قال تزرعون سبع سنيـن دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة يوسف وهي سورة مكية, وعدد آياتها(111) آية بعد البسملة, وقد تفردت باستعراض قصة هذا النبي الصالح بتفاصيلها, والذي جاء ذكره( عليه السلام) في كل من سورتي الأنعام وغافر, وفي مقابلة ذلك جاءت سير غيره من أنبياء الله ورسله إما مجملة في جزء من سورة, أو مفصلة علي مراحل في عدد من السور, علما بأن سبعا من سور القرآن الكريم تحمل أسماء غيره من أنبياء الله ورسله من أمثال: نوح, هود, إبراهيم, يونس, طه, يس, محمد( صلي الله وسلم وبارك عليهم أجمعين), أو أسماء جماعة أو فرد من الصالحين من أمثال آل عمران, مريم, ولقمان( رضي الله تعالي عنهم), أو بعض صفاتهم من أمثال سورتي الأنبياء والمؤمنون.
ويبدو ـ والله تعالي أعلم ـ أن الحكمة من وراء إجمال قصة سيدنا يوسف( عليه السلام) في سورة واحدة هي تثبيت خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) في وقت من أوقات الشدائد التي لقيها من كفار ومشركي العرب, بعد وفاة كل من زوجته الوفية أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد( رضي الله عنها) وعمه أبو طالب, وكانا ـ بعد الله تعالي ـ سندي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في الدنيا أمام اضطهاد كفار قريش له خاصة, وللمسلمين عامة, في مكة المكرمة, وبعد تخلي أهل الطائف عن مناصرته, وتآمر الكفار والمشركين في مكة علي قتله, أو سجنه, أو نفيه,( صلي الله عليه وسلم) خاصة بعد بيعتي العقبة الأولي والثانية والشعور العام بتعاظم خطر الإسلام والمسلمين وتكوين قاعدة لهم بالمدينة المنورة, وقد أمر رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بالاستعداد للهجرة, وعز عليه مفارقة مكة المكرمة ـ أشرف بقاع الأرض وأحبها إلي الله ورسوله ـ وما خامره( صلي الله عليه وسلم) في ذلك من مشاعر الوحشة, والغربة, والانقطاع عن الكعبة المشرفة, وعن الأهل والأحباب, وكان أغلب أصحابه قد هاجر أغلبهم بالفعل إلي المدينة المنورة.
وسط هذه الشدائد والابتلاءات والمحن أنزلت عليه( صلي الله عليه وسلم) سورة يوسف تروي قصة أخ له من أنبياء الله السابقين, وهو يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم( علي نبينا وعليهم جميعا من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم), وقد عاني من الابتلاءات والمحن ما كان في سرده تثبيت لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), ولصحابته الكرام( عليهم رضوان الله), ولكل مسلم من بعدهم إلي يوم الدين.
فمنذ نعومة أظفاره مر يوسف( عليه السلام) بقدر من الابتلاءات لا يقوي علي حملها كثير من الناس, ابتداء بكيد إخوته له, وتآمرهم عليه, ومرورا بمحنة إلقائه في غيابة الجب وهو طفل صغير, وما صاحبه في هذا الوضع المخيف من رعب ووحشة وحزن, بعد الرعاية الفائقة التي كان قد تعود عليها في ظل والديه, ثم محنة انتشاله من قاع البئر, وبيعه رقيقا, ينقله مالكوه من يد إلي يد, بغير إرادة منه, ولا مشورة معه, وهو النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي, ثم محنة افتتان زوجة العزيز به, وولهها وهيامها بحبه, ومحاولتها فتنته عن فطرته السوية التي فطره الله( تعالي) عليها, ومحنة ما جمعت له من نسوة تستعين بهن علي فتنته, ومحنة السجن دون ذنب أو خطيئة, ثم الابتلاء بعد ذلك بالجاه والسلطان والسعة في الرزق, والتمكين في الأرض بالقيام علي خزائن مصر, ثم الابتلاء بلقائه مع إخوته الذين سبق لهم أن ظلموه وجاروا عليه بالكيد له, وانتهاء بالابتلاء الكبير الذي تمثل في تحقق رؤياه وسجود أبويه وإخوته له بعد أن جمع الله شملهم علي أرض مصر.
وقد صبر يوسف( عليه السلام) علي جميع هذه الابتلاءات والمحن صبر المؤمن بالله, الموقن بألوهيته, وربوبيته, ووحدانيته وتجلد تجلد الصابر المحتسب. طلبا لمرضاة الله, وتسليما لقضائه, ورضا بقدره( سبحانه) وإيمانا بأنه الخير كل الخير.
ومما يثير الإعجاب حقا أن هذه الابتلاءات والشدائد والمحن التي مر بها سيدنا يوسف( عليه السلام) لم تعقه لحظة عن دعوته إلي الإسلام الخالص القائم علي توحيد الله, وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله حتي في أشد ساعات الابتلاء والامتحان صعوبة, ويذكر لنا القرآن الكريم رده علي زميليه في السجن حيث يقول:
ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار( يوسف:39)
وبهذا الإيمان الراسخ بالله الواحد القهار خرج يوسف( عليه السلام) من كل هذه الابتلاءات والمحن والشدائد وهو أصلب عودا, وأقوي علي مجابهة الحياة, وأكثر إخلاصا وتجردا لعبادة الله( سبحانه وتعالي) وحبا له, وتفانيا في إرضائه, ولذلك كانت أكبر أمنياته في لحظة الانتصار أن يتوفاه الله مسلما وفي ذلك يقول لنا القرآن الكريم في ختام قصة يوسف( عليه السلام):
فلما دخلوا علي يوسف آوي إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين* ورفع أبويه علي العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم* رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين*( يوسف:99 ـ101)
وهكذا كان في قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) أجمل مواساة لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) في الابتلاءات والمحن والشدائد التي مر بها قبل الهجرة, وأعظم تطمين له بحتمية الانتصار علي أعداء الله وأعدائه, وأجمل بشري بقرب التمكين له في الأرض كما مكن الله( تعالي) لنبيه يوسف( عليه السلام) بعد ما مر به من الابتلاءات, ومثل هذه البشريات لا تدركها إلا القلوب العامرة بالإيمان بالله, والمطمئنة بمعيته( سبحانه وتعالي), والمسلمة بقدر الله وقضائه, والموقنة بأن فيه الخير كل الخير حتي لو بدا لنا بمقاييسنا البشرية المحدودة أنه ليس في صالحنا, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين* ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون*( يوسف:57,56)
وفي الآية الأخيرة إشارة واضحة إلي ضآلة شأن الدنيا إذا قورنت بالآخرة, وتأكيد علي أن كل محنة وابتلاء وشدة يمر بها المؤمن في هذه الحياة الدنيا هي من أجل تزكية نفسه, وتطهير بدنه, وتكفير سيئاته, ورفع درجاته, وزيادة أجره ولذلك فإن سورة يوسف التي بدأت برؤياه وانتهت بتحقيق تلك الرؤيا ختمت بقول الحق تبارك وتعالي: مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم):
قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين* وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القري أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون* حتي إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين* لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدي ورحمة لقوم يؤمنون*( يوسف:108 ـ111)
الحروف المقطعة في مطلع سورة يوسف
جاءت قصة يوسف عليه السلام في ثمان وتسعين آية, وقدم لها ربنا( تبارك وتعالي) بثلاث من الآيات كانت أولاها:
الر تلك آيات الكتاب المبين والحروف المقطعة الثلاث( الر) تكررت خمس مرات في مطلع خمس من سور القرآن الكريم, وجاءت مرة سادسة مع إضافة الحرف م( المر), وهذه الحروف الهجائية المقطعة التي جاءت بأربع عشرة صيغة, في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم تعتبر من أسرار هذا الكتاب العزيز التي فوض كثير من المفسرين العلم فيها إلي الله( تعالي), وحاول بعضهم إيجاد تفسير لها, فمنهم من رأي أنها رموز إلي كلمات أو معان, أو أعداد معينة, ومنهم من رأي أنها أسماء للسور, أو قصدت لإظهار التحدي بالقرآن الكريم, والدلالة علي إعجازه, أو قصد منها تنبيه السامع, أو جعلها فواتح للكلام, ومنهم من يري أن هناك روابط معنوية بين الحروف المقطعة وسورها, أو روابط رياضية بين تلك الحروف المقطعة وعدد مرات ورودها في السورة( بمعني وجود قانون رياضي يربط توزيع الحروف في سور هذا الكتاب العزيز الذي نزل منجما آية آية, أو بضع آيات بضع آيات, وفي حالة قصار السور وفي بعض الحالات النادرة جاءت السورة كاملة). ومن المفسرين من يري أن الله( تعالي) أراد بتلك الحروف المقطعة شهادة علي صدق خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) لنطقه بأسماء تلك الحروف ـ وهو الأمي ـ والنطق بأسماء الحروف لا يعرف إلا بالتعلم والمران, ومنهم من يري الجمع بين هذه الرؤي كلها. والحروف المقطعة الثلاث( الر) التي استهلت بها سورة يوسف( عليه السلام) كأنها تخاطب العرب ـ وهم في قمة الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ فتقول لهم إن كلامكم يتركب من تلك الحروف الهجائية وأمثالها, وكذلك القرآن الكريم, وقد تحداكم ربكم أن تأتوا بقرآن مثله, أو بعشر سور مفتريات من مثله, أو حتي بسورة واحدة من مثله ففشلتم وعجزتم عن ذلك مما يجعل هذا الكتاب المبين حجة عليكم أجمعين, ولذلك جاءت الآية الثانية من سورة يوسف بقول الله( تبارك وتعالي):
إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون*
( يوسف:2)
ووجه الخطاب في الآية الثالثة إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين*
( يوسف:3)
وذلك لأن قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) من أنباء الغيب كما أشار الله( تعالي) إلي ذلك في عشر آيات من هذه السورة المباركة, فلم يكن رسولنا الخاتم( صلي الله عليه وسلم) يعلم شيئا عنها قبل أن يتنزل الوحي عليه بها, ولم تكن الغالبية الساحقة من أهل الأرض تذكر شيئا عنها باستثناء قلة نادرة من أحبار أهل الكتاب الذين كانوا مبعثرين في جيوب قليلة من الجزيرة العربية, وعلي أطرافها( الشمالية, والشمالية الغربية, والجنوبية الغربية). والمقارنة بين قصة سيدنا يوسف( عليه السلام) كما جاءت في القرآن الكريم, وكما جاءت في العهد القديم توضح الفارق الشاسع بين كلام الله وكلام البشر, والتشابه في القصة الكريمة مرده إلي وحدة المصدر السماوي, والاختلاف في الأسلوب والمحتوي والتفاصيل مرده إلي قدر هائل من التحريف الذي تعرضت له رسالة سيدنا موسي( علي نبينا وعليه من الله السلام).
