), الحي الذي لا يموت, وبالتسبيح دوما بحمده, وتعيد إلي ذاكرته( صلي الله عليه وسلم) أن دوره هو دور البشير النذير..
وتقرر السورة الكريمة أن من صلف الكافرين وتطاولهم وضلالهم إنكار الله الخالق( سبحانه وتعالي) وعبادة من دونه ما لا ينفعهم ولا يضرهم, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر علي ربه ظهيرا
[الفرقان:55]..
ويقول( عز من قائل):
وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا[ الفرقان:60].
وفي المقابل تنتقل السورة الكريمة إلي استعراض عدد من صفات عباد الرحمن, في مقارنة رائعة بين صفات أهل الحق وصفات أهل الباطل, مؤكدة جزاء الصالحين بالخلود في جنات النعيم, في حفاوة وتكريم من الله وملائكته, وتنتهي بتأكيد هوان البشرية كلها علي الله( تعالي) لولا تلك الطائفة القليلة من عباده الصالحين الذين يعرفون معني الألوهية والربوبية الحقة لجلال الله الخالق( سبحانه وتعالي) فيجأرون بالدعاء له طلبا لرحمته ورضوانه, أما الغالبية الساحقة من البشر الذين كفروا بالله, أو أشركوا به ما لم ينزل به سلطانا, واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا, لأن الله( تعالي) قد تعهد أن يجزيهم بسوء أعمالهم جزاء ملزما..
وفي معرض الاستشهاد علي صدق ما جاء بهذه السورة المباركة وردت الإشارة إلي العديد من الآيات الكونية التي منها:
(1) أن الله( تعالي) هو خالق كل شيء ومقدره تقديرا وفق علمه وحكمته وقدرته, وأنه( تعالي) هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض.
(2) أن تشقق السماء بالغمام من بدايات انهيار النظام الكوني.
(3) الإشارة إلي دوران الأرض حول محورها بمد الظل وقبضه.
(4) تخصيص الليل للنوم والراحة, وتخصيص النهار لليقظة والجري وراء المعايش.
(5) أن الله( تعالي) هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته, وأنه( سبحانه وتعالي) هو الذي ينزل من السماء ماء طهورا ليحيي به أرضا ميتة, ويسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا.
(6) أن الله( تعالي) هو... الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا.
(7) أن الله( تعالي) هو... الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا....
( أن الله( تعالي) هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام( أي ست مراحل متتالية).
(9) أن الله( تعالي) هو... الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا.
(10) أن الله( تعالي) هو... الذي جعل الليل والنهار خلفة... وهي إشارة ضمنية رقيقة إلي حقيقة دوران الأرض حول محورها أمام الشمس.
وكل آية من هذه الآيات الكونية العشر تحتاج إلي مناقشة موضوعية خاصة بها, ولما كان المقام لا يتسع لذلك أجدني مضطرا لقصر الحديث هنا علي آية واحدة منها ألا وهي الآية الثالثة والخمسون المشار إليها هنا في النقطة السادسة أعلاه, التي تصف التقاء ماء النهر العذب الفرات بماء البحر الملح الأجاج, وقبل الولوج في ذلك أري لزاما علي أن أعرض لعدد من أقوال المفسرين السابقين في شرح هذه الآية الكريمة, ولشرح دلالات الغريب من ألفاظها علي مسامع أهل عصرنا الذي نسي كثير من العرب فيه لغتهم الأم ولغة كتاب دينهم العظيم.
من أقوال المفسرين
في تفسير الآية الكريمة التي يقول فيها ربنا( تبارك وتعالي): وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا( الفرقان:53)..
