ذكر بناية البيت العتيق
قال الله تعالى : " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود * وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " .
وقال تعالى : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " .
وقال تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين * وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود * وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير * وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " .
يذكر تعالى عن عبده ورسوله وصفيه وخليله ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء إبراهيم عليه السلام أنه بنى البيت الذي هو أول مسجد وضع لعموم الناس ، يعبدون الله فيه ، بوأه الله مكانه ، أي أرشده إليه ودله عليه .
وقد روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وغيره : أنه أرشد إليه بوحي من الله عز وجل . وقد ذكرنا في صفة خلق السموات : أن الكعبة بحيال البيت المعمور ، بحيث إنه لو سقط لسقط عليها ، وكذلك معابد السموات السبع ، كما قال بعض السلف : إن في كل سماء بيتاً يعبد الله فيه أهل كل سماء ، وهو فيها كالكعبة لأهل الأرض .
فأمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن يبني له بيتاً يكون لأهل الأرض كتلك المعابد لملائكة السموات ، وأرشده الله إلى مكان البيت المهيأ له ، المعين لذلك منذ خلق السموات والأرض ، كما ثبت في الصحيحين : " أن هذا البلد حرمه الله يوم خلق الله السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلي يوم القيامة " .
ولم يجىء في خبر صحيح عن المعصوم أن البيت كان مبنياً قبل الخليل عليه السلام ، ومن تمسك في هذا القول بقوله : " مكان البيت " فليس بناهض ولا ظاهر ، لأن المراد مكانه المقدر في علم الله ، المقرر في قدره ، المعظم عند الأنبياء موضعه ، من لدن آدم إلى زمان إبراهيم .
وقد ذكرنا أن آدم نصب عليه قبة ، وأن الملائكة قالوا له : قد طفنا قبلك بهذا البيت ، وأن السفينة طافت به أربعين يوماً أو نحو ذلك ، ولكن كل هذه الأخبار عن بني إسرائيل ، وقد قررنا أنها لا تصدق ولا تكذب فلا يحتج بها ، فأما إن ردها الحق فهي مردودة .
وقد قال الله : " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " أي أول بيت وضع لعموم الناس للبركة والهدى . البيت الذي ببكة . وقيل محل الكعبة " فيه آيات بينات " أي على أنه بناء الخليل ، والد الأنبياء من بعده وإمام الحنفاء من ولده ، الذين يقتدون به ويتمسكون بسنته ، ولهذا قال : " مقام إبراهيم " أي الحجر الذي كان يقف عليه قائماً لما ارتفع عن قامته ، فوضع له ولده هذا الحجر المشهور ، ليرتفع عليه لما تعالى البناء وعظم الفناء . كما ذكر في حديث ابن عباس الطويل .
وقد كان هذا الحجر ملصقاً بحائط الكعبة على ما كان عليه من قديم الزمان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخره عن البيت قليلاً ، لئلا يشغل المصلين عنده الطائفين بالبيت ، واتبع عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا ، فإنه قد وافقه ربه في أشياء ، منها قوله لرسوله صلى الله عليه وسلم : لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله : " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " . وقد كانت آثار قدمي الخليل باقية في الصخرة إلى أول الإسلام . وقد قال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وثور ومن أرسـى ثبيراً مكانــــــه وارق ليرقى في حراء ونازل
وبالبيت حــق البيت من بطن مكــة وبـــالله إن الله ليس بغـافــل
وبـالحجر المســود إذ يمسحـونـــه إذ اكتنفوه بالضحى والأصائل
ومواطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعــل
يعني أن رجله الكريمة غاصت في الصخرة فصارت على قدر قدمه حافية لا منتعلة . ولهذا قال تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " أي في حال قولهما : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " فهما في غاية الإخلاص والطاعة لله عز وجل ، وهما يسألان من الله عز وجل السميع العليم أن يتقبل منهما ما هما فيه من الطاعة العظيمة والسعي المشكور : " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " .
والمقصود أن الخليل بني أشرف المساجد في أشرف البقاع ، في واد غير ذي زرع ، ودعا لأهلها بالبركة ، وأن يرزقوا من الثمرات ، مع قلة المياه وعدم الأشجار والزروع والثمار ، وأن يجعله حرماً محرماً وآمناً محتماً .