من القضايا المعنوية في سورة يوسف
تضمنت سورة يوسف العديد من القضايا العقدية والروحية والمعنوية التي نستخلص منها ما يلي:
(1) أن القرآن الكريم هو كلام الله( سبحانه وتعالي) الموحي به إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), بلسان عربي مبين كي يفهمه العرب ويطبقوه أمرا واقعا في حياتهم, ويبلغوا به غيرهم من الأمم أصحاب اللغات الأخري, لأنه أنزل للناس كافة, ولأنه الكتاب المبين عن الدين الحق, الواضح الدلالة لكل من استرشد بهديه الرباني الخالص, في الوقت الذي تعرضت كل صور الوحي السابقة علي نزوله إما للضياع أو للتحريف.
(2) أن قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) لم تكن معروفة لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) قبل الوحي بها إليه, ولم يكن أحد من العرب يعرفها أو يعرف شيئا عنها سوي آحاد من أهل الكتاب الذين وجدوها بصورة محرفة في كتبهم, وشتان بين روايتها في القرآن الكريم وسردها عندهم, والفارق واضح وضوح الشمس بين كلام الله وصياغة البشر, وعلي ذلك فذكرها في القرآن الكريم هو من الشهادات الناطقة بنبوة هذا النبي الخاتم, وبأنه( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, وإن كان المستشرقون وأعداء الإسلام من كل لون قد استغلوا التشابه بين القصص القرآني والقصص عن أهل الكتاب للادعاء الباطل بأن الرسول الخاتم( عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم) قد اقتبسه من كتبهم, بدلا من التسليم بوحدة المصدر وهو الله الخالق( سبحانه وتعالي), مع الفارق الواضح بين كلام الله وتحريف البشر, ويكفي في ذلك الإشارة إلي قصة يوسف( عليه السلام) كما جاءت في كل من سفر التكوين والقرآن الكريم وهنا تتضح الحكمة الربانية من جعل خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) لا يعرف القراءة والكتابة, كما ثبت ذلك بقول ربنا( تبارك وتعالي) في سورة العنكبوت مخاطبا هذا الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم):
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون*( العنكبوت:48)
(3) أن رؤي الأنبياء حق, وأن الله( تعالي) يعلم من يشاء من عباده الصالحين تأويل الرؤي.
(4) أن الشيطان للإنسان عدو مبين, وأنه يترصد بوسوسته جميع بني آدم حتي أبناء الأنبياء والمرسلين كما حدث مع إخوة يوسف( عليه السلام).
(5) أن المساواة بين الأبناء ضرورة فطرية, ولازمة تربوية لأن المبالغة في حب الوالدين أو احدهما لأحد الأبناء يدفع الآخرين من الأبناء إلي كراهيته والكيد له كما حدث من إخوة يوسف.
(6) أن الله( تعالي) قادر علي أن يمكن لمن يشاء من عباده في الأرض, وهو( سبحانه) غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون, والإيمان بهذه الحقيقة يجعل الإنسان راضيا بقضاء الله وقدره, ويثبته في حالات النوازل, والمحن والابتلاءات, ويمنعه من ظلم الآخرين لأنه لايفلح الظالمون.
(7) أن جميع أنبياء الله قد آمنوا بالله الواحد القهار, ودعوا أممهم إلي التوحيد الخالص لله الخالق( بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد), وإلي تنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله, وذلك لأن الله( تعالي) قد أمر بألا يعبد سواه, ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون, علي الرغم من تسليمهم بأنه سبحانه وتعالي فاطر السماوات والأرض, وذلك من دس الشياطين ووسوساتها إليهم, ولذلك يوجه الحق( تبارك وتعالي) الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله بقوله:
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين.
( يوسف:103)
( أن الإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله, وإسلام الوجه طواعية واختيارا له( سبحانه), خضوعا كاملا لأوامره, واجتنابا تاما لنواهيه, واتباعا دقيقا لهديه, يحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, وإقامة عدل الله فيها, هذا الإسلام هو الدين القيم, الذي لايرتضي ربنا( تبارك وتعالي) من عباده دينا سواه( ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
(9) أن النفس الإنسانية أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي وهو الغفور الرحيم, وعلي كل عاقل ألا يتبع نفسه هواها وأن يعلم أنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين.
(10) أن العلم قيمة عليا في الإسلام, وعلي العلماء ألا يغتروا بعلمهم لأن الله( تعالي) قد جعل فوق كل ذي علم عليم, وأنه( تعالي) لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
(11) أن الساعة لا تأتي إلا بغتة, وأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
الإشارات الكونية في سورة يوسف( عليه السلام)
جاء في سورة يوسف( عليه السلام) عدد غير قليل من الإشارات الكونية التي نوجز منها ما يلي:
(1) ليس من قبيل المصادفة أن يكون عدد إخوة يوسف( عليه السلام) أحد عشر, ويكون عدد الكواكب في مجموعتنا الشمسية بنفس العدد, وأن يري يوسف في رؤياه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين, وتتحقق هذه الرؤيا بسجود إخوته وأبويه له يوم جمعهم الله جميعا علي أرض مصر, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين*
(يوسف:4)
(2) الإشارة إلي واقعة تاريخية وقعت بمصر من قبل بعثة المصطفي( صلي الله عليه وسلم) بأكثر من اثني عشر قرنا مؤداها مرور سبع سنين من الخصب العام, تليها سبع سنين عجاف من القحط والجفاف والجدب, يليها عام زالت فيه تلك الشدة ونزل الغيث وعم الرخاء, وقد أثبتت الدراسات الأثرية صدق ذلك,
(3) التوصية الإلهية التي ألهمها ربنا( تبارك وتعالي) لعبده يوسف( عليه السلام) بترك القمح المخزون من أعوام الرخاء لأعوام الشدة في سنابله, وقد أثبتت التجارب في خزن المحاصيل الزراعية انها الطريقة المثلي في حفظ المحاصيل ذات السنابل لمدد طويلة دون فساد أو تسوس أو نقص في محتواها الغذائي.