ذكرابن كثير( يرحمه الله) ما نصه:... وقوله تعالي وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) أي خلق الماءين الحلو والمالح, فالحلو كالأنهار والعيون والآبار. قاله ابن جريج واختاره, وهذا المعني لا شك فيه, فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات, والله( سبحانه وتعالي) إنما أخبر بالواقع لينبه العباد إلي نعمه عليهم ليشكروه, فالبحر العذب فرقه الله تعالي بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا أو عيونا في كل أرض, بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضيهم, وقوله تعالي وهذا ملح أجاج) أي مالح, مر, زعاف لا يستساغ, وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب, البحر المحيط وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر, وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري, ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح, ومنها ما فيه مد وجزر, ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض, فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتي ترجع إلي غايتها الأولي, فأجري الله( سبحانه وتعالي) ـوهو ذو القدرة التامةـ العادة بذلك; فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله( سبحانه وتعالي) مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء, فيفسد الوجود بذلك, ولئلا تجوي الأرض بما يموت فيها من الحيوان, ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة, ولهذا قال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وقد سئل عن ماء البحر: أنتوضأ به؟ فقال هو الطهور ماؤه, الحل ميتته). وقوله تعالي وجعل بينهما برزخا وحجرا) أي بين العذب والمالح, وبرزخا أي حاجزا وهو اليبس من الأرض( وحجرا محجورا) أي مانعا من أن يصل أحدهما إلي الآخر كقوله تعالي مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان), وقوله تعالي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون).....
وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه وهو الذي مرج البحرين) أرسلهما متجاورين( هذا عذب فرات) شديد العذوبة( وهذا ملح أجاج) شديد الملوحة( وجعل بينهما برزخا) حاجزا لا يختلط أحدهما بالآخر( وحجرا محجورا) سترا ممنوعا به اختلاطهما.....
وجاء في تفسير الظلال( رحم الله كاتبه) ما نصه:... وهو الذي ترك البحرين, الفرات العذب والملح المر, يجريان ويلتقيان, فلا يختلطان ولا يمتزجان, إنما يكون بينهما برزخ وحاجز من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الأنهار غالبا أعلي من سطح البحر, ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر الملح, ولا يقع العكس إلا شذوذا, وبهذا التقدير الدقيق لا يطغي البحر ـوهو أضخم وأغزرـ علي النهر الذي منه الحياة للناس والأنعام والنبات, ولا يكون هذا التقدير مصادفة عابرة وهو يطرد هذا الاطراد. إنما يتم بإرادة الخالق الذي أنشأ هذا الكون لغاية تحققها نواميسه في دقة وإحكام..
وقد روعي في نواميس هذا الكون ألا تطغي مياه المحيطات الملحة لا علي الأنهار ولا علي اليابسة حتي في حالات المد والجزر التي تحدث من جاذبية القمر للماء الذي علي سطح الأرض, ويرتفع بها الماء ارتفاعا عظيما..
وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) ما نصه مرج البحرين...) أرسل البحرين: العذب والملح في مجاريهما متجاورين; كما ترسل الخيل في المرج. يقال: مرج الدابة يمرجها, أرسلها ترعي. أو خلطهما فأمرج أحدهما في الآخر وأفاضه فيه; من المرج وأصله الخلط. يقال: مرج أمرهم يمرج, اختلط; ومنه قيل للمرعي: مرج; لاجتماع أخلاط من الدواب فيه.
( عذب فرات) شديد العذوبة, مائل إلي الحلاوة وهو ماء الأنهار. وسمي فراتا لأنه يفرت العطش, أي يقطعه ويكسره.( ملح أجاج) شديد الملوحة والمرارة, وهو ماء البحار. سمي أجاجا من الأجيج وهو تلهب النار, لأن شربه بزيد العطش.( وبرزخا) حاجزا عظيما من الأرض, يمنع بغي أحدهما علي الآخر; لحفظ حياة الإنسان والنبات; كما قال تعالي بينهما برزخ لا يبغيان).( وحجرا محجورا) أي وجعل كل واحد منهما حراما محرما علي الآخر أن يفسده. والمراد: لزوم كل منهما صفته; فلا ينقلب العذب في مكانه ملحا ولا الملح في مكانه عذبا..
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) ما نصه: والله هو الذي أجري البحرين: البحر العذب والبحر الملح, وجعل المجري لكل واحد يجاور المجري الآخر, ومع ذلك لا يختلطان, نعمة ورحمة بالناس..
