فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذ الآية الكريمة جاءت في خواتيم سورة المعارج, وهي سورة مكية, وعدد آياتها أربع وأربعون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود وصف من أوصاف الله( تعالي) فيها يصف به ربنا( تبارك اسمه) ذاته العلية بوصف( ذي المعارج) أي ذي العلو والرفعة, لأن المعارج هي المصاعد والمدارج التي يرتقي بها إلي الأعلي, جمع معرج( بفتح الميم وكسرها); والقرآن الكريم يسمي الحركة في السماء دوما بالعروج, ومنها معراج رسول الله( صلي الله عليه وسلم).
وعن أسباب نزول هذه السورة المباركة يروي عن ابن عباس( رضي الله عنهما) قوله بأن أحد كفار قريش( وكان اسمه النضر بن الحارث) حين سمع تحذير رسول الله( صلي الله عليه وسلم) من عذاب الله( تعالي) قال مستكبرا قولته الخبيثة التي سجلها عليه القرآن الكريم في سورة الأنفال, بقول الحق( تبارك وتعالي):
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم*( الأنفال:32)
فأنزل الله( تعالي) رده الحق في مطلع سورة المعارج التي استهلها بقوله العزيز:
سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع* من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة*( المعارج:1 ـ4).
ويدور المحور الرئيسي لسورة المعارج حول حقيقة الآخرة, ومايصاحبها من بعث, وحساب, وجزاء, يعقبه الخلود في حياة أبدية قادمة إما في الجنة أو في الناركما يدور حول صعوبة استيعاب الكفار والمشركين لإمكانية البعث انطلاقا من إنكارهم لوجود الله, أو من تشويه مفهوم الألوهية لديهم في عدد من المعتقدات الفاسدة والرائجة عندهم...!!
وتبدأ السورة الكريمة باستنكار هذا الموقف المستهترالذي وقفه أحد كفار قريش مستهينا بالآخرة وعذابها, فدعا بنزول العذاب علي نفسه وعلي قومه, فنزل عذاب الله فورا به وبهم, فقد هلك هذا الكافر في يوم بدر, ونزلت الهزيمة المنكرة بقومه يومها. وتأكيدا علي طلاقة القدرة الإلهية تصف الآيات بعد ذلك حركة كل من الروح والملائكة في السماء بالعروج إلي الله ذي المعارج, وإن كانت طبيعة كل من الملائكة والروح من الأمور الغائبة عن علم الإنسان وإدراكه غيبة مطلقة, إلا أن الآيات تشير إلي أن مثل هذا العروج يتم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وبعد ذلك توصي الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بالصبر الجميل أمام إنكار الكافرين ـ في زمانه ـ لبعثته الشريفة, ولما جاء به من الحق, والوصية مستمرة إلي زماننا وحتي قيام الساعة ـ توصي أتباع هذا النبي والرسول الخاتم بالصبر الجميل أمام كفر الكافرين, وشرك المشركين, وإصرارهم علي إنكار بعثة خاتم المرسلين( صلي الله عليه وسلم), وإنكار مابعث به من دين خاتم.
وتؤكد الآيات في سورة المعارج أن الكافرين يرون يوم القيامة بعيدا, ويراه ربنا قريبا لأن يوما عنده بخمسين ألف سنة مما نعد نحن أهل الأرض; والزمن من خلق الله, والمخلوق لايحد الخالق أبدا...!!
وبعد ذلك تبدأ الآيات في استعراض جانب من أهوال يوم القيامة التي يصفها ربنا( تبارك وتعالي) بقوله:
يوم تكون السماء كالمهل* وتكون الجبال كالعهن* ولايسأل حميم حميما*
( المعارج:8 ـ.1)
أي يوم تنهار السماء فتكون كالرصاص المصهور; وتتطاير الجبال فتكون كالصوف المندوف المنفوش, أو المصبوغ بالألوان, إشارة إلي احتفاظ مكونات الجبال بألوان صخورها رغم نسفها وتدميرها...!! وساعتها لايملك الإنسان السؤال عن أقرب الناس إليه, وأحبهم إلي قلبه, وذلك من هول الفزع, علي الرغم من رؤية بعضهم بعضا, وتعرف بعضهم علي بعض, وذلك لانشغال كل واحد منهم بنفسه, وتمنيه لو يستطيع أن يفديها من عذاب يومئذ ببنيه, وصاحبته وأخيه, وعشيرته التي ينتمي إليها, وبجميع من في الأرض من الخلق, ولكن هيهات أن يكون له ذلك...!! وهنا يأتي رد الحق( تبارك وتعالي) بقوله( عز من قائل): كلا إنها لظي* نزاعة للشوي* تدعو من أدبر وتولي* وجمع فأوعي*
( المعارج:15 ـ18).