(4) وصف عيني سيدنا يعقوب( عليه السلام) بأنهما ابيضتا من الحزن وهو مايعرف اليوم باسم الماء الأبيض أو( الكاتاراكت) وهو عبارة عن عتامة تحدث لعدسة العين تمنع دخول الضوء جزئيا أو كليا حسب درجة العتامة, وقد تحدث بسبب الحزن الشديد المصاحب بالبكاء أو لكبر السن وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:
وتولي عنهم وقال يا أسفا علي يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم*
(يوسف:84)
(5) الإشارة إلي أن عرق الإنسان به من المركبات الكيميائية ما يمكن من شفاء عتامة عدسة العين( الماء الأبيض), وهو ما توصل إليه الأستاذ الدكتور عبد الباسط سيد محمد الأستاذ بالمركز القومي للبحوث ـ بالدقي ـ القاهرة بعد ان قام بنقع عدد من العدسات المعتمة( التي تم استخراجها من عيون عدد من المرضي بعمليات جراحية) في عرق الإنسان فوجد أنها تحدث حالة من الشفافية التدريجية لتلك العدسات, ووجد أن العامل المؤثر في ذلك هو أحد المركبات الكيميائية لعرق الإنسان, واسمه العلمي( الجواندين), وأمكن تحضير هذا المركب مختبريا, وإنتاج قطرة منه حصل بها علي براءة اختراع أوروبية وأخري أمريكية في العامين1991 م و1993م علي التوالي, وقد استوحي هذا العالم الجليل فكرة تلك القطرة من قول ربنا( تبارك وتعالي): علي لسان عبده ونبيه يوسف( عليه السلام) مانصه:
اذهبوا بقميصي هذا فألقوه علي وجه أبي يأت بصيرا واتوني بأهلكم أجمعين*
( يوسف:93)
(6) الإشارة إلي أن بالسماوات والأرض من الآيات الحسية ما يشهد لله الخالق( سبحانه وتعالي) بطلاقة القدرة, وعظيم الصنعة, وإحكام الخلق, وقد أثبتت الدراسات العلمية ذلك, وإن كان أغلب الناس( يمرون عليها وهم عنها معرضون).
وكل واحدة من هذه الإشارات الكونية تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك فإنني سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة المتعلقة بخزن المحاصيل ذات السنابل في سنابلها, وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله تعالي علي لسان عبده ونبيه يوسف عليه السلام:
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون*
( يوسف:47)
ذكر الإمام ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره: قال( تزرعون سبع سنين دأبا) أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات( فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون): أي مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقي له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار الذي تأكلونه, وليكن قليلا قليلا لاتسرفوا فيه, لتنتفعوا به في السبع الشداد, وهن السبع سنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات, وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان, لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب, وهن السنبلات اليابسات, وأخبرهم أنهن لاينبتن شيئا وما بذروه فلا يرجعون منه إلي شئ, ولهذا قال يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك( عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) أي يأتيهم الغيث وهوالمطر, وتغل البلاد, ويعصر الناس ما كانوا يعصرون, علي عادتهم من زيت وعنب ونحوه.
ومن قبل ذكر الإمام الطبري( رحمه الله) كما ذكر بقية المفسرين كلاما مشابها مع تفاوت بسيط في شرح دلالة بعض كلمات الآية الكريمة, ولذلك أري الاكتفاء هنا بكلام الإمام ابن كثير( رحمه الله ورحم جميع المفسرين الذين خدموا القرآن الكريم برحمته الواسعة).
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
يعتبر القمح أهم أغذية الإنسان, وقد عرف في المشرق العربي قبل بدء التاريخ, ثم انتشر إلي أواسط آسيا, ومن بعد ذلك إلي بقية أجزاء العالم, وكان قدماء المصريين من أوائل الشعوب التي زرعت القمح, وإن كان تاريخ زراعته يرجع إلي العصر الحجري إن لم يكن قبل ذلك.
والقمح يتبع العائلة النجيلية(FamilyGramineae) نسبة إلي نبات النجيل, وتضم هذه العائلة بالإضافة إلي القمح عددا من المحاصيل الأخري مثل الشعير, الذرة, الشوفان الراي أو الجاردار(Rye) والأرز, السرجوم(Sorghum), كما تشمل نباتات اقتصادية اخري مثل قصب السكر, والغاب والنجيل وغير ذلك من حشائش المراعي, والأعشاب الطبية, وتشمل عائلة النجيليات حوالي450 جنسا, وسبعة آلاف نوع من أنواع النباتات التي تنتشر علي سطح الأرض لتغطي مساحات هائلة تفوق المساحات التي تغطيها أفراد أية عائلة نباتية أخري, وتمثل العائلة النجيلية بأعشاب حولية أو معمرة, وإن كان بعضها يمثل بنباتات خشبية قد يصل طول الواحدة منها إلي اكثر من ثلاثين مترا كما هو الحال في نباتات الخيزران الهندي.
وأزهار النجيليات عادة ما تكون بسيطة التركيب صغيرة الحجم, خضراء ويتم تلقيحها بواسطة الرياح.
والقمح هو أهم أجناس العائلة النجيلية علي الإطلاق, ويعرف منه في مصر ثلاثة أنواع رئيسية علي الأقل تعرف بالأسماء التالية:
(1) القمح شديد الاحتمال( الدكر)(Triticumdurum) أو(Emmer) وهذا النوع من القمح يزرع في جنوب صعيد مصر, وفي واحات الصحراء الغربية, وفي شبه جزيرة سيناء.
(2) القمح البلدي( الهرمي)Triticumpyramidale ويزرع في شمال صعيد مصر وفي الفيوم.
(3) القمح الهنديTriticumVulgare ويزرع في الوجه البحري.
وتتميز نباتات العائلة النجيلية بالجذور الليفية التي يحمل الكثير منها ريزومات عقدية وتتكاثر أغلبها بالأشطاء وهي براعم تنمو عند المنطقة الفاصلة بين الجذر والساق( فوق التربة) كما هو الحال في نبات القمح, الذي تتكون جذوره من مجموع أساسي خارج من البذرة النابتة, ومجموع عرضي يخرج من البراعم الجانبية, وكذلك الساق يتميز إلي ساق أساسي( يمثل نمو السويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة) وسيقان عرضية علي هيئة أفرع قاعدية تخرج من البراعم الإبطية الموجودة عند العقد القاعدية, المزدوجة, النامية علي قاعدة الساق الأساسية عند منطقة الاتصال بين الجذر والساق فوق سطح الأرض( التربة) مباشرة, وبذلك ينبت من الحبة الواحدة مجموعة من الأفرع أو السيقان المحيطة بالساق الرئيسي تعرف باسم الأشطاء( مفردها شطء) ويتراوح عددها بين العشرين والثلاثين وقد يصل إلي الخمسين, وعلي ذلك فإن نبتة القمح الواحدة توجد في حزمة مركبة من الأشطاء النامية حول الساق الأساسي وكلها متصلة ببعضها البعض في مجموعة من الجذور الليفية مما يوضح خروجها من أصل واحد, أي من بادرة واحدة خارجة من بذرة واحدة, فالحبة النابتة تخرج منها البادرة, والبادرة تعطي الأشطاء في منطقة الاتصال بين الجذر والساق فوق التربة مباشرة, ولا تلبث تلك أن تنمو حتي تصل إلي طول الساق الأصلية تقريبا وتعطي سنابل مثلها, بحيث يكون لكل شطء سنبلة خاصة به, وبذلك تنبت الحبة الواحدة نباتات تحمل عدة سنابل, وأوراق شجيرة القمح متبادلة علي ساقها, وكل واحدة منها تحمل زوجا من الأذينات عند قاعدة النصل, وللساق غمد يحيط به, ونورة نبات القمح تتكون من حشد من الأزهار التي تتجمع علي جزء من الساق, وبذلك تتركب النورة من جزء من الساق يسمي محور النورة, وعدد من الأزهار التي تخرج من آباط أوراق صغيرة تسمي القنابات( العصيفات أو العصافات مفردها عصيفة), وفي بعض الأحيان تظهر الأزهار دون قنابات.
ونورة نبات القمح نورة مركبة يستطيل فيها المحور وتترتب عليه الأزهار الجالسة التي بعد إخصابها تعطي الثمرة وهي بذور القمح, وعند تمام الإخصاب تتحول نورة القمح إلي سنبلة خضراء ثم بعد تمام نضجها تتحول إلي سنبلة صفراء ذهبية.