وجاء في تعليق الخبراء العلميين بالهامش ما يلي:.. قد تشير هذه الآية إلي نعمة الله علي عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تاما بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق يطفو العذب منها فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بغي أحدهما علي الآخر, وحجرا محجورا, أي حاجزا خفيا مستورا لا نراه..
وليس هذا فقط بل إن هناك قانونا ثابتا يحكم هذه العلاقة ويتحكم فيها لمصلحة البشر ممن يسكنون في تلك المناطق وتتوقف حياتهم علي توافر الماء العذب, فقد ثبت أن طبقة الماء العذب العليا يزداد سمكها مع زيادة الارتفاع عن منسوب البحر بعلاقة منتظمة حتي إنه يمكن حساب العمق الأقصي للماء العذب الذي يمكن الوصول إليه. فهو يساوي قدر الفرق بين منسوب الأرض ومنسوب البحر أربعين مرة..
وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خير الجزاء) ما نصه وهو الذي مرج البحرين) أي هو تعالي بقدرته خلي وأرسل البحرين متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان( هذا عذب فرات) أي شديد العذوبة قاطع للعطش من فرط عذوبته( وهذا ملح أجاج) أي بليغ الملوحة, مر شديد المرارة( وجعل بينهما برزخا) أي جعل بينهما حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما علي الآخر( وحجرا محجورا) أي ومنعا من وصول أثر أحدهما إلي الآخر وامتزاجه به.....
الدلالات اللفظية لبعض كلمات الآية الكريمة
(1)( مرج): ذكرت معاجم اللغة( كمعجم ابن فارس) أن الميم, والراء, والجيم أصل صحيح يدل علي المجيء والذهاب والاضطراب, وقالوا مرج) الخاتم في الإصبع أي قلق واضطرب لاتساعه عن حجم الإصبع; ومنه قيل مرجت) أمانات القوم وعهودهم أي اضطربت واختلطت; و(مرج) الأمر اختلط, ومنه الهرج والمرج, وأمر( مريج) أي مختلط, و(المرج) في اللغة هو مرعي الدواب, أي الأرض التي يكثر فيها النبات فتمرج فيه الدواب وتختلط; ولذلك قيل مرج) الدابة و(أمرجها) أي أرسلها ترعي وتختلط بغيرها من الحيوانات في المرعي فـ(مرجت), لأن أصل( المرج) هو الخلط, و(المروج) هو الاختلاط, وقوله( تعالي) مرج البحرين) أي أفاض أحدهما بالآخر, وجعلهما يختلطان دون امتزاج كامل أي دون أن يلتبس أحدهما بالآخر التباسا كاملا..
و(مارج) من نار أي: لهب من نيران مختلطة لا دخان لها..
(2)( عذب فرات): الماء( العذب) هو الماء الطيب المذاق, و(الفرات) هو الشديد العذوبة; والبحر العذب الفرات هو النهر لشدة عذوبة مائه.
(3)( ملح أجاج): الماء( الملح الأجاج) هو, الماء شديد الملوحة والمرارة; وما كان من الماء( ملحا أجاجا) هو م
وكلما كانت كمية الرسوبيات التي يلقيها النهر عند مصبه أكبر من قدرة كل من تيارات المد والجزر, والأمواج والتيارات البحرية الموازية للشاطئ علي إزالته; وتلعب التراكيب الجيولوجية الكبيرة( من مثل حركة ألواح الغلاف الصخري للأرض) دورا بارزا في ذلك..
عوامل تحكم نشاط النهر علي منطقة مصبه
عند مصبات الأنهار عادة ما يضعف أثر كل من ظاهرتي المد والجزر, وشدة الأمواج والتيارات البحرية فتسود قوي ثلاث أخري هي: القصور الذاتي( أو قوة واستمرارية تدفق تيار الماء في النهر), وقدر الاحتكاك بالرسوبيات في قاع مجري النهر, وطفو الماء العذب فوق سطح الماء المالح..
