ذكر خراب بيت المقدس
وقوله تعالى :" وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا * ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا * وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا * فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا * ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا * إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ".
وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له أرميا حين ظهرت فيهم المعاصي : أن قم بين ظهراني قومك فأخبرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون ، وأعيناً ولا يبصرون ، وآذاناً ولا يسمعون ، وإني تذكرت صلاح آبائهم فعطفني ذلك على أبنائهم . فسلهم كيف وجدوا غب طاعتي ، وهل سعد أحد ممن عصاني بمعصيتي ، وهل شقى أحد ممن أطاعني بطاعتي ؟ إن الدواب تذكر أوطانها فتنزع إليها وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمت عليه آباءهم والتمسوا الكرامة من غير وجهها ، أما أحبارهم فأنكروا حقي ، وأما قراؤهم فعبدوا غيري ، وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما علموا ، وأما ولاتهم فكذبوا علي وعلى رسلي ، خزنوا المكر في قلوبهم وعودوا الكذب ألسنتهم ، وإني أقسم بجلالي وعزتي لأهيجن عليهم جيوشاً لا يفقهون ألسنتهم ، ولا يعرفون وجوههم ولا يرجمون بكاءهم ، ولأبعثن فيهم ملكاً جباراً قاسياً له عساكر كقطع السحاب ، ومواكب كأمثال الفجاج ، كأن خفقان راياته طيران النسور ، وكأن حمل فرسانه كر العقبان ، يعيدون العمران خراباً ويتركون القرى وحشة ، فياويل إليا وسكانها كيف أذللهم للقتل ، وأسلط عليهم السبا ، وأعيد بعد لجب الأعراس صراخاً ، وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد شرفات القصور مساكن السباع ، وبعد ضوء السرج وهج العجاج ، وبالعز الذب وبالنعمة العبودية وأبدلن نساءهم بعد الطيب التراب ، وبالمشي على الزرابي الخبب ، ولأجعلن أجسادهم زبلا للأرض ، وعظامهم ضاحية للشمس ، ولأدوسنهم بألوان العذاب ، ثم لآمرن السماء فتكون طبقاً من حديد ، والأرض سبيكة من نحاس ، فإن أمطرت لم تنبت الأرض ، وإن أنبتت شيئاً في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم ، ثم أحبسه في زمان الزرع وأرسله في زمان الحصاد ، فإن زرعوا في خلال ذلك شيئاً سلطت عليه الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، فإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوا لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا صرفت وجهي عنهم . رواه ابن عساكر بهذا اللفظ .
وقال إسحاق بن بشر : أنبأنا إدريس ، عن وهب بن منبه ، قال : إن الله تعالى لما بعث أرمياً إلى بني إسرائيل ، وذلك حين عظمت الأحداث فيهم فعملوا بالمعاصي ، وقتلوا الأنبياء ، طمع بختنصر فيهم وقذف الله في قلبه وحدث نفسه بالمسير إليهم لما أراد الله أن ينتقم به منهم ، فأوحى الله إلى أرميا : إني مهلك بني غسرائيل ومنتقم منهم ، فقم على صخرة بيت المقدس ياتيك أمري ووحيي . فقام أرميا فشق ثيابه وجعل الرماد على رأسه وخر ساجداً وقال يا رب . . وددت لو أن أمي لم تلدني حين جعلتني آخر أنبياء بني إسرائيل فيكون خراب بيت المقدس وبوار بني إسرائيل من أجلي ، فقال له : ارفع رأسك . فرفع رأسه فبكى ثم قال : يا رب . . من تسلط عليهم ؟ فقال : عبدة النيران لا يخافون عقابي ، ولا يرجون ثوابي ، قم يا أرميا فاستمع وحيي أخبرك خبرك وخبر بني إسرائيل : من قبل أن أخلفك اخترتك ، ومن قبل أن أصورك في رحم أمك قدستك ، ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ، ومن قبل أن تبلغ نبأتك ، ومن قبل أن تبلغ الأشد اخترتك ولأمر عظيم اجتنبتك ، فقم من الملك تسدده وترشده .