وسنبلة القمح سنبلة مركبة, يحمل فيها المحور سنابل أصغر تعرف باسم السنيبلات, وهي جانبية الترتيب في تبادل علي صفين متقابلين, وينتهي المحور عادة بسنبلة طرفية.
وتحمل السنبلة في المتوسط(15 ـ20) سنيبلة, ويتفاوت عدد الأزهار في السنيبلة الواحدة بين(2 ـ9) ويكون في النسيبلة الواحدة حبتان إلي ثلاث حبات من القمح. ولبعض سلالات القمح شوكة طرفية دقيقة جدا تعرف باسم( السفا أو الحسكة). ونبات الشعير يشبه نبات القمح في شكله وفي العديد من صفاته, والشعير من أقدم محاصيل الحبوب التي عرفها الإنسان وقام علي زراعتها, وكان يعتبر المصدر الرئيسي لدقيق الخبز حتي حل القمح محله في ذلك. ولكل من حبتي القمح والشعير غلاف رقيق ولكنه صلب, يلتصق بالحبة بشدة بالغة, ويعتبر حماية لها من الرطوبة, والتغيرات المناخية, ومن مختلف أنواع الكائنات الحية الضارة, والملوثات الكيميائية, ويعرف باسم الغلاف المحيط(Pericarp), وهو ينفصل عن حبة القمح( البرة) علي هيئة النخالة عند الطحن, وتؤلف النخالة حوالي8,5% من وزن حبة القمح وهي ثمرة جافة, صغيرة, التحم جدارها بغلاف البذرة التحاما كاملا.
وجنين بذرة القمح صغير جدا ويتكون من مركبات كيميائية ذات قيمة غذائية عالية من مثل البروتينات والفيتامينات والدهون ويشكل ذلك حوالي2% ـ2.5% من وزن حبة القمح وعادة ما تستبعد الدهون من الدقيق عند طحنه لأنها تتحلل وتفسد مع التخزين لمدد طويلة, ويحاط الجنين بمخزون غذائي علي هيئة طبقة بروتينية غنية بمادة الجلوتين(Gluten) وبمركبات الفوسفور والنشا, وجزيئات الجلوتين خيطية الشكل ومتشابكة مع بعضها البعض, ومن فوائدها أنها تجعل العجين لينا سهل التشكيل, وقابلا للتخمر بإضافة الخميرة إليه, ويمثل المخزون الغذائي في حبة القمح حوالي87% إلي88% من كتلتها.
وحبة القمح تغلفها قنابة تسمي العصافة(Glume) هي التي تكون قشر الحنطة. والحبوب في كل من السنيبلات والسنابل محاطة بأغلفة واقية وأشواك وشعيرات تحميها من الفطريات والبكتريا والجراثيم, والحشرات والرطوبة, ومن تقلبات الطقس وتيارات الهواء الجوي المباشر المحمل بالملوثات, وهذه الأغلفة بالرغم من صلابتها, وشدة إحكامها فإنها تسمح للجنين الكامن في داخل البذرة ـ وهو في حالة من الركود الحيوي والسكون ـ بقدر من التهوية غير المباشرة والمستمرة, وتحول دون ارتفاع نسبة الرطوبة للحيلولة دون إنبات الجنين في أوقات التخزين, كذلك فإن البذرة الجافة وأغلفتها تحتوي علي آثار طفيفة من مركبات كيميائية حافظة للبذرة, ومثبطة لعملية إنباتها تحت الظروف الجافة, وعلي مركبات أخري مضادة لكل من البكتريا, والفطريات والجراثيم المحتمل وصولها إلي الحبوب أثناء تخزينها.
انطلاقا من ذلك كله جاءت الآية الكريمة التي نحن بصددها إلهاما من الله( سبحانه وتعالي) لنبيه يوسف( عليه السلام) لكي ينصح بخزن المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير, والأرز, والشوفان في سنابلها, وقد أثبتت التجربة أنه أفضل نظام لحفظ تلك المحاصيل طالت مدد ذلك الحفظ أم قصرت, وقد طبقها يوسف( عليه السلام) لمدة وصلت إلي خمس عشرة سنة دون أن تفسد وبقيت طوال هذه المدة محافظة علي قيمتها الغذائية كاملة, وعلي حيويتها, وقدرتها علي الإنبات والنمو والإثمار.
ولقد قام الأستاذ الدكتور عبد المجيد بلعابد( من جامعة وجدة بالمغرب العربي) بتجربة عملية للتأكد من ذلك فترك بذور القمح في سنابلها لمدة عامين تحت ظروف عادية لم يراع فيها أية شروط من شروط تخزين الحبوب, وجرد بعض البذور من سنابلها وتركها أيضا تحت نفس الظروف ولنفس المدة الزمنية, فلاحظ أن الحبوب في السنابل لم يطرأ عليها أي تغيير لا في محتواها من المواد الغذائية ولا في قدرتها علي الإنبات سوي فقدها لجزء من محتواها المائي مما جعلها أكثر جفافا وأصلح للحفظ وللإنبات لأن وجود الماء يسهل من تعفن القمح, خاصة أن نسبة الماء في بذوره تصل إلي20,3%.
في نفس الوقت لاحظ الباحث أن حبوب القمح التي جردت من سنابلها فقدت20% من محتواها من المواد البروتينية بعد سنة من خزنها, وفقدت32% من هذا المحتوي بعد سنتين, وكذلك فقدت نسبة كبيرة من قدرتها علي الإنبات والنمو والإثمار.
وبذلك ثبت بالتجربة أن افضل طريقة لتخزين المحاصيل النباتية التي تنتج في سنابل كالقمح والشعير والأرز هو حفظها في سنابلها التي خلقها الله( تعالي) فيها.
وهذا هو من الوحي الذي أوحاه الله( تعالي) إلي نبيه يوسف( عليه السلام), وذكره مع قصته كاملة في القرآن الكريم مما يشهد لهذا الكتاب الخالد أنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الخالق العليم الحكيم( سبحانه وتعالي) ويشهد لكل من يوسف بن يعقوب( عليه السلام) ولخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بالنبوة وبالرسالة, لأن المصريين القدماء ماكانوا يعرفون طريقة لحفظ الغلال وخزنها إلا معزولة عن سنابلها, والأمر الإلهي بحفظها في سنابلها لم يدرك إلا بعد مشورة هذا النبي سليل بيت النبوة( علي نبينا وعليه من الله تعالي أفضل الصلاة وأزكي التسليم), ولا يزال القمح يخزن في أيامنا هذه مفروطا من سنابله مما يعرضه لفساد كبير عند خزنه علي الرغم من الاحتياطات الكثيرة التي تتخذ في صوامع ومخازن الغلال.
وإذا أضفنا إلي ذلك مقارنة قصة يوسف( عليه السلام) كما أنزلت في القرآن الكريم علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم) وسط أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, مع ما ورد عنها في سفر التكوين, اتضحت لنا وحدة رسالة السماء, والأخوة بين الأنبياء, وفضل الإسلام العظيم علي الناس أجمعين, وفضل القرآن الكريم علي غيره من الكتب, لأن القصة في سفر التكوين مع تشابهها مع ما جاء في القرآن الكريم قد عابها كثير من النقص البشري, والتحريف عندما رويت شفاهة ودونت بعد ضياع مصادرها الأصلية بقرون متطاولة. وهنا يتضح فضل العهد الإلهي الذي قطعه ربنا( تبارك وتعالي) علي ذاته العلية بحفظه للقرآن الكريم من لحظة نزوله وإلي قيام الساعة فقال( عز من قائل):
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون*
( الحجر:9)
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمدلله أولا وآخرا, وصلي الله وسلم وبارك علي كافة أنبياء الله ورسله أجمعين, وعلي من تبعهم بإحسان إلي يوم الدين, ونسأل الله تعالي أن يخص خاتم الأنبياء والمرسلين وآل بيته الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, ومن والاهم وسار علي دربهم إلي يوم الدين بأفضل الصلاة وأزكي التسليم وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في أواخر النصف الأول من سورة يوسف وهي سورة مكية, وعدد آياتها(111) آية بعد البسملة, وقد تفردت باستعراض قصة هذا النبي الصالح بتفاصيلها, والذي جاء ذكره( عليه السلام) في كل من سورتي الأنعام وغافر, وفي مقابلة ذلك جاءت سير غيره من أنبياء الله ورسله إما مجملة في جزء من سورة, أو مفصلة علي مراحل في عدد من السور, علما بأن سبعا من سور القرآن الكريم تحمل أسماء غيره من أنبياء الله ورسله من أمثال: نوح, هود, إبراهيم, يونس, طه, يس, محمد( صلي الله وسلم وبارك عليهم أجمعين), أو أسماء جماعة أو فرد من الصالحين من أمثال آل عمران, مريم, ولقمان( رضي الله تعالي عنهم), أو بعض صفاتهم من أمثال سورتي الأنبياء والمؤمنون.