و(كلا) في العربية أداة زجر وردع, ولذلك تأتي الآيات من بعدها بشيء من أوصاف جهنم( أعاذنا الله تعالي منها), ومن ذلك أن نيرانها تشتعل بلهب خالص( وهو اللظي), وأنها تنزع بشدة حرها جوارح المعذبين فيها, ثم تعاد تلك الجوارح إلي مواضعها ليتكرر العذاب, وذلك من قبيل الزيادة في التنكيل بكل كافر ومشرك وظالم, أعرض عن الحق, وأدار ظهره له, وأفسد في الأرض, وتجبر علي الخلق, ونسي الآخرة ومافيها من حساب, وركز علي جمع المال وكنزه, وإمساكه في أوعيته, ولم يؤد حق الله فيه. و(الشوي) جمع( شواة) وهي من جوارح الإنسان مالم يكن مقتلا.
ثم تعرض سورة المعارج لشيء من طبائع النفس البشرية التي تجزع عند الشدة, وتبخل وتبطر عند النعمة, فتميل إلي منع حقوق الفقراء والمساكين; ومن هذا الحكم العام تستثني سورة المعارج المصلين,( الذين هم علي صلاتهم دائمون* والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم* والذين يصدقون بيوم الدين* والذين هم من عذاب ربهم مشفقون*( المعارج:23 ـ27)
فكل عاقل حصيف يسعي جاهدا في هذه الحياة, وهو حريص كل الحرص علي اجتناب كل عمل يستوجب غضب الله وعذابه, وكل إنسان عفيف يستعف نفسه عن محارم الله, لأن الخوض فيها اعتداء علي أوامر الله, وتجاوز لحدوده.
وعقبت السورة الكريمة بشيء من صفات المؤمنين ومنها مراعاة الأمانات وحفظ العهود, والقيام بشهادة الحق مهما كلفهم ذلك من ثمن, والمحافظة علي الصلاة مهما كانت الظروف والملابسات, وتؤكد سورة المعارج أن هؤلاء هم الذين سوف يكرمهم الله( تعالي) بإدخالهم إلي جنات النعيم, خالدين فيها أبدا, وفيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت ولاخطر علي قلب بشر...!!
ثم تنتقل السورة بسؤال استنكاري عن الكفار والمشركين الذين كانوا يتسارعون إلي التجمهر حول رسول الله( صلي الله عليه وسلم) عن اليمين وعن الشمال يستمعون إليه دون أن يؤمنوا به, ويدفعهم الغرور والتطاول إلي الادعاء الباطل بأنهم أولي بالجنة من أصحابه الذين آمنوا به, وأيدوه.., ونصروه, ويأتي الرد إلالهي عليهم بهذا الاستفهام التوبيخي الاستنكاري الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي): أيطمع كل امريء منهم أن يدخل جنة نعيم*( المعارج:38)
ويزيدهم( سبحانه وتعالي) تقريعا بقوله( عز من قائل) كلا أي ليس الأمر أبدا كما يطمعون, فليس لهم إيمان أو عمل صالح يؤهلهم لدخول الجنة, وهو( تعالي) عليم بخلقهم, ولذلك يقسم بذاته العلية أنه قادر علي إهلاكهم وعلي استبدالهم بمن هم خير منهم فيقول( سبحانه وتعالي): فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون* علي أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين*
( المعارج:40 ـ41)
وتختتم السورة الكريمة بأمر من الله( تعالي) إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) أن يدع هؤلاء الكافرين والمشركين يخوضون في باطلهم, يلهون ويلعبون حتي يلاقوا يومهم الذي وعدهم الله إياه وتوعدهم به فيقول( سبحانه): فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون* يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلي نصب يوفضون* خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون*
( المعارج:42 ـ44)
الآيات الكونية
التي استشهدت بها سورة المعارج
استشهدت سورة المعارج علي صدق ما جاء بها من أمور الغيب المطلق بالعديد من الآيات الكونية الشاهدة لله( تعالي) بطلاقة القدرة علي إبداع الخلق, وعلي إفنائه وإعادة خلقه من جديد, ومن هذه الآيات مايلي:
(1) وصف الحركة في السماء بالعروج, وأن كلا من الملائكة والروح تعرج إلي الله( تعالي) الذي وصف ذاته بالوصف( ذي المعارج). والعروج بمعني ارتفاع وتحرك كل شيء في صفحة السماء في خطوط متعرجة هو حقيقة علمية لم تدرك إلا في أواخر القرن العشرين.
(2) التعبير القرآني المعجز الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة* فيه إشارة إلي سرعات فائقة في الكون, وتأكيد علي تواصل كل من المكان والزمان, وعلي تعاظم أبعاد الكون, وإلي نسبية كل شيء في العلم الكسبي للإنسان بحكم نسبية مكانه من الكون, وزمانه( أي عمره) ونسبية كل حواسه وقدرات عقله( أي محدوديتها), والنسبية لم تدركها معارف الإنسان إلا في مطلع القرن العشرين.