فاستجاب الله - وله الحمد - له مسألته ، ولبى دعوته ، وآتاه طلبته ، فقال تعالى : " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " وقال تعالى : " أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا " .
وسأل الله أن يبعث فيهم رسولاً منهم ، أي من جنسهم ، وعلى لغتهم الفصيحة البليغة النصيحة ، لتتم عليهم النعمتان الدنيوية والدينية ، سعادة الأولى والآخرة .
وقد استجاب الله له فبعث فيهم رسولاً وأي رسول ! ختم به أنبياءه ورسله ، وأكمل له من الدين مالم يؤت أحداً قبله ، وعم بدعوته أهل الأرض على إختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ، في سائر الأقصار والأمصار والأعصار إلى يوم القيامة ، وكان هذا من خصائصه من بين سائر الأنبياء ، لشرفه في نفسه وكمال شفقته على أمته ، ولطفه ورحمته ، وكريم محتده وعظيم مولده ، وطيب مصدره ومورده .
ولهذا استحق إبراهيم الخليل عليه السلام إذا كان باني الكعبة لأهل الأرض ، أن يكون منصبه ومحله وموضعه ، في منازل السموات ورفيع الدرجات ، عند البيت المعمور ، الذي هو كعبة أهل السماء السابعة المبارك المبرور ، الذي يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ، ثم لا يعودون إلى يوم البعث والنشور .
وقد ذكرنا في التفسير من سورة البقرة صفة بنائه للبيت ، وما ورد في ذلك من الأخبار والآثار بما فيه كفاية ، فمن أراد فليراجعه ثم .. ولله الحمد .
فمن ذلك ما قال السدى : لما أمر الله إبراهيم وإسماعيل أن يبنيا البيت لم يدريا أين مكانه ، حتى بعث الله ريحاً يقال له ( الخجوج ) لها جناحان ورأس في صورة حية ، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول ، وأتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس . وذلك حتى يقول تعالى : " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " .
فلما بلغا القواعد وبنيا الركن ، قال إبراهيم لإسماعيل : يا بني .. اطلب لي حجراً حسناً أضعه هاهنا . قال : يا أبت .. إني كسلان تعب . قال : على ذلك فانطلق ، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند ، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة ، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس ، فجاء إسماعيل بحجر فوجده عند الركن . قال : يا أبت .. من جاءك بهذا ؟ قال : جاء به من هو أنشط منك . فبنيا وهما يدعوان الله : " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " .
وذكر ابن أبي حاتم أنه بناه من خمسة أجبل ، وأن ذا القرنين - وكان ملك الأرض إذ ذاك - مر بهما وهما يبنيانه فقال : من أمركما بهذا ؟ فقال إبراهيم : الله أمرنا به . فقال : وما يدريني بما تقول ؟ فشهد خمسة أكبش أنه أمره بذلك فآمن وصدق . وذكر الأزرقي : أنه طاف مع الخليل بالبيت .
وقد كانت الكعبة على بناء الخليل مدة طويلة ، ثم بعد ذلك بنتها قريش ، فقصرت بها عن قواعد إبراهيم من جهة الشمال مما يلي الشام على ما هي عليه اليوم .
وفي الصحيحين من حديث مالك ، عن ابن شهاب ، عن سالم : أن عبدالله بن محمد بن أبي بكر أخبر عن ابن عمر ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم " ؟ فقلت : يا رسول الله .. ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ فقال : " لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت " . وفي رواية : " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ، ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحجر " .
وقد بناها ابن الزبير رحمه الله في أيامه على ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما أخبرته به خالته عائشة ، أم المؤمنين عنه ، فلما قتله الحجاج في سنة ثلاثة وسبعين كتب إلى عبد الملك بن مروان الخليفة إذا ذاك ، فاعتقدوا أن ابن الزبير إنما صنع ذلك من تلقاء نفسه . فأمر بردها إلى ما كانت عليه ، فنقضوا الحائط الشامي وأخرجوا منها الجر ، ثم سدوا الحائط وردموا الأحجار في جوف الكعبة ، فارتفع بابها الشرقي وسدوا الغربي بالكلية ، كما هو مشاهد إلى اليوم .