ويبدو ـ والله تعالي أعلم ـ أن الحكمة من وراء إجمال قصة سيدنا يوسف( عليه السلام) في سورة واحدة هي تثبيت خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) في وقت من أوقات الشدائد التي لقيها من كفار ومشركي العرب, بعد وفاة كل من زوجته الوفية أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد( رضي الله عنها) وعمه أبو طالب, وكانا ـ بعد الله تعالي ـ سندي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) في الدنيا أمام اضطهاد كفار قريش له خاصة, وللمسلمين عامة, في مكة المكرمة, وبعد تخلي أهل الطائف عن مناصرته, وتآمر الكفار والمشركين في مكة علي قتله, أو سجنه, أو نفيه,( صلي الله عليه وسلم) خاصة بعد بيعتي العقبة الأولي والثانية والشعور العام بتعاظم خطر الإسلام والمسلمين وتكوين قاعدة لهم بالمدينة المنورة, وقد أمر رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بالاستعداد للهجرة, وعز عليه مفارقة مكة المكرمة ـ أشرف بقاع الأرض وأحبها إلي الله ورسوله ـ وما خامره( صلي الله عليه وسلم) في ذلك من مشاعر الوحشة, والغربة, والانقطاع عن الكعبة المشرفة, وعن الأهل والأحباب, وكان أغلب أصحابه قد هاجر أغلبهم بالفعل إلي المدينة المنورة.
وسط هذه الشدائد والابتلاءات والمحن أنزلت عليه( صلي الله عليه وسلم) سورة يوسف تروي قصة أخ له من أنبياء الله السابقين, وهو يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم( علي نبينا وعليهم جميعا من الله أفضل الصلاة وأزكي التسليم), وقد عاني من الابتلاءات والمحن ما كان في سرده تثبيت لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), ولصحابته الكرام( عليهم رضوان الله), ولكل مسلم من بعدهم إلي يوم الدين.
فمنذ نعومة أظفاره مر يوسف( عليه السلام) بقدر من الابتلاءات لا يقوي علي حملها كثير من الناس, ابتداء بكيد إخوته له, وتآمرهم عليه, ومرورا بمحنة إلقائه في غيابة الجب وهو طفل صغير, وما صاحبه في هذا الوضع المخيف من رعب ووحشة وحزن, بعد الرعاية الفائقة التي كان قد تعود عليها في ظل والديه, ثم محنة انتشاله من قاع البئر, وبيعه رقيقا, ينقله مالكوه من يد إلي يد, بغير إرادة منه, ولا مشورة معه, وهو النبي ابن النبي ابن النبي ابن النبي, ثم محنة افتتان زوجة العزيز به, وولهها وهيامها بحبه, ومحاولتها فتنته عن فطرته السوية التي فطره الله( تعالي) عليها, ومحنة ما جمعت له من نسوة تستعين بهن علي فتنته, ومحنة السجن دون ذنب أو خطيئة, ثم الابتلاء بعد ذلك بالجاه والسلطان والسعة في الرزق, والتمكين في الأرض بالقيام علي خزائن مصر, ثم الابتلاء بلقائه مع إخوته الذين سبق لهم أن ظلموه وجاروا عليه بالكيد له, وانتهاء بالابتلاء الكبير الذي تمثل في تحقق رؤياه وسجود أبويه وإخوته له بعد أن جمع الله شملهم علي أرض مصر.
وقد صبر يوسف( عليه السلام) علي جميع هذه الابتلاءات والمحن صبر المؤمن بالله, الموقن بألوهيته, وربوبيته, ووحدانيته وتجلد تجلد الصابر المحتسب. طلبا لمرضاة الله, وتسليما لقضائه, ورضا بقدره( سبحانه) وإيمانا بأنه الخير كل الخير.
ومما يثير الإعجاب حقا أن هذه الابتلاءات والشدائد والمحن التي مر بها سيدنا يوسف( عليه السلام) لم تعقه لحظة عن دعوته إلي الإسلام الخالص القائم علي توحيد الله, وتنزيهه عن كل وصف لا يليق بجلاله حتي في أشد ساعات الابتلاء والامتحان صعوبة, ويذكر لنا القرآن الكريم رده علي زميليه في السجن حيث يقول:
ياصاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار( يوسف:39)
وبهذا الإيمان الراسخ بالله الواحد القهار خرج يوسف( عليه السلام) من كل هذه الابتلاءات والمحن والشدائد وهو أصلب عودا, وأقوي علي مجابهة الحياة, وأكثر إخلاصا وتجردا لعبادة الله( سبحانه وتعالي) وحبا له, وتفانيا في إرضائه, ولذلك كانت أكبر أمنياته في لحظة الانتصار أن يتوفاه الله مسلما وفي ذلك يقول لنا القرآن الكريم في ختام قصة يوسف( عليه السلام):
فلما دخلوا علي يوسف آوي إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين* ورفع أبويه علي العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم* رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين*( يوسف:99 ـ101)
وهكذا كان في قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) أجمل مواساة لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) في الابتلاءات والمحن والشدائد التي مر بها قبل الهجرة, وأعظم تطمين له بحتمية الانتصار علي أعداء الله وأعدائه, وأجمل بشري بقرب التمكين له في الأرض كما مكن الله( تعالي) لنبيه يوسف( عليه السلام) بعد ما مر به من الابتلاءات, ومثل هذه البشريات لا تدركها إلا القلوب العامرة بالإيمان بالله, والمطمئنة بمعيته( سبحانه وتعالي), والمسلمة بقدر الله وقضائه, والموقنة بأن فيه الخير كل الخير حتي لو بدا لنا بمقاييسنا البشرية المحدودة أنه ليس في صالحنا, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين* ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون*( يوسف:57,56)
وفي الآية الأخيرة إشارة واضحة إلي ضآلة شأن الدنيا إذا قورنت بالآخرة, وتأكيد علي أن كل محنة وابتلاء وشدة يمر بها المؤمن في هذه الحياة الدنيا هي من أجل تزكية نفسه, وتطهير بدنه, وتكفير سيئاته, ورفع درجاته, وزيادة أجره ولذلك فإن سورة يوسف التي بدأت برؤياه وانتهت بتحقيق تلك الرؤيا ختمت بقول الحق تبارك وتعالي: مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم):
قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين* وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القري أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون* حتي إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين* لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدي ورحمة لقوم يؤمنون*( يوسف:108 ـ111)
الحروف المقطعة في مطلع سورة يوسف
جاءت قصة يوسف عليه السلام في ثمان وتسعين آية, وقدم لها ربنا( تبارك وتعالي) بثلاث من الآيات كانت أولاها:
الر تلك آيات الكتاب المبين والحروف المقطعة الثلاث( الر) تكررت خمس مرات في مطلع خمس من سور القرآن الكريم, وجاءت مرة سادسة مع إضافة الحرف م( المر), وهذه الحروف الهجائية المقطعة التي جاءت بأربع عشرة صيغة, في مطلع تسع وعشرين سورة من سور القرآن الكريم تعتبر من أسرار هذا الكتاب العزيز التي فوض كثير من المفسرين العلم فيها إلي الله( تعالي), وحاول بعضهم إيجاد تفسير لها, فمنهم من رأي أنها رموز إلي كلمات أو معان, أو أعداد معينة, ومنهم من رأي أنها أسماء للسور, أو قصدت لإظهار التحدي بالقرآن الكريم, والدلالة علي إعجازه, أو قصد منها تنبيه السامع, أو جعلها فواتح للكلام, ومنهم من يري أن هناك روابط معنوية بين الحروف المقطعة وسورها, أو روابط رياضية بين تلك الحروف المقطعة وعدد مرات ورودها في السورة( بمعني وجود قانون رياضي يربط توزيع الحروف في سور هذا الكتاب العزيز الذي نزل منجما آية آية, أو بضع آيات بضع آيات, وفي حالة قصار السور وفي بعض الحالات النادرة جاءت السورة كاملة). ومن المفسرين من يري أن الله( تعالي) أراد بتلك الحروف المقطعة شهادة علي صدق خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) لنطقه بأسماء تلك الحروف ـ وهو الأمي ـ والنطق بأسماء الحروف لا يعرف إلا بالتعلم والمران, ومنهم من يري الجمع بين هذه الرؤي كلها. والحروف المقطعة الثلاث( الر) التي استهلت بها سورة يوسف( عليه السلام) كأنها تخاطب العرب ـ وهم في قمة الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ فتقول لهم إن كلامكم يتركب من تلك الحروف الهجائية وأمثالها, وكذلك القرآن الكريم, وقد تحداكم ربكم أن تأتوا بقرآن مثله, أو بعشر سور مفتريات من مثله, أو حتي بسورة واحدة من مثله ففشلتم وعجزتم عن ذلك مما يجعل هذا الكتاب المبين حجة عليكم أجمعين, ولذلك جاءت الآية الثانية من سورة يوسف بقول الله( تبارك وتعالي):
إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون*
( يوسف:2)
ووجه الخطاب في الآية الثالثة إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين*
( يوسف:3)
وذلك لأن قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) من أنباء الغيب كما أشار الله( تعالي) إلي ذلك في عشر آيات من هذه السورة المباركة, فلم يكن رسولنا الخاتم( صلي الله عليه وسلم) يعلم شيئا عنها قبل أن يتنزل الوحي عليه بها, ولم تكن الغالبية الساحقة من أهل الأرض تذكر شيئا عنها باستثناء قلة نادرة من أحبار أهل الكتاب الذين كانوا مبعثرين في جيوب قليلة من الجزيرة العربية, وعلي أطرافها( الشمالية, والشمالية الغربية, والجنوبية الغربية). والمقارنة بين قصة سيدنا يوسف( عليه السلام) كما جاءت في القرآن الكريم, وكما جاءت في العهد القديم توضح الفارق الشاسع بين كلام الله وكلام البشر, والتشابه في القصة الكريمة مرده إلي وحدة المصدر السماوي, والاختلاف في الأسلوب والمحتوي والتفاصيل مرده إلي قدر هائل من التحريف الذي تعرضت له رسالة سيدنا موسي( علي نبينا وعليه من الله السلام).
من القضايا المعنوية في سورة يوسف
تضمنت سورة يوسف العديد من القضايا العقدية والروحية والمعنوية التي نستخلص منها ما يلي:
(1) أن القرآن الكريم هو كلام الله( سبحانه وتعالي) الموحي به إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم), بلسان عربي مبين كي يفهمه العرب ويطبقوه أمرا واقعا في حياتهم, ويبلغوا به غيرهم من الأمم أصحاب اللغات الأخري, لأنه أنزل للناس كافة, ولأنه الكتاب المبين عن الدين الحق, الواضح الدلالة لكل من استرشد بهديه الرباني الخالص, في الوقت الذي تعرضت كل صور الوحي السابقة علي نزوله إما للضياع أو للتحريف.
(2) أن قصة نبي الله يوسف( عليه السلام) لم تكن معروفة لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) قبل الوحي بها إليه, ولم يكن أحد من العرب يعرفها أو يعرف شيئا عنها سوي آحاد من أهل الكتاب الذين وجدوها بصورة محرفة في كتبهم, وشتان بين روايتها في القرآن الكريم وسردها عندهم, والفارق واضح وضوح الشمس بين كلام الله وصياغة البشر, وعلي ذلك فذكرها في القرآن الكريم هو من الشهادات الناطقة بنبوة هذا النبي الخاتم, وبأنه( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, وإن كان المستشرقون وأعداء الإسلام من كل لون قد استغلوا التشابه بين القصص القرآني والقصص عن أهل الكتاب للادعاء الباطل بأن الرسول الخاتم( عليه أفضل الصلاة وأزكي التسليم) قد اقتبسه من كتبهم, بدلا من التسليم بوحدة المصدر وهو الله الخالق( سبحانه وتعالي), مع الفارق الواضح بين كلام الله وتحريف البشر, ويكفي في ذلك الإشارة إلي قصة يوسف( عليه السلام) كما جاءت في كل من سفر التكوين والقرآن الكريم وهنا تتضح الحكمة الربانية من جعل خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) لا يعرف القراءة والكتابة, كما ثبت ذلك بقول ربنا( تبارك وتعالي) في سورة العنكبوت مخاطبا هذا الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم):
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون*( العنكبوت:48)
(3) أن رؤي الأنبياء حق, وأن الله( تعالي) يعلم من يشاء من عباده الصالحين تأويل الرؤي.
(4) أن الشيطان للإنسان عدو مبين, وأنه يترصد بوسوسته جميع بني آدم حتي أبناء الأنبياء والمرسلين كما حدث مع إخوة يوسف( عليه السلام).
(5) أن المساواة بين الأبناء ضرورة فطرية, ولازمة تربوية لأن المبالغة في حب الوالدين أو احدهما لأحد الأبناء يدفع الآخرين من الأبناء إلي كراهيته والكيد له كما حدث من إخوة يوسف.
(6) أن الله( تعالي) قادر علي أن يمكن لمن يشاء من عباده في الأرض, وهو( سبحانه) غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون, والإيمان بهذه الحقيقة يجعل الإنسان راضيا بقضاء الله وقدره, ويثبته في حالات النوازل, والمحن والابتلاءات, ويمنعه من ظلم الآخرين لأنه لايفلح الظالمون.
(7) أن جميع أنبياء الله قد آمنوا بالله الواحد القهار, ودعوا أممهم إلي التوحيد الخالص لله الخالق( بغير شريك, ولا شبيه, ولا منازع, ولا صاحبة ولا ولد), وإلي تنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله, وذلك لأن الله( تعالي) قد أمر بألا يعبد سواه, ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون, علي الرغم من تسليمهم بأنه سبحانه وتعالي فاطر السماوات والأرض, وذلك من دس الشياطين ووسوساتها إليهم, ولذلك يوجه الحق( تبارك وتعالي) الخطاب إلي خاتم أنبيائه ورسله بقوله:
وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين.
( يوسف:103)
( أن الإسلام القائم علي التوحيد الخالص لله, وإسلام الوجه طواعية واختيارا له( سبحانه), خضوعا كاملا لأوامره, واجتنابا تاما لنواهيه, واتباعا دقيقا لهديه, يحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض, وإقامة عدل الله فيها, هذا الإسلام هو الدين القيم, الذي لايرتضي ربنا( تبارك وتعالي) من عباده دينا سواه( ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
(9) أن النفس الإنسانية أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي وهو الغفور الرحيم, وعلي كل عاقل ألا يتبع نفسه هواها وأن يعلم أنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين.
(10) أن العلم قيمة عليا في الإسلام, وعلي العلماء ألا يغتروا بعلمهم لأن الله( تعالي) قد جعل فوق كل ذي علم عليم, وأنه( تعالي) لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم.
(11) أن الساعة لا تأتي إلا بغتة, وأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
الإشارات الكونية في سورة يوسف( عليه السلام)
جاء في سورة يوسف( عليه السلام) عدد غير قليل من الإشارات الكونية التي نوجز منها ما يلي:
(1) ليس من قبيل المصادفة أن يكون عدد إخوة يوسف( عليه السلام) أحد عشر, ويكون عدد الكواكب في مجموعتنا الشمسية بنفس العدد, وأن يري يوسف في رؤياه أحد عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين, وتتحقق هذه الرؤيا بسجود إخوته وأبويه له يوم جمعهم الله جميعا علي أرض مصر, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين*
(يوسف:4)
(2) الإشارة إلي واقعة تاريخية وقعت بمصر من قبل بعثة المصطفي( صلي الله عليه وسلم) بأكثر من اثني عشر قرنا مؤداها مرور سبع سنين من الخصب العام, تليها سبع سنين عجاف من القحط والجفاف والجدب, يليها عام زالت فيه تلك الشدة ونزل الغيث وعم الرخاء, وقد أثبتت الدراسات الأثرية صدق ذلك,
(3) التوصية الإلهية التي ألهمها ربنا( تبارك وتعالي) لعبده يوسف( عليه السلام) بترك القمح المخزون من أعوام الرخاء لأعوام الشدة في سنابله, وقد أثبتت التجارب في خزن المحاصيل الزراعية انها الطريقة المثلي في حفظ المحاصيل ذات السنابل لمدد طويلة دون فساد أو تسوس أو نقص في محتواها الغذائي.
(4) وصف عيني سيدنا يعقوب( عليه السلام) بأنهما ابيضتا من الحزن وهو مايعرف اليوم باسم الماء الأبيض أو( الكاتاراكت) وهو عبارة عن عتامة تحدث لعدسة العين تمنع دخول الضوء جزئيا أو كليا حسب درجة العتامة, وقد تحدث بسبب الحزن الشديد المصاحب بالبكاء أو لكبر السن وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:
وتولي عنهم وقال يا أسفا علي يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم*
(يوسف:84)
(5) الإشارة إلي أن عرق الإنسان به من المركبات الكيميائية ما يمكن من شفاء عتامة عدسة العين( الماء الأبيض), وهو ما توصل إليه الأستاذ الدكتور عبد الباسط سيد محمد الأستاذ بالمركز القومي للبحوث ـ بالدقي ـ القاهرة بعد ان قام بنقع عدد من العدسات المعتمة( التي تم استخراجها من عيون عدد من المرضي بعمليات جراحية) في عرق الإنسان فوجد أنها تحدث حالة من الشفافية التدريجية لتلك العدسات, ووجد أن العامل المؤثر في ذلك هو أحد المركبات الكيميائية لعرق الإنسان, واسمه العلمي( الجواندين), وأمكن تحضير هذا المركب مختبريا, وإنتاج قطرة منه حصل بها علي براءة اختراع أوروبية وأخري أمريكية في العامين1991 م و1993م علي التوالي, وقد استوحي هذا العالم الجليل فكرة تلك القطرة من قول ربنا( تبارك وتعالي): علي لسان عبده ونبيه يوسف( عليه السلام) مانصه:
اذهبوا بقميصي هذا فألقوه علي وجه أبي يأت بصيرا واتوني بأهلكم أجمعين*
( يوسف:93)
(6) الإشارة إلي أن بالسماوات والأرض من الآيات الحسية ما يشهد لله الخالق( سبحانه وتعالي) بطلاقة القدرة, وعظيم الصنعة, وإحكام الخلق, وقد أثبتت الدراسات العلمية ذلك, وإن كان أغلب الناس( يمرون عليها وهم عنها معرضون).
وكل واحدة من هذه الإشارات الكونية تحتاج إلي معالجة خاصة بها, ولذلك فإنني سوف أقصر حديثي هنا علي النقطة الثالثة المتعلقة بخزن المحاصيل ذات السنابل في سنابلها, وقبل الوصول إلي ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين في شرح دلالة هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله تعالي علي لسان عبده ونبيه يوسف عليه السلام:
قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون*
( يوسف:47)
ذكر الإمام ابن كثير( رحمه الله) ما مختصره: قال( تزرعون سبع سنين دأبا) أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات( فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون): أي مهما استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقي له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار الذي تأكلونه, وليكن قليلا قليلا لاتسرفوا فيه, لتنتفعوا به في السبع الشداد, وهن السبع سنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات, وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان, لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب, وهن السنبلات اليابسات, وأخبرهم أنهن لاينبتن شيئا وما بذروه فلا يرجعون منه إلي شئ, ولهذا قال يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون) ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك( عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) أي يأتيهم الغيث وهوالمطر, وتغل البلاد, ويعصر الناس ما كانوا يعصرون, علي عادتهم من زيت وعنب ونحوه.
ومن قبل ذكر الإمام الطبري( رحمه الله) كما ذكر بقية المفسرين كلاما مشابها مع تفاوت بسيط في شرح دلالة بعض كلمات الآية الكريمة, ولذلك أري الاكتفاء هنا بكلام الإمام ابن كثير( رحمه الله ورحم جميع المفسرين الذين خدموا القرآن الكريم برحمته الواسعة).
من الدلالات العلمية للآية الكريمة
يعتبر القمح أهم أغذية الإنسان, وقد عرف في المشرق العربي قبل بدء التاريخ, ثم انتشر إلي أواسط آسيا, ومن بعد ذلك إلي بقية أجزاء العالم, وكان قدماء المصريين من أوائل الشعوب التي زرعت القمح, وإن كان تاريخ زراعته يرجع إلي العصر الحجري إن لم يكن قبل ذلك.
والقمح يتبع العائلة النجيلية(FamilyGramineae) نسبة إلي نبات النجيل, وتضم هذه العائلة بالإضافة إلي القمح عددا من المحاصيل الأخري مثل الشعير, الذرة, الشوفان الراي أو الجاردار(Rye) والأرز, السرجوم(Sorghum), كما تشمل نباتات اقتصادية اخري مثل قصب السكر, والغاب والنجيل وغير ذلك من حشائش المراعي, والأعشاب الطبية, وتشمل عائلة النجيليات حوالي450 جنسا, وسبعة آلاف نوع من أنواع النباتات التي تنتشر علي سطح الأرض لتغطي مساحات هائلة تفوق المساحات التي تغطيها أفراد أية عائلة نباتية أخري, وتمثل العائلة النجيلية بأعشاب حولية أو معمرة, وإن كان بعضها يمثل بنباتات خشبية قد يصل طول الواحدة منها إلي اكثر من ثلاثين مترا كما هو الحال في نباتات الخيزران الهندي.
وأزهار النجيليات عادة ما تكون بسيطة التركيب صغيرة الحجم, خضراء ويتم تلقيحها بواسطة الرياح.
والقمح هو أهم أجناس العائلة النجيلية علي الإطلاق, ويعرف منه في مصر ثلاثة أنواع رئيسية علي الأقل تعرف بالأسماء التالية:
(1) القمح شديد الاحتمال( الدكر)(Triticumdurum) أو(Emmer) وهذا النوع من القمح يزرع في جنوب صعيد مصر, وفي واحات الصحراء الغربية, وفي شبه جزيرة سيناء.
(2) القمح البلدي( الهرمي)Triticumpyramidale ويزرع في شمال صعيد مصر وفي الفيوم.
(3) القمح الهنديTriticumVulgare ويزرع في الوجه البحري.
وتتميز نباتات العائلة النجيلية بالجذور الليفية التي يحمل الكثير منها ريزومات عقدية وتتكاثر أغلبها بالأشطاء وهي براعم تنمو عند المنطقة الفاصلة بين الجذر والساق( فوق التربة) كما هو الحال في نبات القمح, الذي تتكون جذوره من مجموع أساسي خارج من البذرة النابتة, ومجموع عرضي يخرج من البراعم الجانبية, وكذلك الساق يتميز إلي ساق أساسي( يمثل نمو السويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة) وسيقان عرضية علي هيئة أفرع قاعدية تخرج من البراعم الإبطية الموجودة عند العقد القاعدية, المزدوجة, النامية علي قاعدة الساق الأساسية عند منطقة الاتصال بين الجذر والساق فوق سطح الأرض( التربة) مباشرة, وبذلك ينبت من الحبة الواحدة مجموعة من الأفرع أو السيقان المحيطة بالساق الرئيسي تعرف باسم الأشطاء( مفردها شطء) ويتراوح عددها بين العشرين والثلاثين وقد يصل إلي الخمسين, وعلي ذلك فإن نبتة القمح الواحدة توجد في حزمة مركبة من الأشطاء النامية حول الساق الأساسي وكلها متصلة ببعضها البعض في مجموعة من الجذور الليفية مما يوضح خروجها من أصل واحد, أي من بادرة واحدة خارجة من بذرة واحدة, فالحبة النابتة تخرج منها البادرة, والبادرة تعطي الأشطاء في منطقة الاتصال بين الجذر والساق فوق التربة مباشرة, ولا تلبث تلك أن تنمو حتي تصل إلي طول الساق الأصلية تقريبا وتعطي سنابل مثلها, بحيث يكون لكل شطء سنبلة خاصة به, وبذلك تنبت الحبة الواحدة نباتات تحمل عدة سنابل, وأوراق شجيرة القمح متبادلة علي ساقها, وكل واحدة منها تحمل زوجا من الأذينات عند قاعدة النصل, وللساق غمد يحيط به, ونورة نبات القمح تتكون من حشد من الأزهار التي تتجمع علي جزء من الساق, وبذلك تتركب النورة من جزء من الساق يسمي محور النورة, وعدد من الأزهار التي تخرج من آباط أوراق صغيرة تسمي القنابات( العصيفات أو العصافات مفردها عصيفة), وفي بعض الأحيان تظهر الأزهار دون قنابات.
ونورة نبات القمح نورة مركبة يستطيل فيها المحور وتترتب عليه الأزهار الجالسة التي بعد إخصابها تعطي الثمرة وهي بذور القمح, وعند تمام الإخصاب تتحول نورة القمح إلي سنبلة خضراء ثم بعد تمام نضجها تتحول إلي سنبلة صفراء ذهبية.
وسنبلة القمح سنبلة مركبة, يحمل فيها المحور سنابل أصغر تعرف باسم السنيبلات, وهي جانبية الترتيب في تبادل علي صفين متقابلين, وينتهي المحور عادة بسنبلة طرفية.
وتحمل السنبلة في المتوسط(15 ـ20) سنيبلة, ويتفاوت عدد الأزهار في السنيبلة الواحدة بين(2 ـ9) ويكون في النسيبلة الواحدة حبتان إلي ثلاث حبات من القمح. ولبعض سلالات القمح شوكة طرفية دقيقة جدا تعرف باسم( السفا أو الحسكة). ونبات الشعير يشبه نبات القمح في شكله وفي العديد من صفاته, والشعير من أقدم محاصيل الحبوب التي عرفها الإنسان وقام علي زراعتها, وكان يعتبر المصدر الرئيسي لدقيق الخبز حتي حل القمح محله في ذلك. ولكل من حبتي القمح والشعير غلاف رقيق ولكنه صلب, يلتصق بالحبة بشدة بالغة, ويعتبر حماية لها من الرطوبة, والتغيرات المناخية, ومن مختلف أنواع الكائنات الحية الضارة, والملوثات الكيميائية, ويعرف باسم الغلاف المحيط(Pericarp), وهو ينفصل عن حبة القمح( البرة) علي هيئة النخالة عند الطحن, وتؤلف النخالة حوالي8,5% من وزن حبة القمح وهي ثمرة جافة, صغيرة, التحم جدارها بغلاف البذرة التحاما كاملا.
وجنين بذرة القمح صغير جدا ويتكون من مركبات كيميائية ذات قيمة غذائية عالية من مثل البروتينات والفيتامينات والدهون ويشكل ذلك حوالي2% ـ2.5% من وزن حبة القمح وعادة ما تستبعد الدهون من الدقيق عند طحنه لأنها تتحلل وتفسد مع التخزين لمدد طويلة, ويحاط الجنين بمخزون غذائي علي هيئة طبقة بروتينية غنية بمادة الجلوتين(Gluten) وبمركبات الفوسفور والنشا, وجزيئات الجلوتين خيطية الشكل ومتشابكة مع بعضها البعض, ومن فوائدها أنها تجعل العجين لينا سهل التشكيل, وقابلا للتخمر بإضافة الخميرة إليه, ويمثل المخزون الغذائي في حبة القمح حوالي87% إلي88% من كتلتها.
وحبة القمح تغلفها قنابة تسمي العصافة(Glume) هي التي تكون قشر الحنطة. والحبوب في كل من السنيبلات والسنابل محاطة بأغلفة واقية وأشواك وشعيرات تحميها من الفطريات والبكتريا والجراثيم, والحشرات والرطوبة, ومن تقلبات الطقس وتيارات الهواء الجوي المباشر المحمل بالملوثات, وهذه الأغلفة بالرغم من صلابتها, وشدة إحكامها فإنها تسمح للجنين الكامن في داخل البذرة ـ وهو في حالة من الركود الحيوي والسكون ـ بقدر من التهوية غير المباشرة والمستمرة, وتحول دون ارتفاع نسبة الرطوبة للحيلولة دون إنبات الجنين في أوقات التخزين, كذلك فإن البذرة الجافة وأغلفتها تحتوي علي آثار طفيفة من مركبات كيميائية حافظة للبذرة, ومثبطة لعملية إنباتها تحت الظروف الجافة, وعلي مركبات أخري مضادة لكل من البكتريا, والفطريات والجراثيم المحتمل وصولها إلي الحبوب أثناء تخزينها.
انطلاقا من ذلك كله جاءت الآية الكريمة التي نحن بصددها إلهاما من الله( سبحانه وتعالي) لنبيه يوسف( عليه السلام) لكي ينصح بخزن المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير, والأرز, والشوفان في سنابلها, وقد أثبتت التجربة أنه أفضل نظام لحفظ تلك المحاصيل طالت مدد ذلك الحفظ أم قصرت, وقد طبقها يوسف( عليه السلام) لمدة وصلت إلي خمس عشرة سنة دون أن تفسد وبقيت طوال هذه المدة محافظة علي قيمتها الغذائية كاملة, وعلي حيويتها, وقدرتها علي الإنبات والنمو والإثمار.
ولقد قام الأستاذ الدكتور عبد المجيد بلعابد( من جامعة وجدة بالمغرب العربي) بتجربة عملية للتأكد من ذلك فترك بذور القمح في سنابلها لمدة عامين تحت ظروف عادية لم يراع فيها أية شروط من شروط تخزين الحبوب, وجرد بعض البذور من سنابلها وتركها أيضا تحت نفس الظروف ولنفس المدة الزمنية, فلاحظ أن الحبوب في السنابل لم يطرأ عليها أي تغيير لا في محتواها من المواد الغذائية ولا في قدرتها علي الإنبات سوي فقدها لجزء من محتواها المائي مما جعلها أكثر جفافا وأصلح للحفظ وللإنبات لأن وجود الماء يسهل من تعفن القمح, خاصة أن نسبة الماء في بذوره تصل إلي20,3%.
في نفس الوقت لاحظ الباحث أن حبوب القمح التي جردت من سنابلها فقدت20% من محتواها من المواد البروتينية بعد سنة من خزنها, وفقدت32% من هذا المحتوي بعد سنتين, وكذلك فقدت نسبة كبيرة من قدرتها علي الإنبات والنمو والإثمار.
وبذلك ثبت بالتجربة أن افضل طريقة لتخزين المحاصيل النباتية التي تنتج في سنابل كالقمح والشعير والأرز هو حفظها في سنابلها التي خلقها الله( تعالي) فيها.
وهذا هو من الوحي الذي أوحاه الله( تعالي) إلي نبيه يوسف( عليه السلام), وذكره مع قصته كاملة في القرآن الكريم مما يشهد لهذا الكتاب الخالد أنه لايمكن أن يكون صناعة بشرية, بل هو كلام الخالق العليم الحكيم( سبحانه وتعالي) ويشهد لكل من يوسف بن يعقوب( عليه السلام) ولخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) بالنبوة وبالرسالة, لأن المصريين القدماء ماكانوا يعرفون طريقة لحفظ الغلال وخزنها إلا معزولة عن سنابلها, والأمر الإلهي بحفظها في سنابلها لم يدرك إلا بعد مشورة هذا النبي سليل بيت النبوة( علي نبينا وعليه من الله تعالي أفضل الصلاة وأزكي التسليم), ولا يزال القمح يخزن في أيامنا هذه مفروطا من سنابله مما يعرضه لفساد كبير عند خزنه علي الرغم من الاحتياطات الكثيرة التي تتخذ في صوامع ومخازن الغلال.
وإذا أضفنا إلي ذلك مقارنة قصة يوسف( عليه السلام) كما أنزلت في القرآن الكريم علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم) وسط أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, مع ما ورد عنها في سفر التكوين, اتضحت لنا وحدة رسالة السماء, والأخوة بين الأنبياء, وفضل الإسلام العظيم علي الناس أجمعين, وفضل القرآن الكريم علي غيره من الكتب, لأن القصة في سفر التكوين مع تشابهها مع ما جاء في القرآن الكريم قد عابها كثير من النقص البشري, والتحريف عندما رويت شفاهة ودونت بعد ضياع مصادرها الأصلية بقرون متطاولة. وهنا يتضح فضل العهد الإلهي الذي قطعه ربنا( تبارك وتعالي) علي ذاته العلية بحفظه للقرآن الكريم من لحظة نزوله وإلي قيام الساعة فقال( عز من قائل):
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون*
( الحجر:9)
فالحمد لله علي نعمة الإسلام, والحمد لله علي نعمة القرآن, والحمدلله أولا وآخرا, وصلي الله وسلم وبارك علي كافة أنبياء الله ورسله أجمعين, وعلي من تبعهم بإحسان إلي يوم الدين, ونسأل الله تعالي أن يخص خاتم الأنبياء والمرسلين وآل بيته الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, ومن والاهم وسار علي دربهم إلي يوم الدين بأفضل الصلاة وأزكي التسليم وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.