وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي..
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مستهل سورة الرعد, وهي سورة مكية/ مدنية, وعدد آياتها ثلاث وأربعون بعد البسملة, وبها سجدة تلاوة واحدة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة إلي حقيقة أن الرعد كغيره من ظواهر الكون يمثل صورة من صور تسبيح الكائنات غير المكلفة لله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قوله الحق: تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا*( الإسراء:44)
ويدور المحور الرئيسي لسورة الرعد حول قضية العقيدة ومن ركائزها الإيمان بالله الخالق الواحد القهار, وبالوحي الخاتم المنزل من الله الخالق علي خاتم انبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) وبأنه الحق الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, والايمان بملائكة الله وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت, وبالحساب وبالجنة وبالنار.
وتبدأ سورة الرعد بأربعة من الحروف الهجائية المقطعة وهي المر وقد وردت مرة واحدة في القرآن كله.
وهذه الفواتح الهجائية( أو الحروف المقطعة) هي من أسرار القرآن الكريم, التي توقف عن الخوض فيها أعداد من علماء المسلمين, مكتفين بتفويض الأمر فيها إلي الله( تعالي), بينما يري عدد منهم ضرورة الاجتهاد في تفسيرها, وفهم دلالاتها, وإن لم يصلوا بعد إلي إجماع علي رأي واحد في ذلك.
وتؤكد سورة الرعد لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن القرآن الذي أنزل إليه من ربه هو الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون; ثم تعرض لعدد من آيات الله في الكون للاستشهاد بها علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في إنشاء الخلق, والاستدلال بذلك علي قدرته( سبحانه وتعالي) علي إفناء خلقه, وإعادة بعثه من جديد, وذلك لأن حجة الكافرين والمتشككين في كفرهم أو تشككهم كانت ـ ولاتزال ـ هي عجزهم عن فهم إمكانية البعث بعد تحلل الأجساد وتحولها إلي تراب, متجاهلين أن قدرة الله( تعالي) لاتحدها حدود; ولذلك ترد عليهم الآيات بصورة من صور عقاب المكذبين بالبعث يوم القيامة.
وتعجب الآيات من استعجال الكافرين لعذاب الله وكأنهم لم يعتبروا من قصص الأمم السابقة, وتؤكد أن الله( تعالي).. لذو مغفرة للناس علي ظلمهم وأنه( تعالي) لشديد العقاب.
وتعجب الآيات كذلك من طلب الكافرين للمعجزات الحسية من رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وكأن القرآن الكريم ـ علي عظم قدره ـ لم يكن معجزة كافية لهم, ولقد أرسل الرسول منذرا به وهاديا إليه, كما أرسل كل الرسل إلي أقوامهم من قبل; وأن الله( تعالي) هو عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال وأنه( سبحانه) قد أوكل بكل عبد من عباده ملائكة يحفظونه إلي أن يأتي أمر الله, وأنه( تعالي) لايغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم, وأنه( سبحانه) شديد المحال وأن له دعوة الحق ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال.
وتعيب الآيات علي الكافرين اتخاذهم أولياء من دون الله, لايملكون لأنفسهم نفعا ولاضرا, ولم يخلقوا شيئا, والله خالق كل شيء وهو الواحد القهار; وتتساءل:.. هل يستوي, الأعمي والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور...؟.
وتتحدث الآيات عن مصائر كل من المؤمنين والكافرين يوم القيامة, وتعرض لشيء من صفات كل منهم, وتؤكد أن الله( سبحانه وتعالي) يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر, وأنه( تعالي) يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لايحب وتكرر تساؤل الكافرين عن المعجزات الحسية وترد عليهم بأن الله( تعالي) يضل من يشاء ممن أراد الضلالة, ويهدي من يشاء ممن طلب الهداية, وأن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله لأن القلوب المؤمنة لاتطمئن إلا بذكره.
وتؤكد الآيات لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن الله( تعالي) قد أرسله في أمة قد خلت من قبلها أمم, ليتلو عليهم الذي أوحي إليه, ويعلن إيمانه بالتوحيد الخالص لله( تعالي), والتوكل الكامل عليه وحده, والإيمان بأن مرد كل موجود إليه!!
وتؤكد الآيات أنه لو أن كتابا إذا تليت آياته تحركت بها الجبال عن مواضعها, وتصدعت الأرض وغارت أجزاء منها, وخوطب بها الموتي فأجابوا من قبورهم... لكان هو القرآن الكريم; وعلي الرغم من ذلك فإن كثيرا من الكفار والمشركين( قديما وحديثا) في صدود عنه, وتآمر عليه وعلي أهله وخاصته, ولله الأمر جميعا...!!
وتطمئن الآيات المؤمنين بأن الله( تعالي) لو يشاء لهدي الناس جميعا, وأنه( تعالي) يعاقب الذين كفروا في الدنيا قبل الآخرة, فلا يزالون ـ بأعمالهم السيئة ـ تصيبهم القوارع الشديدة أو تنزل قريبا منهم, حتي يأتي أمر الله بإفنائهم والقضاء عليهم, والله لايخلف الميعاد.
وتثبت الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بأن الرسل من قبله قد استهزيء بهم كما استهزأ الكافرون والمشركون ـ ولايزالون يستهزئون ـ بما يدعو إليه من الحق, وأن من سنن الله( تعالي) أن يأخذ الذين يستهزئون برسله أخذا وبيلا في الدنيا, وأن يجعل لهم في الآخرة من العذاب ما هو أشد وأنكي, وأن ليس لهم من واق من عذاب الله أبدا.