ثم لما بلغهم أن ابن الزبير إنما فعل هذا لما أخبرته عائشة أم المؤمنين ندموا على ما فعلوا ، وتأسفوا أن لو كانوا تركوه وما تولى من ذلك .
ثم لما كان في زمن المهدي بن المنصور استشار الإمام مالك بن أنس في ردها على الصفة التي بناهاه ابن الزبير فقال له : إني أخشى أن يتخذها الملوك لعبة . يعني كلما جاء مثلك بناءها على الصفة التي يريد . فاستقر الأمر على ما هي عليه اليوم .
* * *
ذكر ثناء الله ورسوله الكريم على عبده وخليله إبراهيم
قال الله تعالى : " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " لما وفي ما أمره به ربه من التكاليف العظيمة ، جعله للناس إماماً يتقدون به ويأتمون بهديه . وسأل الله أن تكون هذه الإمامة متصلة بسببه ، وباقية في نسبه ، وخالدة في عقبه فأجيبب إلى ما سأل ورام وسلمت إليه الإمام بزمام ، واستثنى من نيلها الظالمون ، واختص بها من ذريته العلماء العاملون ، كما قال تعالى : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " وقال تعالى : " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " .
فالضمير في قوله : " ومن ذريته " عائد إلى إبراهيم على المشهور ، ولوط وإن كن ابن أخيه إلا أنه دخل في الذرية تغليباً ، وهذا هو الحامل للقائد الآخر أن الضمير على نوح كما قدمنا في قصته . . والله أعلم .
وقال تعالى : " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب " الآية . فكل كتاب أنزل من السماء على نبي من الأنبياء بعد إبراهيم الخليل ، فمن ذريته وشعيته ، وهذه خلعة سنية لا تضاهى ، ومرتبه عليه لا تباهي . وذلك أنه ولد له لصلبه ولدان ذكران عظيمان : إسماعيل من هاجر ، ثم إسحاق من سارة ، وولد له يعقوب - وهو إسرائيل - الذي ينتسب إلى سائر أسباطهم ، فكانت فيهم النبوة ، وكثروا جداً بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة ، وحتى ختموا بعيسى ابن مريم من نبي إسرائيل .
وأما إسماعيل عليه السلام ، فكانت منه العرب على إختلاف قبائلها ، كما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى ، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق وسيدهم ، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي ، المكي ثم المدني صوات الله وسلامه عليه .
فلم يوجد من هذا الفرع الشريف والغصن المنيف سوى هذه الجوهرة الباهرة ، والدرة الزاهرة ، وواسطة العقد الفاخرة ، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع ، ويغبطه الأولون والآخرون يوم القيامة .
وقد ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال : " سأقوم مقاماً يرغب إلى الخلق كلهم حتى إبراهيم " .
فمدح إبراهيم أباه مدحة عظيمة في هذا السياق ، ودل كلامه على أنه أفضل الخلائق بعده عند الخلاق ، في هذه الحياة الدنيا ويوم يكشف عن ساق .
وقال البخاري : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن منصور عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين ويقول : " إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق : أعوذ بكلمات الله التامة ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة " .
ورواه أهل السنن من حديث منصور به .
وقال تعالى : " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم " ذكر المفسرون لهذا السؤال أسباباً بسطناها في التفسير وقررناها بأتم تقرير .
والحاصل : أن الله عز وجل أجابه إلى ما سأل ، فأمره أن يعمد إلى أربعة من الطيور ، اختلفوا في تعيينها على أقوال ، والمقصود حاصل على كل تقدير ، فأمره أن يمزق لحومهن وريشهن ، ويخلط ذلك بعضه في بعض ، ثم يقسمه قسماً ويجعل على كل جبل منهم جزءاً ففعل ما أمر به ، ثم أمر أن يدعوهن بإذن ربهن ، فلما دعاهن جعل كل عضو يطير إلى صاحبه ، وكل ريشة تأتي إلى أختها ، حتى اجتمع بدن كل طائر على ما كان عليه ، وهو ينظر إلى قدرة الذي يقول للشيء كن فيكون ، فأتين إليه سعياً ، ليكون أبين له وأوضح لمشاهدته من أن يأتين طيراناً .
ويقال إنه أمر أن يأخذ رءوسهن في يده ، فجعل كل طائر يأتي فيلقى رأسه فتركب