فكان مع الملك يسدده ويأتيه الوحي من الله حتى عظمت الأحداث ، ونسوا ما نجاهم الله به من عدوهم سنحاريب وجنوده ، فأوحى الله إلى أرميا : قم فاقصص عليهم ما آمرك به ، وذكرهم نعمتي عليهم ، وعرفهم أحداثهم . فقال أرميا ك يا رب . . إني ضعيف إن لم تقوني ، عاجز إن لم تبلغني ، مخطئ إن لم تسددني ، مخذول إن لم تنصرني ، ذليل إن لم تعزني ، فقال الله تعالى : أولم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي ، وأن الخلق والأمر كله لي ، وأن القلوب والألسنة كلها بيدي فأقلبها كيف شئت فتطيعني ، فأنا الله الذي ليس شيء مثلي ، قامت السموات والأرض وما فيهن بكلمتي ، وأنه لا يخلص التوحيد ، ولم تتم القدرة إلا لي ، ولا يعلم ما عندي غيري ، وأنا الذي كلمت البحار ففهمت قولي ، وأمرتها ففعلت أمري ، وحددت عليها حدوداً فلا تعدو فلا تعدو حدي ، وتأتي بأموال كالجبال فإذا بلغت حدي ألبستها مذلة لطاعتي وخوفاً واعترافاً لأمري ، وإني معك ولن يصل إليك شيء معي ، وإني بعثتك إلى خلق عظيم من خلقي لتبلغهم رسالاتي فتستوجب بذلك أجر من اتبعك ، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً .
انطلق إلى قومك فقم فيهم وقل لهم : إن الله قد ذكركم بصلاح آبائكم فلذلك استبقاكم ، يا معشر أبناء الأنبياء ، وكيف وجد آباؤكم مغبة طاعتي وكيف وجدتم مغبة معصيتي ، وهل وجدوا أحداً عصاني فسعد بمعصيتي وهل عملوا أحداً أطاعني فشقي بطاعتي ؟ إن الدواب إذا ذكرت أوطانها الصالحة نزعت إليها ، وإن هؤلاء القوم رتعوا في مروج الهلكة وتركوا الأمر الذي أكرمت به آباءهم ، وابتغوا الكرامة من غير وجهها . فأما أحبارهم ورهبانهم فاتخذوا عبادي خولاً يتعبدونهم ، ويعملون فيهم بغير كتابي حتى أجهلوهم أمري وأنسوهم ذكري وسنتي وغروهم عني ، فدان لهم عبادي بالطاعة التي لا تنبغي إلى لي ، فهم يطيعونهم في معصيتي .
وأما ملوكهم وأمراؤهم فبطروا نعمتي ، وأمنوا مكري ، وغرتهم الدنيا حتى نبذوا كتابي ونسوا عهدي ، فهم يحفون كتابي ، ويفترون على رسلي جرأة منهم علي وغرة بي ، فسبحان جلالي وعلو مكاني وعظمة شأني ، هل ينبغي أن يكون لي شريك في ملكي ؟ وهل ينبغي لبشر أن يطاع في معصيتي ؟ وهل ينبغي لي أن أخلق عباداً أجعلهم أرباباً من دوني ، أو آذن لأحد بالطاعة لأحد وهي لا تنبغي إلا لي ؟ !
وأما قراؤهم وفقهاؤهم فيدرسون ما يتخيرون ، فينقادون للملوك فيتابعونهم على البدع التي يبتدعون في ديني ، ويطيعونهم في معصيتي ، ويوفون لهم بالعود الناقضة لعهدي ، فهم جهلة بما يعلمون لا ينتفعون بشيء مما علموا من كتابي .
وأما أولاد النبيين فمقهورون ومفتونون ، يخوضون مع الخائضين يتمنون مثل نصري آباءهم والكرامة التي أكرمتهم بها ، ويزعمون أنه لا أحد أولى بذلك منهم بغير صدق منهم ولا تفكر ، ولا يذكرون كيف كان صبر آبائهم وكيف كان جهدهم في أمري حين اغتر المغترون ، وكيف بذلوا أنفسهم ودماءهم فصبروا وصدقوا حتى عز أمري وظهر ديني . فتأنيت هؤلاء القوم لعلهم يستحيون مني ويرجعون ، فتطولت عليهم وصفحت عنهم فأكثرت ومددت لهم في العمر وأعذرت لهم لعلهم يتذكرون . وكل ذلك أمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض وألبسهم العافية وأظهرهم على العدو ولا يزدادون إلا طغياناً وبعداً مني فحتى متى هذا ؟ أبي يسخرون أم بي يتحرشون أم إياي يخادعون أم علي يجترئون .
فإني أقسم بعزتي لأتيحن عليهم فتنة يتحير فيها الحليم ويضل فيها رأي ذوي الرأي وحكمة الحكيم ، ثم لأسلطن عليهم جباراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من قلبه الرأفة والرحمة وآليت أن يتبعه عدد وسواد مثل الليل المظلم ، له فيه عساكر مثل قطع السحاب ومواكب مثل العجاج ، وكأن خفيق راياته طيران النسور وحمل فرسانه كريد العقبان ، يعيدون العمران خراباً والقرى وحشاً ويعيشون في الأرض فساداً ويتبرون ما علو تتبيراً ، قاسية قلوبهم لا يكترثون ولا يرقبون ، ولا يرحمون ولا يبصرون ، ولا يسمعون ، يجولون في الأسواق باصوات مرتفعة مثل زئير الأسد تقشعر من هيبتها الجلود ، وتطيش من سمعها الأحلال بألسنة لا يفقهونها ، ووجوه ظاهر عليها المنكر لا يعرفونها فوعزتي لأعطلن بيوتهم من كتبي وقدسي ، ولأخلين مجالسهم من حديثها ودروسها ، ولأوحشن مساجدهم من عمارها وزوارها الذين كانوا يتزينون بعمارتها لغيري ، ويتهجدون فيها ويتعبدون لكسب الدنيا بالدين ، ويتفقهون فيها لغير الدين ، ويتعلمون فيها لغير العمل ، لأبدلن ملوكها بالعز الذل ، وبالأمن الخوف ، وبالغنى الفقر ، وبالنعمة الجوع ، وبطول العافية والرخاء ألوان البلاء ، وبلباس الديباج والحرير مدارع الوبر والعباء ، وبالأرواح الطيبة والأذهان جيف القتلى ، وبلباس التيجان أطواق الحديد والسلاسل والأعلال ، ثم لأعيدن فيهم بعد القصور الواسعة والحصون الحصينة الخراب ، وبعد البروج المشيدة مساكن السباع وبعد صهيل الخيل عواء الذئاب ، وبعد ضوء السراج دخان الحريق ، وبعد الأنس الوحشة والقفار .
ثم لأبدلن نساءها بالأسورة الأغلال ، وبقلائد الدر والياقوت سلاسل الحديد ، وبألوان الطيب والأدهان النقع والغبار ، وبالمشي على الزرابي عبور الأسواق والأنهار ، والخبب إلى الليل في بطون الأسواق ، والخدور والستور الحسور عن الوجوه والسوق والأسفار والأرواح السموم ثم لأدوسنهم بأنواع العذاب حتى لو كان الكائن منهم في حالق لوصل ذلك إليه ، إني إنما أكرم من أكرمني ، وإنما أهين من هان عليه أمري . ثم لآمرن السماء خلال ذلك فلتكونن عليهم طبقاً من حديد ، ولآمرن الأرض فلتكون سبيكة من نحاس ، فلا سماء تمطر ، ولا أرض تنبت ، فإن أمطرت خلال ذلك شيئاً سلطت عليهم الآفة ، فإن خلص منه شيء نزعت منه البركة ، وإن دعوني لم أجبهم ، وإن سألوني لم أعطهم ، وإن بكوا لم أرحمهم ، وإن تضرعوا إلي صرفت وجهي عنهم ، وإن قالوا : اللهم أنت الذي ابتدأتنا وآباءنا من قبلنا برحمتك وكرامتك ، وذلك بأنك اخترتنا لنفسك وجعلت فينا نبوتك وكتابك ومساجدك ، ثم مكنت لنا في البلاد واستخلفتنا فيها وربيتنا وآباءنا من قبلنا بنعمتك صغراً ، وحفظتنا وإياهم برحمتك كباراً فأنت أوفى المنعمين وإن غيرنا ، ولا تبدل وإن بدلنا وأن تتم فضلك ومنك وطولك وإحسانك . فإن قالوا ذلك قلت لهم : إني أبتدئ عبادي برحمتي ونعمتي ، فإن قبلوا أتممت ، وإن استزادوا زدت ، وإن شكروا ضاعفت ، وإن غيروا غيرت ، وإذا غيروا غضبت ، وإذا غضبت عذبت وليس يقوم شيء بغضبي .
قال كعب : فقال أرميا : بوجهك أصبحت أتعلم بين يديك ، وهل ينبغي ذلك لي وأنا أذل وأضعف من أن ينبغي