وبسبب كفر الكافرين, ومكرهم أضلهم الله, وجعل عقابهم النار, وهو( سبحانه) القائم علي كل نفس بما كسبت, والمجازي كلا بما يستحق, وفي المقابل تعرض الآيات لشيء من أوصاف الجنة التي وعد الله المتقين, وتؤكد ان من المفروض أن يفرح أهل الكتاب بما أنزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) لأنه الصورة النهائية التي تكاملت فيها رسالة السماء, ولكن قطاعا غفيرا منهم قد كفر بها وجحدها جحودا كبيرا..!! وتؤكد الآيات أن إنزال القرآن الكريم حكما عربيا هو معجزة الرسول الخاتم والنبي الخاتم, وأنه ما كان لرسول أن يأتي بمعجزة إلا بإذن الله, وأن لكل أجل كتاب, وأن الله( تعالي) يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب; وأنه( تعالي) يحكم ولا معقب لحكمه, وهو سريع الحساب...!!
وتشير الآيات إلي مكر الأمم السابقة( والذي لايكاد يختلف عن مكر الأمم الكافرة والمشركة اليوم, وفي كل زمان) وتؤكد أن لله المكر جميعا, فهو( تعالي) يعلم ما تكسب كل نفس, وسوف يعلم الكفار لمن عقبي الدار...!!
وتختتم السورة الكريمة بخطاب موجه إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بأنه إذا كان الكافرون والمشركون والضالون ينكرون بعثته الشريفة فإن الله( تعالي) يشهد بصدقها, كما يشهد كل من كان عنده علم من الكتاب, ويكفيه ذلك عن كل شاهد, والآيات تنطق بقول الحق( تبارك وتعالي):
ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب*
( الرعد:43).
وتأكيدا علي صدق ما جاء بها من قواعد الدين, وأمور الغيب المطلق استشهدت سورة الرعد بعدد كبير من الآيات الكونية التي يمكن إيجازها فيما يلي:
(1) رفع السماوات بغير عمد مرئية( أي بعمد غير مرئية أو بواسطة أخري غير العمد المرئية).
(2) تسخير كل من الشمس والقمر, وجعل كل منهما يجري لأجل مسمي, تأكيدا علي نهاية الكون.
(3) مد الأرض, وخلق الجبال رواسي لها, ومنابع للأنهار الجارية علي سطحها.
(4) خلق كل شيء في زوجية واضحة حتي يبقي الله( تعالي) متفردا بالوحدانية المطلقة فوق كافة خلقه.
(5) إغشاء الليل بالنهار في إشارة واضحة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس.
(6) الإشارة إلي تقسيم الغلاف الصخري للأرض بواسطة شبكة من الصدوع وذلك بالوصف القرآني المعجز الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي): وفي الأرض قطع متجاورات...
(7) الإشارة إلي تفضيل الله( تعالي) بعض الثمار علي بعضها في الأكل, علي الرغم من تشابهها أحيانا وتباين أشكالها في أحيان أخري, وعلي الرغم من نموها علي أرض واحدة وسقياها بماء واحد.وهي إشارة إلي شئ من طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق.
( الإشارة إلي علم الله( تعالي) بما تحمل كل أنثي, وبما تغيض الأرحام وما تزداد, وأن كل شئ عنده بمقدار.
(9) التأكيد علي أن الله( تعالي) لاتخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وأن الغيب المكنون الذي لا تدركه حواس الإنسان مكشوف لعلم الله( تعالي), الذي يتساوي فيه كل من عالمي الغيب والشهادة, في الماضي والحاضر والمستقبل.
(10) الإشارة إلي عدد من الظواهر الكونية المبهرة كالرعد, والبرق, والصواعق.
(11) الإشارة إلي إنشاء السحاب الثقال وإلي إنزال المطر منه.
(12) التأكيد علي سجود كل من في السماوات والأرض لله( تعالي) طوعا وكرها, وسجود ظلالهم لله( سبحانه وتعالي) بالغدو والآصال.
(13) الإقرار بأن الله( تعالي) هو خالق كل شئ.
(14) التأكيد علي إنقاص الأرض من أطرافها, وهي حقيقة لم تدرك إلا في القرن العشرين.
(15) تشبيه الباطل بزبد السيل, أو بزبد الفلزات المصهورة, وتشبيه الحق بما يمكث في الأرض مترسبا من ماء السيل من الجواهر والمعادن النفيسة والنافعة, أو بما يبقي بعد صهر الفلزات الثمينة والمفيدة مع خلطة من المركبات الكيميائية لتخليصها مما فيها من شوائب تطفو علي هيئة الخبث( الزبد).
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي قضية تسخير كل من الشمس والقمر, وجعل كل منهما يجري إلي أجل مسمي وقبل الوصول إلي ذلك أري لزاما علي استعراض أقوال عدد من كبار المفسرين في شرح دلالة هذا النص القرآني المعجزة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
... وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون*( الرعد:2)
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما نصه:... وقوله وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي) قيل: المراد أنهما يجريان إلي انقطاعهما بقيام الساعة, كقوله تعالي والشمس تجري لمستقر لها), وقيل: المراد إلي مستقرهما وهو تحت العرش...
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه:...( وسخر) ذلك( الشمس والقمر كل) منهما( يجري) في فلكه( لأجل مسمي) يوم القيامة( يدبر الأمر) يقضي أمر ملكه( يفصل) يبين( الآيات) دلالات قدرته( لعلكم) يا أهل مكة وغيرها( بلقاء ربكم) بالبعث( توقنون)...