وتبقي عوامل أخري مساعدة من مثل معدلات تدفق الماء وسرعة تياره, وعمق الماء في مجري النهر, وكتلة الرسوبيات التي يحملها ماء النهر. ففي ظل زيادة سرعة تدفق تيار الماء في مجري النهر, وعمق الحوض البحري الذي يصب فيه, وتدني الفارق في كثافة الماءين الملتقيين يسود القصور الذاتي فيندفع ماء النهر إلي البحر بشدة علي هيئة نفاثات دوارة تعزل ماء النهر عن ماء البحر وتؤخر اختلاطهما وامتزاجهما حتي تضعف معدلات تدفق الماء فيبدأ الامتزاج علي حواف كتلة الماء العذب مكونا ماء قليل الملوحة يفصل ماء النهر عن ماء البحر باستمرار..
وفي كثير من الأنهار يؤدي نقل كميات كبيرة من نواتج عمليات التعرية علي هيئة الرسوبيات المحمولة مع ماء النهر إلي ترسيبها في منطقة مصبه مما يرفع منسوب قاع منطقة المصب ويجعل سمك الماء فيها قليلا خاصة في المنطقة بعد المصب مباشرة مما يؤدي إلي جعلها أعلي من منسوب قاع مجري النهر, وتظل هذه المنطقة تنمو باستمرار نتيجة لاندفاع الماء من النهر علي هيئة تيار نفاث يحتك بالرسوبيات المتجمعة فوق قاعه. وفي منطقة مصبه حتي يبني برزخا من تلك الرسوبيات عموديا علي اتجاه تدفق النهر فيحول دون امتزاج مائه مع ماء البحر امتزاجا كاملا لوجود هذا البرزخ من الرسوبيات ولتكون ماء قليل الملوحة علي حواف طبقة الماء العذب الرقيقة الطافية فوق الماء المالح..
ويؤدي بناء هذا البرزخ الرسوبي إلي تفرع مجري النهر إلي فرعين( أو أكثر) كل واحد منهما علي جانبي البرزخ نظرا لتباطؤ تدفق الماء نتيجة لضحالة المجري وشدة احتكاك الماء بقاعه في أثناء جريانه; وقد يؤدي ذلك إلي زيادة نمو البرزخ علي هيئة حاجزوسطي كبير أو تكرار ترسب أعداد من تلك البرازخ..
ولما كانت كثافة الماء العذب( في حدود جرام واحد/ سم3) أقل من كثافة الماء المالح( في حدود1.026 إلي1.028 جرام/ سم3) فإن الماء العذب يطفو فوق سطح الماء المالح علي الرغم مما يحمله من رسوبيات, ويسمي هذا التدفق المائي باسم التدفق المتباين الكثافة..
ويظل الماء العذب طافيا فوق الماء المالح حتي تتمكن كل من تيارات المد والجزر, والأمواج والتيارات البحرية من المزج بين حواف هذه الطبقة الرقيقة من الماء العذب والماء المالح مكونة ماء قليل الملوحة يفصل بينهما, وهنا يتأثر تدفق الماء العذب بكل من قوة الاستمرار في الاندفاع( القصور الذاتي), وشدة الاحتكاك بقاع المجري, وفرق الكثافة بين الماءين العذب والمالح..
وفي حالة الأنهار ذات التدفق العالي للماء, أو عند فيضاناتها يكون التدفق الطافي للماء العذب فوق سطح الماء المالح هو السمة الغالبة لتدفق ماء تلك الأنهار; ويزداد الاحتكاك برسوبيات القاع مما يؤدي إلي تجمع كم هائل من الرسوبيات أمام مصب النهر علي هيئة سدود نهرية مستقيمة وموازية لمجري النهر تحت الماء في منطقة المصب, تحيط بالماء العذب من الجهتين فاصلة إياه عن الماء المالح فتعينه بذلك علي مزيد من الاندفاع في داخل البحر..
كذلك تبني الرسوبيات سدا هائلا في مواجهة مجري النهر يعرف باسم حاجز توزيع الماء في مصب النهر
(Distributary-MouthBar)
يتراوح عرضه بين أربعة وستة أضعاف عرض مجري النهر; وهذا الحاجز يفصل الماء قليل الملوحة( المتكون نتيجة لمزج جزء من ماء النهر العذب مع ماء البحر الملح) عن الماء العذب. ويتكرر تكون أمثال هذا الحاجز عدة مرات علي مسافات متباعدة من مصب النهر حتي تتكون منطقة تعرف باسم منطقة توزيع ماء النهر تعمل علي مزيد من الفصل بين الأنواع الثلاثة من الماء الموجود في مصبات الأنهار وهي: الماء العذب, والماء قليل الملوحة, والماء الملح..