(3) وصف السماء بأنها سوف تكون يوم القيامة كالمهل.
(4) وصف الجبال بأنها سوف تكون يوم القيامة كالعهن.
(5) وصف طبيعة النفس البشرية عامة بالهلع والجزع عند وقوع الشر, وبالبطر والشح عند نزول النعمة, إلا المصلين.
(6) القسم بالمشارق والمغارب, وفيه إشارة ضمنية رقيقة إلي كل من كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس, وإلي كروية كل أجرام السماء ودورانها حول محاورها, وجريها في مداراتها, فلولا ذلك ماتعددت المشارق والمغارب أبدا.
(7) الإشارة إلي خلق الإنسان من ماء مهين.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة, ولذا فسوف اقصر حديثي هنا علي النقطة السادسة في القائمة السابقة والمتعلقة بتعدد المشارق والمغارب, ودلالاتها العلمية, وقبل مناقشة ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من كبار المفسرين من القدامي والمعاصرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون* علي أن نبــدل خيرا منهم ومانحن بمسبوقين*( المعارج:40 ـ41)
* ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه:... ثم قال تعالي فلا أقسم برب المشارق والمغارب) أي الذي خلق السماوات والأرض, وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها( إنا لقادرون علي أن نبدل خيرا منهم) أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك,( وما نحن بمسبوقين) أي بعاجزين.... واختار ابن جرير( علي أن نبدل خيرا منهم) أي أمة تطيعنا ولا تعصينا... والمعني الأول أظهر لدلالة الآيات الأخر عليه, والله سبحانه وتعالي أعلم....
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه فلا) لا زائدة[ لتأكيد القسم]( اقسم برب المشارق والمغارب) للشمس والقمر, وسائر الكواكب( إنا لقادرون)( علي أن نبدل) نأتي بدلهم( خيرا منهم ومانحن بمسبوقين) بعاجزين عن ذلك.
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبه) مانصه: والامر ليس في حاجة إلي قسم, ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب يوحي بعظمة الخالق. والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح كما انها تعني المشارق والمغارب المتوالية علي بقاع الارض, وهي تتوالي في كل لحظة, ففي كل لحظة اثناء دوران الارض حول نفسها امام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب... وايا كان مدلول المشارق والمغارب فهو يوحي إلي القلب بضخامة هذا الوجود, وبعظمة الخالق لهذا الوجود. فهل يحتاج امر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلي قسم برب المشارق والمغارب علي انه سبحانه قادر علي أن يخلق خيرا منهم وانهم لايسبقونه ولايفوتونه ولايهربون من مصيرهم المحتوم؟.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) مانصه:
أقسم, و(لا) مزيدة... والمشارق والمغارب: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.( وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين, أو عاجزين عن ان نأتي بقوم آخرين خير منهم
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه:
فلا أقسم برب المشارق والمغارب من الأيام والكواكب والهدايات, إنا لقادرون علي أن نهلكهم ونأتي بمن هو أطوع منهم لله, ومانحن بعاجزين عن هذا التبديل.
وجاء في الهامش مايلي: قد يكون المراد بالمشارق والمغارب أقطار ملك الله علي سعته التي لاتحد كما أشير في الآية127 من سورة الاعراف.
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها, للدلالة علي أرجاء الأرض المشار إليها.
وقد يكون المراد أيضا مشارق الشمس والقمر وكافة النجوم والكواكب ومغاربها جميعا للدلالة أيضا علي ملك الله كله. وترجع ظاهرة شروق الأجرام السماوية وغروبها إلي دوران الأرض حول محورها من الغرب نحو الشرق ومن ثم تبدو لنا تلك الأجرام متحركة في قبة السماء علي عكس ذلك الاتجاه مشرقة علي الأفق الشرقي وغاربة من الأفق الغربي, أو علي الأقل دائرة من المشرق إلي المغرب حول النجم القطبي ـ في نصف الكرة الشمالي مثلا ـ وإذا كان البعد القطبي للنجم اصغر من عرض مكان الراصد فالنجم لايشرق ولايغرب بل يرسم دائرة صغيرة وهمية حول القطب الشمالي, وبذلك تشير الآية كذلك إلي ساعات الليل ـ راجع قوله تعالي:
وعلامات وبالنجم هم يهتدون.
وظاهرة الشروق والغروب إشارة إذن إلي دوران كرة الأرض, وهي نعمة كبري من نعم الله علي أحياء هذا الكوكب, فلولا دوران الأرض حول محورها لتعرض نصفها لضوء الشمس مدة نصف سنة وحرم من الضوء تماما النصف الآخر, وهذا مالا تستقيم معه الحياة كما نعهدها.
واذا اقتصرنا عند ذكر المشارق والمغارب علي تدبير الشمس وحدها دون سائر النجوم والكواكب, كانت هذه إشارة إلي التعدد اللانهائي لمشارق الأرض ومغاربها يوما بعد يوم في كل موضع علي سطح الأرض, أو حتي في لحظة من لحظات الزمان تمر علي الكرة الأرضية, فالشمس في كل لحظة غاربة عند نقطة ومشرقة في نقطة أخري تقابلها. وهذا من محكم تدبير الله وإعجاز قدرته....
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه: أي فأقسم برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.
المشارق والمغارب في القرآن الكريم
جاء ذكر المشرق والمغرب في القرآن الكريم بالإفراد, والتثنية والجمع في أحد عشر موضعا علي النحو التالي:
أولا: بالإفراد: جاء ذكر المشرق والمغرب في ست آيات قرآنية كريمة هي كما يلي:
1 ـ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم*( البقرة:115)
2 ـ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم*
(البقرة:142)
3 ـ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين...*( البقرة177)
4 ـ... قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين*( البقرة:258)
5 ـ قال رب المشرق والمغرب ومابينهما إن كنتم تعقلون*( الشعراء:28)
6 ـ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا*( المزمل:9)
ثانيا: وجاء ذكر المشرقين أو ذكر المشرقين والمغربين مرتين في كتاب الله علي النحو التالي:
1 ـ حتي إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين*( الزخرف:38)
2 ـ رب المشرقين ورب المغربين*
( الرحمن:17)
ثالثا: وجاء ذكر المشارق وحدها مرة وذكر المشارق والمغارب مرتين في كتاب الله علي النحو التالي:
1 ـ رب السموات والأرض ومابينهما ورب المشارق*( الصافات5)
2 ـ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها....*( الأعراف:137)
3 ـ فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون( المعارج40)
وهنا ثار تساؤل المفسرين عن سبب ذكر المشرق والمغرب بالإفراد, والمشرقين والمغربين بالتثنية, والمشارق والمغارب بالجمع وتعددت إجاباتهم, ومن هنا كانت ضرورة توظيف الحقائق العلمية التي توفرت في زماننا حتي يمكن فهم دلالة هذه الآيات الكريمة بشكل أعمق.
المدلول العلمي للآية الكريمة
بما أن المخاطبين بالقرآن الكريم هم أهل الأرض جميعا, فمن المنطقي أن يكون المقصود بالتعبير القرآني رب المشارق والمغارب هو مشارق الأرض ومغاربها; ولكن بما أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي له ملك السماوات والأرض ومابينهما, فإن دلالة الآية الكريمة تتسع لتشمل مشارق ومغارب كل أجرام السماء, وعلي ذلك فلابد من فهم دلالة الآية الكريمة في هذين الإطارين علي النحو التالي:
أولها: المشارق والمغارب بالنسبة إلي الأرض:
(1) مشرق الأرض ومغربها:
علي الرغم من أن كل ما في صفحة السماء من أجرام يدور حول محوره, ويسبح جاريا في مداره إلا أن النجم القطبي يبدو ثابتا في مكانه بالنسبة للأرض, ولايشترك في الدوران الظاهري لقبة السماء وما بها من نجوم, والناتج عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق دورة كاملة في كل أربع وعشرين ساعة( في زماننا الراهن). والسبب في ذلك هو أن النجم القطبي يقع علي امتداد محور دوران الأرض حول نفسها تماما, وبذلك يحدد لنا اتجاه الشمال الحقيقي( والمعروف باسم الشمالي الجغرافي); ويتعامد علي هذا الاتجاه يمينا شرق الأرض. ويسارا غربها أي اتجاه الشرق الحقيقي والغرب الحقيقي بالنسبة للأرض ككوكب, ويتضح من ذلك جانب من جوانب الحكمة الإلهية المبدعة بخلق هذه العلاقة حتي يبقي النجم القطبي بمثابة البوصلة الكونية المعلقة في السماء الدنيا لارشاد أهل الأرض إلي الاتجاهات الأربعة الأصلية, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
وعلامات وبالنجم هم يهتدون*
( النحل:16)
ويقول: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا*( المزمل:9)
(2) مشارق الأرض ومغاربها:
بدوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة( في زماننا الراهن) يتحدد يوم الأرض الذي يتقاسمه الليل والنهار. وبدوران القمر دورة كاملة حول محوره, وحول الأرض في مدة تقدر بحوالي29,5 يوما يتحدد شهر الأرض القمري الذي يمكن تقسيمه إلي أيام وأسابيع بتتابع مراحل
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذ الآية الكريمة جاءت في خواتيم سورة المعارج, وهي سورة مكية, وعدد آياتها أربع وأربعون بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود وصف من أوصاف الله( تعالي) فيها يصف به ربنا( تبارك اسمه) ذاته العلية بوصف( ذي المعارج) أي ذي العلو والرفعة, لأن المعارج هي المصاعد والمدارج التي يرتقي بها إلي الأعلي, جمع معرج( بفتح الميم وكسرها); والقرآن الكريم يسمي الحركة في السماء دوما بالعروج, ومنها معراج رسول الله( صلي الله عليه وسلم).
وعن أسباب نزول هذه السورة المباركة يروي عن ابن عباس( رضي الله عنهما) قوله بأن أحد كفار قريش( وكان اسمه النضر بن الحارث) حين سمع تحذير رسول الله( صلي الله عليه وسلم) من عذاب الله( تعالي) قال مستكبرا قولته الخبيثة التي سجلها عليه القرآن الكريم في سورة الأنفال, بقول الحق( تبارك وتعالي):
وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم*( الأنفال:32)
فأنزل الله( تعالي) رده الحق في مطلع سورة المعارج التي استهلها بقوله العزيز:
سأل سائل بعذاب واقع* للكافرين ليس له دافع* من الله ذي المعارج* تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة*( المعارج:1 ـ4).
ويدور المحور الرئيسي لسورة المعارج حول حقيقة الآخرة, ومايصاحبها من بعث, وحساب, وجزاء, يعقبه الخلود في حياة أبدية قادمة إما في الجنة أو في الناركما يدور حول صعوبة استيعاب الكفار والمشركين لإمكانية البعث انطلاقا من إنكارهم لوجود الله, أو من تشويه مفهوم الألوهية لديهم في عدد من المعتقدات الفاسدة والرائجة عندهم...!!
وتبدأ السورة الكريمة باستنكار هذا الموقف المستهترالذي وقفه أحد كفار قريش مستهينا بالآخرة وعذابها, فدعا بنزول العذاب علي نفسه وعلي قومه, فنزل عذاب الله فورا به وبهم, فقد هلك هذا الكافر في يوم بدر, ونزلت الهزيمة المنكرة بقومه يومها. وتأكيدا علي طلاقة القدرة الإلهية تصف الآيات بعد ذلك حركة كل من الروح والملائكة في السماء بالعروج إلي الله ذي المعارج, وإن كانت طبيعة كل من الملائكة والروح من الأمور الغائبة عن علم الإنسان وإدراكه غيبة مطلقة, إلا أن الآيات تشير إلي أن مثل هذا العروج يتم في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وبعد ذلك توصي الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بالصبر الجميل أمام إنكار الكافرين ـ في زمانه ـ لبعثته الشريفة, ولما جاء به من الحق, والوصية مستمرة إلي زماننا وحتي قيام الساعة ـ توصي أتباع هذا النبي والرسول الخاتم بالصبر الجميل أمام كفر الكافرين, وشرك المشركين, وإصرارهم علي إنكار بعثة خاتم المرسلين( صلي الله عليه وسلم), وإنكار مابعث به من دين خاتم.
وتؤكد الآيات في سورة المعارج أن الكافرين يرون يوم القيامة بعيدا, ويراه ربنا قريبا لأن يوما عنده بخمسين ألف سنة مما نعد نحن أهل الأرض; والزمن من خلق الله, والمخلوق لايحد الخالق أبدا...!!
وبعد ذلك تبدأ الآيات في استعراض جانب من أهوال يوم القيامة التي يصفها ربنا( تبارك وتعالي) بقوله:
يوم تكون السماء كالمهل* وتكون الجبال كالعهن* ولايسأل حميم حميما*
( المعارج:8 ـ.1)
أي يوم تنهار السماء فتكون كالرصاص المصهور; وتتطاير الجبال فتكون كالصوف المندوف المنفوش, أو المصبوغ بالألوان, إشارة إلي احتفاظ مكونات الجبال بألوان صخورها رغم نسفها وتدميرها...!! وساعتها لايملك الإنسان السؤال عن أقرب الناس إليه, وأحبهم إلي قلبه, وذلك من هول الفزع, علي الرغم من رؤية بعضهم بعضا, وتعرف بعضهم علي بعض, وذلك لانشغال كل واحد منهم بنفسه, وتمنيه لو يستطيع أن يفديها من عذاب يومئذ ببنيه, وصاحبته وأخيه, وعشيرته التي ينتمي إليها, وبجميع من في الأرض من الخلق, ولكن هيهات أن يكون له ذلك...!! وهنا يأتي رد الحق( تبارك وتعالي) بقوله( عز من قائل): كلا إنها لظي* نزاعة للشوي* تدعو من أدبر وتولي* وجمع فأوعي*
( المعارج:15 ـ18).
و(كلا) في العربية أداة زجر وردع, ولذلك تأتي الآيات من بعدها بشيء من أوصاف جهنم( أعاذنا الله تعالي منها), ومن ذلك أن نيرانها تشتعل بلهب خالص( وهو اللظي), وأنها تنزع بشدة حرها جوارح المعذبين فيها, ثم تعاد تلك الجوارح إلي مواضعها ليتكرر العذاب, وذلك من قبيل الزيادة في التنكيل بكل كافر ومشرك وظالم, أعرض عن الحق, وأدار ظهره له, وأفسد في الأرض, وتجبر علي الخلق, ونسي الآخرة ومافيها من حساب, وركز علي جمع المال وكنزه, وإمساكه في أوعيته, ولم يؤد حق الله فيه. و(الشوي) جمع( شواة) وهي من جوارح الإنسان مالم يكن مقتلا.
ثم تعرض سورة المعارج لشيء من طبائع النفس البشرية التي تجزع عند الشدة, وتبخل وتبطر عند النعمة, فتميل إلي منع حقوق الفقراء والمساكين; ومن هذا الحكم العام تستثني سورة المعارج المصلين,( الذين هم علي صلاتهم دائمون* والذين في أموالهم حق معلوم* للسائل والمحروم* والذين يصدقون بيوم الدين* والذين هم من عذاب ربهم مشفقون*( المعارج:23 ـ27)
فكل عاقل حصيف يسعي جاهدا في هذه الحياة, وهو حريص كل الحرص علي اجتناب كل عمل يستوجب غضب الله وعذابه, وكل إنسان عفيف يستعف نفسه عن محارم الله, لأن الخوض فيها اعتداء علي أوامر الله, وتجاوز لحدوده.
وعقبت السورة الكريمة بشيء من صفات المؤمنين ومنها مراعاة الأمانات وحفظ العهود, والقيام بشهادة الحق مهما كلفهم ذلك من ثمن, والمحافظة علي الصلاة مهما كانت الظروف والملابسات, وتؤكد سورة المعارج أن هؤلاء هم الذين سوف يكرمهم الله( تعالي) بإدخالهم إلي جنات النعيم, خالدين فيها أبدا, وفيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت ولاخطر علي قلب بشر...!!
ثم تنتقل السورة بسؤال استنكاري عن الكفار والمشركين الذين كانوا يتسارعون إلي التجمهر حول رسول الله( صلي الله عليه وسلم) عن اليمين وعن الشمال يستمعون إليه دون أن يؤمنوا به, ويدفعهم الغرور والتطاول إلي الادعاء الباطل بأنهم أولي بالجنة من أصحابه الذين آمنوا به, وأيدوه.., ونصروه, ويأتي الرد إلالهي عليهم بهذا الاستفهام التوبيخي الاستنكاري الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي): أيطمع كل امريء منهم أن يدخل جنة نعيم*( المعارج:38)
ويزيدهم( سبحانه وتعالي) تقريعا بقوله( عز من قائل) كلا أي ليس الأمر أبدا كما يطمعون, فليس لهم إيمان أو عمل صالح يؤهلهم لدخول الجنة, وهو( تعالي) عليم بخلقهم, ولذلك يقسم بذاته العلية أنه قادر علي إهلاكهم وعلي استبدالهم بمن هم خير منهم فيقول( سبحانه وتعالي): فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون* علي أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين*
( المعارج:40 ـ41)
وتختتم السورة الكريمة بأمر من الله( تعالي) إلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) أن يدع هؤلاء الكافرين والمشركين يخوضون في باطلهم, يلهون ويلعبون حتي يلاقوا يومهم الذي وعدهم الله إياه وتوعدهم به فيقول( سبحانه): فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتي يلاقوا يومهم الذي يوعدون* يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلي نصب يوفضون* خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون*
( المعارج:42 ـ44)
الآيات الكونية
التي استشهدت بها سورة المعارج
استشهدت سورة المعارج علي صدق ما جاء بها من أمور الغيب المطلق بالعديد من الآيات الكونية الشاهدة لله( تعالي) بطلاقة القدرة علي إبداع الخلق, وعلي إفنائه وإعادة خلقه من جديد, ومن هذه الآيات مايلي:
(1) وصف الحركة في السماء بالعروج, وأن كلا من الملائكة والروح تعرج إلي الله( تعالي) الذي وصف ذاته بالوصف( ذي المعارج). والعروج بمعني ارتفاع وتحرك كل شيء في صفحة السماء في خطوط متعرجة هو حقيقة علمية لم تدرك إلا في أواخر القرن العشرين.
(2) التعبير القرآني المعجز الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي):
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة* فيه إشارة إلي سرعات فائقة في الكون, وتأكيد علي تواصل كل من المكان والزمان, وعلي تعاظم أبعاد الكون, وإلي نسبية كل شيء في العلم الكسبي للإنسان بحكم نسبية مكانه من الكون, وزمانه( أي عمره) ونسبية كل حواسه وقدرات عقله( أي محدوديتها), والنسبية لم تدركها معارف الإنسان إلا في مطلع القرن العشرين.
(3) وصف السماء بأنها سوف تكون يوم القيامة كالمهل.
(4) وصف الجبال بأنها سوف تكون يوم القيامة كالعهن.
(5) وصف طبيعة النفس البشرية عامة بالهلع والجزع عند وقوع الشر, وبالبطر والشح عند نزول النعمة, إلا المصلين.
(6) القسم بالمشارق والمغارب, وفيه إشارة ضمنية رقيقة إلي كل من كروية الأرض ودورانها حول محورها أمام الشمس, وإلي كروية كل أجرام السماء ودورانها حول محاورها, وجريها في مداراتها, فلولا ذلك ماتعددت المشارق والمغارب أبدا.
(7) الإشارة إلي خلق الإنسان من ماء مهين.
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة, ولذا فسوف اقصر حديثي هنا علي النقطة السادسة في القائمة السابقة والمتعلقة بتعدد المشارق والمغارب, ودلالاتها العلمية, وقبل مناقشة ذلك لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من كبار المفسرين من القدامي والمعاصرين في شرح هذه الآية الكريمة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون* علي أن نبــدل خيرا منهم ومانحن بمسبوقين*( المعارج:40 ـ41)
* ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه:... ثم قال تعالي فلا أقسم برب المشارق والمغارب) أي الذي خلق السماوات والأرض, وسخر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها( إنا لقادرون علي أن نبدل خيرا منهم) أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإن قدرته صالحة لذلك,( وما نحن بمسبوقين) أي بعاجزين.... واختار ابن جرير( علي أن نبدل خيرا منهم) أي أمة تطيعنا ولا تعصينا... والمعني الأول أظهر لدلالة الآيات الأخر عليه, والله سبحانه وتعالي أعلم....
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) ما نصه فلا) لا زائدة[ لتأكيد القسم]( اقسم برب المشارق والمغارب) للشمس والقمر, وسائر الكواكب( إنا لقادرون)( علي أن نبدل) نأتي بدلهم( خيرا منهم ومانحن بمسبوقين) بعاجزين عن ذلك.
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبه) مانصه: والامر ليس في حاجة إلي قسم, ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب يوحي بعظمة الخالق. والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح كما انها تعني المشارق والمغارب المتوالية علي بقاع الارض, وهي تتوالي في كل لحظة, ففي كل لحظة اثناء دوران الارض حول نفسها امام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب... وايا كان مدلول المشارق والمغارب فهو يوحي إلي القلب بضخامة هذا الوجود, وبعظمة الخالق لهذا الوجود. فهل يحتاج امر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلي قسم برب المشارق والمغارب علي انه سبحانه قادر علي أن يخلق خيرا منهم وانهم لايسبقونه ولايفوتونه ولايهربون من مصيرهم المحتوم؟.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه) مانصه:
أقسم, و(لا) مزيدة... والمشارق والمغارب: مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.( وما نحن بمسبوقين) أي بمغلوبين, أو عاجزين عن ان نأتي بقوم آخرين خير منهم
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه:
فلا أقسم برب المشارق والمغارب من الأيام والكواكب والهدايات, إنا لقادرون علي أن نهلكهم ونأتي بمن هو أطوع منهم لله, ومانحن بعاجزين عن هذا التبديل.
وجاء في الهامش مايلي: قد يكون المراد بالمشارق والمغارب أقطار ملك الله علي سعته التي لاتحد كما أشير في الآية127 من سورة الاعراف.
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها, للدلالة علي أرجاء الأرض المشار إليها.
وقد يكون المراد أيضا مشارق الشمس والقمر وكافة النجوم والكواكب ومغاربها جميعا للدلالة أيضا علي ملك الله كله. وترجع ظاهرة شروق الأجرام السماوية وغروبها إلي دوران الأرض حول محورها من الغرب نحو الشرق ومن ثم تبدو لنا تلك الأجرام متحركة في قبة السماء علي عكس ذلك الاتجاه مشرقة علي الأفق الشرقي وغاربة من الأفق الغربي, أو علي الأقل دائرة من المشرق إلي المغرب حول النجم القطبي ـ في نصف الكرة الشمالي مثلا ـ وإذا كان البعد القطبي للنجم اصغر من عرض مكان الراصد فالنجم لايشرق ولايغرب بل يرسم دائرة صغيرة وهمية حول القطب الشمالي, وبذلك تشير الآية كذلك إلي ساعات الليل ـ راجع قوله تعالي:
وعلامات وبالنجم هم يهتدون.
وظاهرة الشروق والغروب إشارة إذن إلي دوران كرة الأرض, وهي نعمة كبري من نعم الله علي أحياء هذا الكوكب, فلولا دوران الأرض حول محورها لتعرض نصفها لضوء الشمس مدة نصف سنة وحرم من الضوء تماما النصف الآخر, وهذا مالا تستقيم معه الحياة كما نعهدها.
واذا اقتصرنا عند ذكر المشارق والمغارب علي تدبير الشمس وحدها دون سائر النجوم والكواكب, كانت هذه إشارة إلي التعدد اللانهائي لمشارق الأرض ومغاربها يوما بعد يوم في كل موضع علي سطح الأرض, أو حتي في لحظة من لحظات الزمان تمر علي الكرة الأرضية, فالشمس في كل لحظة غاربة عند نقطة ومشرقة في نقطة أخري تقابلها. وهذا من محكم تدبير الله وإعجاز قدرته....
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه: أي فأقسم برب مشارق الشمس والقمر والكواكب ومغاربها.
المشارق والمغارب في القرآن الكريم
جاء ذكر المشرق والمغرب في القرآن الكريم بالإفراد, والتثنية والجمع في أحد عشر موضعا علي النحو التالي:
أولا: بالإفراد: جاء ذكر المشرق والمغرب في ست آيات قرآنية كريمة هي كما يلي:
1 ـ ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم*( البقرة:115)
2 ـ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم*
(البقرة:142)
3 ـ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين...*( البقرة177)
4 ـ... قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لايهدي القوم الظالمين*( البقرة:258)
5 ـ قال رب المشرق والمغرب ومابينهما إن كنتم تعقلون*( الشعراء:28)
6 ـ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا*( المزمل:9)
ثانيا: وجاء ذكر المشرقين أو ذكر المشرقين والمغربين مرتين في كتاب الله علي النحو التالي:
1 ـ حتي إذا جاءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين*( الزخرف:38)
2 ـ رب المشرقين ورب المغربين*
( الرحمن:17)
ثالثا: وجاء ذكر المشارق وحدها مرة وذكر المشارق والمغارب مرتين في كتاب الله علي النحو التالي:
1 ـ رب السموات والأرض ومابينهما ورب المشارق*( الصافات5)
2 ـ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها....*( الأعراف:137)
3 ـ فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون( المعارج40)
وهنا ثار تساؤل المفسرين عن سبب ذكر المشرق والمغرب بالإفراد, والمشرقين والمغربين بالتثنية, والمشارق والمغارب بالجمع وتعددت إجاباتهم, ومن هنا كانت ضرورة توظيف الحقائق العلمية التي توفرت في زماننا حتي يمكن فهم دلالة هذه الآيات الكريمة بشكل أعمق.
المدلول العلمي للآية الكريمة
بما أن المخاطبين بالقرآن الكريم هم أهل الأرض جميعا, فمن المنطقي أن يكون المقصود بالتعبير القرآني رب المشارق والمغارب هو مشارق الأرض ومغاربها; ولكن بما أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق الذي له ملك السماوات والأرض ومابينهما, فإن دلالة الآية الكريمة تتسع لتشمل مشارق ومغارب كل أجرام السماء, وعلي ذلك فلابد من فهم دلالة الآية الكريمة في هذين الإطارين علي النحو التالي:
أولها: المشارق والمغارب بالنسبة إلي الأرض:
(1) مشرق الأرض ومغربها:
علي الرغم من أن كل ما في صفحة السماء من أجرام يدور حول محوره, ويسبح جاريا في مداره إلا أن النجم القطبي يبدو ثابتا في مكانه بالنسبة للأرض, ولايشترك في الدوران الظاهري لقبة السماء وما بها من نجوم, والناتج عن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق دورة كاملة في كل أربع وعشرين ساعة( في زماننا الراهن). والسبب في ذلك هو أن النجم القطبي يقع علي امتداد محور دوران الأرض حول نفسها تماما, وبذلك يحدد لنا اتجاه الشمال الحقيقي( والمعروف باسم الشمالي الجغرافي); ويتعامد علي هذا الاتجاه يمينا شرق الأرض. ويسارا غربها أي اتجاه الشرق الحقيقي والغرب الحقيقي بالنسبة للأرض ككوكب, ويتضح من ذلك جانب من جوانب الحكمة الإلهية المبدعة بخلق هذه العلاقة حتي يبقي النجم القطبي بمثابة البوصلة الكونية المعلقة في السماء الدنيا لارشاد أهل الأرض إلي الاتجاهات الأربعة الأصلية, وفي ذلك يقول ربنا( تبارك وتعالي):
وعلامات وبالنجم هم يهتدون*
( النحل:16)
ويقول: رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا*( المزمل:9)
(2) مشارق الأرض ومغاربها:
بدوران الأرض حول محورها دورة كاملة كل أربع وعشرين ساعة( في زماننا الراهن) يتحدد يوم الأرض الذي يتقاسمه الليل والنهار. وبدوران القمر دورة كاملة حول محوره, وحول الأرض في مدة تقدر بحوالي29,5 يوما يتحدد شهر الأرض القمري الذي يمكن تقسيمه إلي أيام وأسابيع بتتابع مراحل