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) مانصه:... ومن الاستعلاء المطلق إلي التسخير تسخير الشمس والقمر, تسخير العلو المنظور للناس علي مافيه من عظمة أخاذة; أخذت بألبابهم في اللمسة الأولي, ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال,,,!, ثم نمضي مع السياق... فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير كل يجري لأجل مسمي)... وإلي حدود مرسومة, ووفق ناموس مقدر سواء في جريانهما في فلكيهما,,,, لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه. أو جريانهما إلي الأبد المقدر لهما قبل ان يحول هذا الكون المنظور.( يدبر الأمر).. الأمر كله, علي هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي.. والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لاتتعداه, لاشك عظيم التدبير جليل التقدير. ومن تدبيره الأمر أنه( يفصل الآيات) وينظمها وينسقها, ويعرض كلا منها في حينه, ولعلته, ولغايته( لعلكم بلقاء ربكم توقنون) حين ترون الآيات مفصلة منسقة, ومن ورائها آيات الكون, تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة, وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام... ذلك كله يوحي بأن لابد من عودة إلي الخالق بعد الحياة الدنيا, لتقدير أعمال البشر, ومجازاتهم عليها. فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمة الخلق الأول عن حكمة وتدبير.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) مانصه:... بين الله تعالي في هذه الآية والآيتين بعدها عشرة أدلة من العالم العلوي والسفلي علي كمال قدرته وعظيم حكمته: خلقه السماوات مرتفعة بغير عمد. وتسخيره الشمس والقمر لمنافع الخلق. وخلقه الأرض صالحة للاستقرار عليها. وخلقه الجبال فيها لتثبيتها, والأنهار لتسقي الزرع. وخلقه زوجين اثنين من كل نوع من الثمرات. ومعاقبته بين الليل والنهار. وخلقه بقاعا في الأرض متلاصقة مع اختلافها في الطبيعة والخواص. وخلقه جنات من الأعناب للتفكه. وخلقه أنواع الحبوب المختلفة للغذاء. وخلقه النخيل صنوانا وغير صنوان. وجميعها تسقي بماء واحد لاتفاوت فيه, مع اختلاف الثمار والحبوب في اللون والطعم والرائحة والشكل والخواص.....
* وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: إن الذي أنزل هذا الكتاب هو الله الذي رفع ماترون من سماوات تجري فيها النجوم بغير أعمدة تري ولايعلمها إلا الله, وإن كان قد ربط بينها وبين الأرض بروابط لاتنقطع إلا أن يشاء الله, وذلل الشمس والقمر بسلطانه ولمنفعتكم, وهما يدوران بانتظام لزمن قدره الله سبحانه وتعالي, وهو سبحانه يدبر كل شيء في السماوات والأرض, ويبين لكم آياته الكونية رجاء أن توقنوا بالوحدانية.
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه:
(وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي) أي ذلل الشمس والقمر لمصالح العباد, كل يسير بقدرته تعالي إلي زمن معين هو زمن فناء الدنيا( يدبر الأمر) أي يصرف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشئون الملكوت من إيجاد وإعدام, وإحياء وإماتة وغير ذلك( يفصل الآيات) أي يبينها ويوضحها( لعلكم بلقاء ربكم توقنون) أي لتصدقوا بلقاء الله, وتوقنوا بالمعاد إليه, لأن من قدر علي ذلك كله فهو قادر علي إحياء الإنسان بعد موته.
الدلالة العلمية للنص الكريم
من معاني تسخير كل من الشمس والقمر ضبط حركة كل منهما لما فيه صلاح الكون واستقامة الحياة علي الأرض.
ومن معاني أن كلا منهما يجري إلي أجل مسمي: أن الكون ليس بأزلي ولا بأبدي, بل كانت له في الأصل بداية تحاول العلوم المكتسبة تحديدها, وكل ماله بداية لابد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية لها من الشواهد الحسية في كل من الشمس والقمر ما يؤكد علي حتميتها.
أولا: من جوانب تسخير الشمس:
ان الحقائق القاطعة بتسخير الشمس عديدة جدا نوجز منها مايلي:
(1) الاتزان الدقيق بين تجاذب مكونات الشمس وتمددها:
الشمس هي أقرب نجوم السماء إلي الأرض التي تبعد عنها بمسافة مائة وخمسين مليون كيلو متر في المتوسط; والشمس نجم عادي, متوسط الحجم علي هيئة كرة من الغاز الملتهب يبلغ قطرها1,400,000 كيلو متر, وحجمها142 ألف مليون مليون كيلو متر مكعب, ومتوسط كثافتها1,4 جرام للسنتيمتر المكعب, ولذلك تقدر كتلتها بنحو ألفي تريليون تريليون طن. ويمثل ذلك حوالي99% من كتلة المجموعة الشمسية كلها.
والشمس عبارة عن فرن نووي كوني عملاق عمره أكثر من عشرة بلايين من السنين, يرتفع الضغط في داخله إلي مايساوي أربعمائة مليار ضغط جوي وبذلك تبدأ عملية الاندماج النووي بين نوي ذرات الإيدروجين منتجة نوي ذرات الهيليوم وتنطلق الطاقة التي ترفع درجة حرارة لب الشمس إلي أكثر من15 مليون درجة مطلقة تتناقص بالتدريج إلي حوالي ستة آلاف درجة مطلقة عند سطحها, وإن تجاوزت المليون درجة في ألسنة اللهب المندفعة من داخلها.
والشمس تتكون أساسا من غازي الإيدروجين(81,76%) والهيليوم(18,17%) بالاضافة إلي آثار يسيره( لاتتعدي0,07%) من عدد من العناصر الأخري, وعلي ذلك فإن الشمس عبارة عن خليط ملتهب من غازي الإيدروجين والهيليوم بنسبة حجمية تقدر بحوالي4:1 وهي نفس النسبة المطلوبة لاتحاد أربع من نوي ذرات الإيدروجين مع بعضها البعض لتكوين نواة ذرة هيليوم واحدة, وتنطلق الطاقة; والشمس تحول في كل ثانية من عمرها الحالي حوالي655 مليون طن من الإيدروجين إلي حوالي650 مليون طن من الهيليوم, ويتحول الفرق بين الكتلتين( والمقدر بحوالي الخمسة ملايين طن) إلي طاقة تمثل الطاقة المنبعثة من الشمس في كل ثانية من وجودها.
ونظرا للجاذبية الرهيبة التي تحدثها كتلة الشمس الهائلة علي مكوناتها فإنها تتجاذب كلها في اتجاه المركز تجاذبا تنتج عنه ضغوط هائلة ترفع درجة حرارة لب الشمس إلي المستوي الذي يسمح ببدء واستمرار عملية الاندماج النووي فيه.
ونظرا للتوازن الدقيق بين جاذبية الشمس لمكوناتها في اتجاه مركزها, ودفع تلك المكونات بعيدا عن المركز بواسطة القوي الناتجة عن تمدد الغازات المكونة لها بفعل الحرارة الفائقة في مركزها, فقد بقيت الشمس مستمرة في الوجود تحت هذا التوازن العجيب علي مدي عشرة بلايين من السنين( علي أقل تقدير) وإلي أن يرث الله( تعالي) الكون ومن فيه; ولولا هذا التوازن الدقيق لانفجرت الشمس كقنبلة نووية عملاقة, أو لانهارت علي ذاتها تحت ضغط جاذبيتها خاصة أنها مجرد كرة ضخمة من الغازات.
وعلي ذلك فإن تقدير حجم وكتلة الشمس بهذه الدقة البالغة هو الذي مكنها من تحقيق هذا التوازن الدقيق بين قوي الدفع إلي الخارج, وقوي التجاذب إلي الداخل, ومن البقاء في حالة غازية أو شبه غازية, ملتهبة, متوهجة بذاتها, ولو تغير حجم وكتلة الشمس ولو قليلا لتغير سلوك مادتها تماما, أو انفجرت أو انهارت علي ذاتها, وذلك لأن السبب في اندلاع عملية الاندماج النووي في قلب النجم وانطلاق الطاقة منه هو تكونه من كتلة وحجم معينين يحافظان علي الاتزان الدقيق بين التمدد والتجاذب, وهل هناك من التسخير صورة ابلغ من ذلك؟.
(2) تسخير طاقة الشمس من أجل ضبط حركة الحياة علي الأرض:
تطلق الشمس من مختلف صور الطاقة مايقدر بحوالي خمسمائة ألف مليون مليون مليون حصان في كل ثانية من ثواني عمرها, ويصل إلي الأرض من هذا الكم الهائل من الطاقة حوالي الواحد في الألف, ومجموع ميزانيات دول العالم لاتكفي ثمنا لهذا الكم من الطاقة الشمسية التي تصل إلينا فتمثل كل مصادر الطاقة المباشرة وغير المباشرة علي الأرض( باستثناء الطاقة النووية), وبدون هذه الطاقة الشمسية تستحيل الحياة علي كوكبنا, لأن كلا من النبات, والحيوان, والإنسان يعتمد في وجوده ـ بعد إرادة الله الخالق سبحانه وتعالي ـ علي قدر الطاقة الذي يصله من أشعة الشمس, كذلك فإن كل الظواهر الفطرية التي تحدث علي الأرض ومن حولها تعتمد علي الطاقة القادمة إلينا من الشمس: فتصريف الرياح, وإرسال السحاب, وإنزال المطر وبقية دورة الماء حول الأرض, وما يصاحب ذلك من تسوية وتمهيد لسطح الأرض, وشق للفجاج والسبل فيها, وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها, وخزن للماء تحت سطح الأرض, وتكوين للتربة والصخور الرسوبية, وتركيز للعديد من الركائز المعدنية, وحركات الأمواج في البحار والمحيطات وعمليات المد والجزر وغير ذلك من عمليات وظواهر تحركها طاقة الشمس بإرادة الله تعالي.
كذلك فإن الله( تعالي) قد أعطي الشجر الأخضر القدرة علي خزن جزء من طاقة الشمس علي هيئة عدد من الروابط الكيميائية التي تمثل المصدر الرئيسي لكل انواع الطاقة الحرارية والضوئية والكهربائية والكيميائية من مثل الحطب والقش والخشب, وكلا من الفحم النباتي والحجري, والنفط والغاز الطبيعي, والزيوت والدهون النباتية والحيوانية وكلها ترجع إلي الطاقة الشمسية.
3 ـ تكوين نطق الحماية المختلفة للأرض بفعل طاقة الشمس:
شاءت إرادة الله( تعالي) أن يحمي الحياة علي سطح الأرض بعدد من نطق الحماية التي لعبت أشعة الشمس( ولا تزال تلعب) الدور الأول في تكوينها( بعد إرادة الله) وأولها من الخارج إلي الداخل: النطاق المغناطيسي للأرض
(TheMagnetosphere),
وأحزمة الإشعاع
(TheRadiationBelts),
والنطاق المتأين
(TheIonosphere),
ونطاق الأوزون
(TheOzonosphere),
وهذه النطق تتعاون في حماية الأرض من كل من الأشعة فوق البنفسجية والكونية ومن العديد من الجسيمات الكونية الدقيقة والكبيرة والتي منها النيازك والشهب; ولو لم تكن هذه النطق موجودة لاستحالت الحياة علي الأرض, ولو لم تكن الشمس موجودة ما تكونت تلك النطق علي الإطلاق ووجودها صورة من صور التسخير التي لم تكن معروفة في زمن الوحي بالقرآن الكريم, ولا بعد قرون متطاولة بعد نزوله حتي نهايات القرن العشرين.
(4) تحديد الزمن:
يتحدد كل من الليل والنهار ويوم الأرض وشهورها وفصولها وسنينها بدورة الأرض حول محورها, وبسبحها في مدارها حول الشمس وبذلك يستطيع الأنسان إدراك الزمن وتحديد الأوقات والتاريخ للأحداث, فبدورة الأرض حول محورها أمام الشمس يتبادل الليل والنهار, ويتحدد يوم الأرض.
وبسبح الأرض في مدارها حول الشمس بمحور مائل علي الأفق تتحدد الفصول المناخية من الربيع والصيف والخريف والشتاء كما تتحدد سنة الأرض التي يتقاسمها اثنا عشر شهرا شمسيا تحددها بروج السماء الاثنا عشر المتتابعة.
ثانيا: تسخير القمر:
القمر تابع صغير للأرض يبعد
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذا النص القرآني المعجز جاء في مستهل سورة الرعد, وهي سورة مكية/ مدنية, وعدد آياتها ثلاث وأربعون بعد البسملة, وبها سجدة تلاوة واحدة, وقد سميت بهذا الاسم لورود الإشارة إلي حقيقة أن الرعد كغيره من ظواهر الكون يمثل صورة من صور تسبيح الكائنات غير المكلفة لله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قوله الحق: تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا*( الإسراء:44)
ويدور المحور الرئيسي لسورة الرعد حول قضية العقيدة ومن ركائزها الإيمان بالله الخالق الواحد القهار, وبالوحي الخاتم المنزل من الله الخالق علي خاتم انبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) وبأنه الحق الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, والايمان بملائكة الله وكتبه ورسله وبالبعث بعد الموت, وبالحساب وبالجنة وبالنار.
وتبدأ سورة الرعد بأربعة من الحروف الهجائية المقطعة وهي المر وقد وردت مرة واحدة في القرآن كله.
وهذه الفواتح الهجائية( أو الحروف المقطعة) هي من أسرار القرآن الكريم, التي توقف عن الخوض فيها أعداد من علماء المسلمين, مكتفين بتفويض الأمر فيها إلي الله( تعالي), بينما يري عدد منهم ضرورة الاجتهاد في تفسيرها, وفهم دلالاتها, وإن لم يصلوا بعد إلي إجماع علي رأي واحد في ذلك.
وتؤكد سورة الرعد لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن القرآن الذي أنزل إليه من ربه هو الحق ولكن أكثر الناس لايؤمنون; ثم تعرض لعدد من آيات الله في الكون للاستشهاد بها علي طلاقة القدرة الإلهية المبدعة في إنشاء الخلق, والاستدلال بذلك علي قدرته( سبحانه وتعالي) علي إفناء خلقه, وإعادة بعثه من جديد, وذلك لأن حجة الكافرين والمتشككين في كفرهم أو تشككهم كانت ـ ولاتزال ـ هي عجزهم عن فهم إمكانية البعث بعد تحلل الأجساد وتحولها إلي تراب, متجاهلين أن قدرة الله( تعالي) لاتحدها حدود; ولذلك ترد عليهم الآيات بصورة من صور عقاب المكذبين بالبعث يوم القيامة.
وتعجب الآيات من استعجال الكافرين لعذاب الله وكأنهم لم يعتبروا من قصص الأمم السابقة, وتؤكد أن الله( تعالي).. لذو مغفرة للناس علي ظلمهم وأنه( تعالي) لشديد العقاب.
وتعجب الآيات كذلك من طلب الكافرين للمعجزات الحسية من رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وكأن القرآن الكريم ـ علي عظم قدره ـ لم يكن معجزة كافية لهم, ولقد أرسل الرسول منذرا به وهاديا إليه, كما أرسل كل الرسل إلي أقوامهم من قبل; وأن الله( تعالي) هو عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال وأنه( سبحانه) قد أوكل بكل عبد من عباده ملائكة يحفظونه إلي أن يأتي أمر الله, وأنه( تعالي) لايغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم, وأنه( سبحانه) شديد المحال وأن له دعوة الحق ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال.
وتعيب الآيات علي الكافرين اتخاذهم أولياء من دون الله, لايملكون لأنفسهم نفعا ولاضرا, ولم يخلقوا شيئا, والله خالق كل شيء وهو الواحد القهار; وتتساءل:.. هل يستوي, الأعمي والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور...؟.
وتتحدث الآيات عن مصائر كل من المؤمنين والكافرين يوم القيامة, وتعرض لشيء من صفات كل منهم, وتؤكد أن الله( سبحانه وتعالي) يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر, وأنه( تعالي) يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لايحب وتكرر تساؤل الكافرين عن المعجزات الحسية وترد عليهم بأن الله( تعالي) يضل من يشاء ممن أراد الضلالة, ويهدي من يشاء ممن طلب الهداية, وأن المؤمنين تطمئن قلوبهم بذكر الله لأن القلوب المؤمنة لاتطمئن إلا بذكره.
وتؤكد الآيات لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن الله( تعالي) قد أرسله في أمة قد خلت من قبلها أمم, ليتلو عليهم الذي أوحي إليه, ويعلن إيمانه بالتوحيد الخالص لله( تعالي), والتوكل الكامل عليه وحده, والإيمان بأن مرد كل موجود إليه!!
وتؤكد الآيات أنه لو أن كتابا إذا تليت آياته تحركت بها الجبال عن مواضعها, وتصدعت الأرض وغارت أجزاء منها, وخوطب بها الموتي فأجابوا من قبورهم... لكان هو القرآن الكريم; وعلي الرغم من ذلك فإن كثيرا من الكفار والمشركين( قديما وحديثا) في صدود عنه, وتآمر عليه وعلي أهله وخاصته, ولله الأمر جميعا...!!
وتطمئن الآيات المؤمنين بأن الله( تعالي) لو يشاء لهدي الناس جميعا, وأنه( تعالي) يعاقب الذين كفروا في الدنيا قبل الآخرة, فلا يزالون ـ بأعمالهم السيئة ـ تصيبهم القوارع الشديدة أو تنزل قريبا منهم, حتي يأتي أمر الله بإفنائهم والقضاء عليهم, والله لايخلف الميعاد.
وتثبت الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بأن الرسل من قبله قد استهزيء بهم كما استهزأ الكافرون والمشركون ـ ولايزالون يستهزئون ـ بما يدعو إليه من الحق, وأن من سنن الله( تعالي) أن يأخذ الذين يستهزئون برسله أخذا وبيلا في الدنيا, وأن يجعل لهم في الآخرة من العذاب ما هو أشد وأنكي, وأن ليس لهم من واق من عذاب الله أبدا.
وبسبب كفر الكافرين, ومكرهم أضلهم الله, وجعل عقابهم النار, وهو( سبحانه) القائم علي كل نفس بما كسبت, والمجازي كلا بما يستحق, وفي المقابل تعرض الآيات لشيء من أوصاف الجنة التي وعد الله المتقين, وتؤكد ان من المفروض أن يفرح أهل الكتاب بما أنزل إلي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) لأنه الصورة النهائية التي تكاملت فيها رسالة السماء, ولكن قطاعا غفيرا منهم قد كفر بها وجحدها جحودا كبيرا..!! وتؤكد الآيات أن إنزال القرآن الكريم حكما عربيا هو معجزة الرسول الخاتم والنبي الخاتم, وأنه ما كان لرسول أن يأتي بمعجزة إلا بإذن الله, وأن لكل أجل كتاب, وأن الله( تعالي) يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب; وأنه( تعالي) يحكم ولا معقب لحكمه, وهو سريع الحساب...!!
وتشير الآيات إلي مكر الأمم السابقة( والذي لايكاد يختلف عن مكر الأمم الكافرة والمشركة اليوم, وفي كل زمان) وتؤكد أن لله المكر جميعا, فهو( تعالي) يعلم ما تكسب كل نفس, وسوف يعلم الكفار لمن عقبي الدار...!!
وتختتم السورة الكريمة بخطاب موجه إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) بأنه إذا كان الكافرون والمشركون والضالون ينكرون بعثته الشريفة فإن الله( تعالي) يشهد بصدقها, كما يشهد كل من كان عنده علم من الكتاب, ويكفيه ذلك عن كل شاهد, والآيات تنطق بقول الحق( تبارك وتعالي):
ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفي بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب*
( الرعد:43).
وتأكيدا علي صدق ما جاء بها من قواعد الدين, وأمور الغيب المطلق استشهدت سورة الرعد بعدد كبير من الآيات الكونية التي يمكن إيجازها فيما يلي:
(1) رفع السماوات بغير عمد مرئية( أي بعمد غير مرئية أو بواسطة أخري غير العمد المرئية).
(2) تسخير كل من الشمس والقمر, وجعل كل منهما يجري لأجل مسمي, تأكيدا علي نهاية الكون.
(3) مد الأرض, وخلق الجبال رواسي لها, ومنابع للأنهار الجارية علي سطحها.
(4) خلق كل شيء في زوجية واضحة حتي يبقي الله( تعالي) متفردا بالوحدانية المطلقة فوق كافة خلقه.
(5) إغشاء الليل بالنهار في إشارة واضحة إلي دوران الأرض حول محورها أمام الشمس.
(6) الإشارة إلي تقسيم الغلاف الصخري للأرض بواسطة شبكة من الصدوع وذلك بالوصف القرآني المعجز الذي يقول فيه ربنا( تبارك وتعالي): وفي الأرض قطع متجاورات...
(7) الإشارة إلي تفضيل الله( تعالي) بعض الثمار علي بعضها في الأكل, علي الرغم من تشابهها أحيانا وتباين أشكالها في أحيان أخري, وعلي الرغم من نموها علي أرض واحدة وسقياها بماء واحد.وهي إشارة إلي شئ من طلاقة القدرة الإلهية في إبداع الخلق.
( الإشارة إلي علم الله( تعالي) بما تحمل كل أنثي, وبما تغيض الأرحام وما تزداد, وأن كل شئ عنده بمقدار.
(9) التأكيد علي أن الله( تعالي) لاتخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء, وأن الغيب المكنون الذي لا تدركه حواس الإنسان مكشوف لعلم الله( تعالي), الذي يتساوي فيه كل من عالمي الغيب والشهادة, في الماضي والحاضر والمستقبل.
(10) الإشارة إلي عدد من الظواهر الكونية المبهرة كالرعد, والبرق, والصواعق.
(11) الإشارة إلي إنشاء السحاب الثقال وإلي إنزال المطر منه.
(12) التأكيد علي سجود كل من في السماوات والأرض لله( تعالي) طوعا وكرها, وسجود ظلالهم لله( سبحانه وتعالي) بالغدو والآصال.
(13) الإقرار بأن الله( تعالي) هو خالق كل شئ.
(14) التأكيد علي إنقاص الأرض من أطرافها, وهي حقيقة لم تدرك إلا في القرن العشرين.
(15) تشبيه الباطل بزبد السيل, أو بزبد الفلزات المصهورة, وتشبيه الحق بما يمكث في الأرض مترسبا من ماء السيل من الجواهر والمعادن النفيسة والنافعة, أو بما يبقي بعد صهر الفلزات الثمينة والمفيدة مع خلطة من المركبات الكيميائية لتخليصها مما فيها من شوائب تطفو علي هيئة الخبث( الزبد).
وكل قضية من هذه القضايا تحتاج إلي معالجة خاصة, ولذلك فسوف أقصر حديثي هنا علي قضية تسخير كل من الشمس والقمر, وجعل كل منهما يجري إلي أجل مسمي وقبل الوصول إلي ذلك أري لزاما علي استعراض أقوال عدد من كبار المفسرين في شرح دلالة هذا النص القرآني المعجزة.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
... وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون*( الرعد:2)
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) ما نصه:... وقوله وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي) قيل: المراد أنهما يجريان إلي انقطاعهما بقيام الساعة, كقوله تعالي والشمس تجري لمستقر لها), وقيل: المراد إلي مستقرهما وهو تحت العرش...
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه:...( وسخر) ذلك( الشمس والقمر كل) منهما( يجري) في فلكه( لأجل مسمي) يوم القيامة( يدبر الأمر) يقضي أمر ملكه( يفصل) يبين( الآيات) دلالات قدرته( لعلكم) يا أهل مكة وغيرها( بلقاء ربكم) بالبعث( توقنون)...
* وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) مانصه:... ومن الاستعلاء المطلق إلي التسخير تسخير الشمس والقمر, تسخير العلو المنظور للناس علي مافيه من عظمة أخاذة; أخذت بألبابهم في اللمسة الأولي, ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال,,,!, ثم نمضي مع السياق... فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير كل يجري لأجل مسمي)... وإلي حدود مرسومة, ووفق ناموس مقدر سواء في جريانهما في فلكيهما,,,, لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه. أو جريانهما إلي الأبد المقدر لهما قبل ان يحول هذا الكون المنظور.( يدبر الأمر).. الأمر كله, علي هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي.. والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لاتتعداه, لاشك عظيم التدبير جليل التقدير. ومن تدبيره الأمر أنه( يفصل الآيات) وينظمها وينسقها, ويعرض كلا منها في حينه, ولعلته, ولغايته( لعلكم بلقاء ربكم توقنون) حين ترون الآيات مفصلة منسقة, ومن ورائها آيات الكون, تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة, وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام... ذلك كله يوحي بأن لابد من عودة إلي الخالق بعد الحياة الدنيا, لتقدير أعمال البشر, ومجازاتهم عليها. فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمة الخلق الأول عن حكمة وتدبير.
* وجاء في صفوة البيان لمعاني القرآن( رحم الله كاتبه برحمته الواسعة) مانصه:... بين الله تعالي في هذه الآية والآيتين بعدها عشرة أدلة من العالم العلوي والسفلي علي كمال قدرته وعظيم حكمته: خلقه السماوات مرتفعة بغير عمد. وتسخيره الشمس والقمر لمنافع الخلق. وخلقه الأرض صالحة للاستقرار عليها. وخلقه الجبال فيها لتثبيتها, والأنهار لتسقي الزرع. وخلقه زوجين اثنين من كل نوع من الثمرات. ومعاقبته بين الليل والنهار. وخلقه بقاعا في الأرض متلاصقة مع اختلافها في الطبيعة والخواص. وخلقه جنات من الأعناب للتفكه. وخلقه أنواع الحبوب المختلفة للغذاء. وخلقه النخيل صنوانا وغير صنوان. وجميعها تسقي بماء واحد لاتفاوت فيه, مع اختلاف الثمار والحبوب في اللون والطعم والرائحة والشكل والخواص.....
* وذكر اصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: إن الذي أنزل هذا الكتاب هو الله الذي رفع ماترون من سماوات تجري فيها النجوم بغير أعمدة تري ولايعلمها إلا الله, وإن كان قد ربط بينها وبين الأرض بروابط لاتنقطع إلا أن يشاء الله, وذلل الشمس والقمر بسلطانه ولمنفعتكم, وهما يدوران بانتظام لزمن قدره الله سبحانه وتعالي, وهو سبحانه يدبر كل شيء في السماوات والأرض, ويبين لكم آياته الكونية رجاء أن توقنوا بالوحدانية.
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه:
(وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي) أي ذلل الشمس والقمر لمصالح العباد, كل يسير بقدرته تعالي إلي زمن معين هو زمن فناء الدنيا( يدبر الأمر) أي يصرف بحكمته وقدرته أمور الخلق وشئون الملكوت من إيجاد وإعدام, وإحياء وإماتة وغير ذلك( يفصل الآيات) أي يبينها ويوضحها( لعلكم بلقاء ربكم توقنون) أي لتصدقوا بلقاء الله, وتوقنوا بالمعاد إليه, لأن من قدر علي ذلك كله فهو قادر علي إحياء الإنسان بعد موته.
الدلالة العلمية للنص الكريم
من معاني تسخير كل من الشمس والقمر ضبط حركة كل منهما لما فيه صلاح الكون واستقامة الحياة علي الأرض.
ومن معاني أن كلا منهما يجري إلي أجل مسمي: أن الكون ليس بأزلي ولا بأبدي, بل كانت له في الأصل بداية تحاول العلوم المكتسبة تحديدها, وكل ماله بداية لابد وأن ستكون له في يوم من الأيام نهاية لها من الشواهد الحسية في كل من الشمس والقمر ما يؤكد علي حتميتها.
أولا: من جوانب تسخير الشمس:
ان الحقائق القاطعة بتسخير الشمس عديدة جدا نوجز منها مايلي:
(1) الاتزان الدقيق بين تجاذب مكونات الشمس وتمددها:
الشمس هي أقرب نجوم السماء إلي الأرض التي تبعد عنها بمسافة مائة وخمسين مليون كيلو متر في المتوسط; والشمس نجم عادي, متوسط الحجم علي هيئة كرة من الغاز الملتهب يبلغ قطرها1,400,000 كيلو متر, وحجمها142 ألف مليون مليون كيلو متر مكعب, ومتوسط كثافتها1,4 جرام للسنتيمتر المكعب, ولذلك تقدر كتلتها بنحو ألفي تريليون تريليون طن. ويمثل ذلك حوالي99% من كتلة المجموعة الشمسية كلها.
والشمس عبارة عن فرن نووي كوني عملاق عمره أكثر من عشرة بلايين من السنين, يرتفع الضغط في داخله إلي مايساوي أربعمائة مليار ضغط جوي وبذلك تبدأ عملية الاندماج النووي بين نوي ذرات الإيدروجين منتجة نوي ذرات الهيليوم وتنطلق الطاقة التي ترفع درجة حرارة لب الشمس إلي أكثر من15 مليون درجة مطلقة تتناقص بالتدريج إلي حوالي ستة آلاف درجة مطلقة عند سطحها, وإن تجاوزت المليون درجة في ألسنة اللهب المندفعة من داخلها.
والشمس تتكون أساسا من غازي الإيدروجين(81,76%) والهيليوم(18,17%) بالاضافة إلي آثار يسيره( لاتتعدي0,07%) من عدد من العناصر الأخري, وعلي ذلك فإن الشمس عبارة عن خليط ملتهب من غازي الإيدروجين والهيليوم بنسبة حجمية تقدر بحوالي4:1 وهي نفس النسبة المطلوبة لاتحاد أربع من نوي ذرات الإيدروجين مع بعضها البعض لتكوين نواة ذرة هيليوم واحدة, وتنطلق الطاقة; والشمس تحول في كل ثانية من عمرها الحالي حوالي655 مليون طن من الإيدروجين إلي حوالي650 مليون طن من الهيليوم, ويتحول الفرق بين الكتلتين( والمقدر بحوالي الخمسة ملايين طن) إلي طاقة تمثل الطاقة المنبعثة من الشمس في كل ثانية من وجودها.
ونظرا للجاذبية الرهيبة التي تحدثها كتلة الشمس الهائلة علي مكوناتها فإنها تتجاذب كلها في اتجاه المركز تجاذبا تنتج عنه ضغوط هائلة ترفع درجة حرارة لب الشمس إلي المستوي الذي يسمح ببدء واستمرار عملية الاندماج النووي فيه.
ونظرا للتوازن الدقيق بين جاذبية الشمس لمكوناتها في اتجاه مركزها, ودفع تلك المكونات بعيدا عن المركز بواسطة القوي الناتجة عن تمدد الغازات المكونة لها بفعل الحرارة الفائقة في مركزها, فقد بقيت الشمس مستمرة في الوجود تحت هذا التوازن العجيب علي مدي عشرة بلايين من السنين( علي أقل تقدير) وإلي أن يرث الله( تعالي) الكون ومن فيه; ولولا هذا التوازن الدقيق لانفجرت الشمس كقنبلة نووية عملاقة, أو لانهارت علي ذاتها تحت ضغط جاذبيتها خاصة أنها مجرد كرة ضخمة من الغازات.
وعلي ذلك فإن تقدير حجم وكتلة الشمس بهذه الدقة البالغة هو الذي مكنها من تحقيق هذا التوازن الدقيق بين قوي الدفع إلي الخارج, وقوي التجاذب إلي الداخل, ومن البقاء في حالة غازية أو شبه غازية, ملتهبة, متوهجة بذاتها, ولو تغير حجم وكتلة الشمس ولو قليلا لتغير سلوك مادتها تماما, أو انفجرت أو انهارت علي ذاتها, وذلك لأن السبب في اندلاع عملية الاندماج النووي في قلب النجم وانطلاق الطاقة منه هو تكونه من كتلة وحجم معينين يحافظان علي الاتزان الدقيق بين التمدد والتجاذب, وهل هناك من التسخير صورة ابلغ من ذلك؟.
(2) تسخير طاقة الشمس من أجل ضبط حركة الحياة علي الأرض:
تطلق الشمس من مختلف صور الطاقة مايقدر بحوالي خمسمائة ألف مليون مليون مليون حصان في كل ثانية من ثواني عمرها, ويصل إلي الأرض من هذا الكم الهائل من الطاقة حوالي الواحد في الألف, ومجموع ميزانيات دول العالم لاتكفي ثمنا لهذا الكم من الطاقة الشمسية التي تصل إلينا فتمثل كل مصادر الطاقة المباشرة وغير المباشرة علي الأرض( باستثناء الطاقة النووية), وبدون هذه الطاقة الشمسية تستحيل الحياة علي كوكبنا, لأن كلا من النبات, والحيوان, والإنسان يعتمد في وجوده ـ بعد إرادة الله الخالق سبحانه وتعالي ـ علي قدر الطاقة الذي يصله من أشعة الشمس, كذلك فإن كل الظواهر الفطرية التي تحدث علي الأرض ومن حولها تعتمد علي الطاقة القادمة إلينا من الشمس: فتصريف الرياح, وإرسال السحاب, وإنزال المطر وبقية دورة الماء حول الأرض, وما يصاحب ذلك من تسوية وتمهيد لسطح الأرض, وشق للفجاج والسبل فيها, وتفجير للأنهار والجداول من حجارتها, وخزن للماء تحت سطح الأرض, وتكوين للتربة والصخور الرسوبية, وتركيز للعديد من الركائز المعدنية, وحركات الأمواج في البحار والمحيطات وعمليات المد والجزر وغير ذلك من عمليات وظواهر تحركها طاقة الشمس بإرادة الله تعالي.
كذلك فإن الله( تعالي) قد أعطي الشجر الأخضر القدرة علي خزن جزء من طاقة الشمس علي هيئة عدد من الروابط الكيميائية التي تمثل المصدر الرئيسي لكل انواع الطاقة الحرارية والضوئية والكهربائية والكيميائية من مثل الحطب والقش والخشب, وكلا من الفحم النباتي والحجري, والنفط والغاز الطبيعي, والزيوت والدهون النباتية والحيوانية وكلها ترجع إلي الطاقة الشمسية.
3 ـ تكوين نطق الحماية المختلفة للأرض بفعل طاقة الشمس:
شاءت إرادة الله( تعالي) أن يحمي الحياة علي سطح الأرض بعدد من نطق الحماية التي لعبت أشعة الشمس( ولا تزال تلعب) الدور الأول في تكوينها( بعد إرادة الله) وأولها من الخارج إلي الداخل: النطاق المغناطيسي للأرض
(TheMagnetosphere),
وأحزمة الإشعاع
(TheRadiationBelts),
والنطاق المتأين
(TheIonosphere),
ونطاق الأوزون
(TheOzonosphere),
وهذه النطق تتعاون في حماية الأرض من كل من الأشعة فوق البنفسجية والكونية ومن العديد من الجسيمات الكونية الدقيقة والكبيرة والتي منها النيازك والشهب; ولو لم تكن هذه النطق موجودة لاستحالت الحياة علي الأرض, ولو لم تكن الشمس موجودة ما تكونت تلك النطق علي الإطلاق ووجودها صورة من صور التسخير التي لم تكن معروفة في زمن الوحي بالقرآن الكريم, ولا بعد قرون متطاولة بعد نزوله حتي نهايات القرن العشرين.
(4) تحديد الزمن:
يتحدد كل من الليل والنهار ويوم الأرض وشهورها وفصولها وسنينها بدورة الأرض حول محورها, وبسبحها في مدارها حول الشمس وبذلك يستطيع الأنسان إدراك الزمن وتحديد الأوقات والتاريخ للأحداث, فبدورة الأرض حول محورها أمام الشمس يتبادل الليل والنهار, ويتحدد يوم الأرض.
وبسبح الأرض في مدارها حول الشمس بمحور مائل علي الأفق تتحدد الفصول المناخية من الربيع والصيف والخريف والشتاء كما تتحدد سنة الأرض التي يتقاسمها اثنا عشر شهرا شمسيا تحددها بروج السماء الاثنا عشر المتتابعة.
ثانيا: تسخير القمر:
القمر تابع صغير للأرض يبعد