وعلي ذلك فإن جميع النظم النهرية التي تصب في بحار تتميز بتداخلات معقدة بين كل من العمليات النهرية والبحرية, منها عمليات المد والجزر, التي تعمل علي اختلاط الماءين مكونة ماء متوسط الملوحة يفصل بين هذين الماءين خاصة في حالة التدفقات النهرية الضعيفة, وتزداد عمليات الخلط بين ماء النهر وماء البحر كلما توغلنا في داخل البحر حتي يتحول الماء إلي الطبيعة البحرية الكاملة تاركا وراءه مراحل من الماء القليل الملوحة تعمل كفاصل بين الماءين.
كذلك تساعد عمليات المد والجزر علي تجميع الرسوبيات التي يلقي بها النهر علي هيئة حواجز رسوبية علي مسافات من مصب النهر, ومتصلة بفم النهر بواسطة حواجز طولية موازية لاتجاه تدفق النهر تحول دون امتزاج مائه بماء البحر..
وفي الحالات التي يسود فيها دور عمليات المد والجزر سيادة واضحة يلاحظ أن مجري النهر يتسع عند مصبه اتساعا كبيرا علي هيئة الدلتا التي تعترضها تلال من رسوبيات النهر تعمل كذلك علي عزل مائه عن ماء البحر..
وهذه الحواجز الرسوبية الطولية والهلالية الشكل المعترضة لمجري النهر, وكذلك الشرف النهرية الموازية لمجراه والمندفعة من فم النهر إلي داخل البحر تساعد كلها علي عزل ماء النهر العذب عن ماء البحر المحيط لأطول فترة ممكنة, ثم يتكون بينهما نطاق من الماء قليل الملوحة يزيد من عملية الفصل تلك. وكل من الماء العذب والماء المالح له من صفاته الطبيعية والكيميائية ما يمكنه من البقاء منفصلا انفصالا كاملا عن الآخر علي الرغم من التقاء حدودهما عند مصب النهر, وذلك بتكوين برزخ من الرسوبيات أمام فوهة النهر ومن حوله, ويؤدي ذلك إلي تفرع الماء العذب إلي فرعين أو فروع من حوله, يتدفق منهما أو منها الماء العذب مكونا طبقة رقيقة طافية فوق الماء الملح, وتختلط به عند حوافها مكونة حزاما من الماء قليل الملوحة وذلك بفعل تيارات المد والجزر, والتيارات والأمواج البحرية المختلفة, ويعمل هذا الحزام من الماء القليل الملوحة علي مزيد من الفصل بين المائين العذب والملح, ولكل بيئة من هذه البيئات الثلاث( الماء العذب, والماء قليل الملوحة والماء الملح) أنواع خاصة من أنواع الأحياء المائية المحدودة بحدود بيئتها, وأنواع خاصة من الرسوبيات التي تترسب منها, وبذلك تكون أنواع الحياة في الماء القليل الملوحة مقصورة علي تلك البيئة, ومحجورة فيها, أي لا تستطيع الخروج منها وإلا هلكت, كما أن كل مجموعة من أنواع الحياة في البيئتين الأخريين لاتستطيع دخول الماء القليل الملوحة وإلا هلكت, فيما عدا أعداد قليلة جدا منها تستطيع العبور فيها دون بقاء طويل, ومن هنا كان هذا الماء القليل الملوحة حجرا علي الحياة الخاصة به, ومحجورا علي الحياة في البيئتين الأخريين من حوله.
وهذه حقائق لم يدركها الإنسان إلا في العقـود المتأخرة من القرن العشرين, وورودها في كتاب الله الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة, مما يقطع بأن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, ويجزم بنبوة هذا النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم).. فسبحان الذي أنزل قوله الحق:
وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا[ الفرقان:53]..
وقال: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها.....
وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا..