رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخير من سورة مريم, وهي سورة مكية, عدد آياتها98 بعد البسملة, وقد سميت بهذا الأسم لورود قصة السيدة مريم ابنة عمران فيها, ومعجزة ولادتها للسيد المسيح( عليه السلام), وهي عذراء لم يمسسها بشر, ومعجزة كلامه( عليه السلام), وهو في المهد دفاعا عن أمه( شرفها الله) التي حاول اليهود( عليهم لعنة الله) أن ينالوا من شرفها, كما لوثوا سيرة كل نبي أرسل إليهم....!!
والمحور الرئيسي لسورة مريم يدور حول قضية العقيدة بأبعادها المختلفة, وفي مقدمتها توحيد الله, توحيدا مطلقا فوق كل خلقه, وتنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل نسبة الولد أو الشريك إليه, والتأكيد علي طلاقة قدرته التي لاتحدها حدود, ولايقف أمامها عائق; وترسيخ عقيدة البعث, والحساب, والجنة, والنار, وإثبات وحدة رسالة السماء التي أنزلها ربنا( تبارك وتعالي) علي فترة من الرسل, وسماها باسم الإسلام, والدعوة إلي الاجتهاد في القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بحسن عمارتها, وإقامة عدل الله فيها, وإشاعة الأمن والفضيلة في أرجائها والتذكير بالآخرة والتحذير من أهوالها...!!
ولتأكيد هذه المعاني تعرض سورة مريم لجوانب من القصص المتعلق بعدد من أنبياء الله, ولمصارع مكذبيهم في الدنيا من الكفار والمشركين, ولمصيرهم الأسود في الآخرة....!!
وتبدأ سورة مريم بخمسة من الحروف المقطعة, وهي( كهيعص), وقد وردت بهذه الصيغة مرة واحدة في القرآن كله.
وهذه الفواتح الهجائية أو( الحروف المقطعة) تتكون من أربعة عشر حرفا, جمعت في أربع عشرة صيغة, ورد كل منها مرة واحدة إلا أربعا منها هي ألم), وقد تكررت ست مرات في القرآن الكريم,( الر), وقد تكررت خمس مرات,( طسم), وقد تكررت مرتين, و(حم), وقد تكررت بمفردها ست مرات, وتكررت مرة سابعة في الصيغة الخماسية( حم* عسق), وبذلك يكون مجموع الصيغ المكررة تسع عشرة, ومجموع الصيغ غير المكررة عشر صيغ, وتضم هذه الفواتح الهجائية أسماء نصف حروف الهجاء الثمانية والعشرين, وقد استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم.
وهذه الفواتح الهجائية هي من أسرار القرآن العظيم, التي توقف عن الخوض فيها أعداد من علماء المسلمين مكتفين بتفويض الأمر فيها إلي الله( سبحانه وتعالي), ورأي عدد آخر ضرورة الاجتهاد في تفسيرها وفهم دلالاتها, وإن لم يصلوا بعد إلي إجماع في ذلك, فمنهم من رأي فيها رموزا إلي كلمات أو معان, أو أعداد معينة, أو أسماء للسور التي وردت في أوائلها; ومنهم من رأي فيها وسيلة قرع لأسماع وقلوب القارئين للقرآن أو المستمعين إليه, حتي يتهيأوا لتلقي كلام الله; ومنهم من رأي فيها معجزة لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) من حيث نطقه بأسماء الحروف, وهو أمي, والأمي ينطق بأصوات الحروف دون معرفة أسمائها; ومنهم من رأي فيها تنبيها عن إعجاز القرآن الكريم الذي صيغ من جنس تلك الحروف الهجائية التي يتكلم بها العرب, ويعجزون عن الإتيان بشئ من مثله وقد يكون فيها كل ذلك, وغيره مما لايعلمه إلا الله( تعالي); هذا وقد جمع عدد من المفسرين هذه الحروف في مجموعات من الجمل من أشهرها: نص حكيم قاطع له سر.
وبعد هذا الاستهلال المميز استعرضت السورة الكريمة ضراعة نبي الله زكريا( عليه السلام) إلي الله( تعالي), خفية, أن يهبه ذرية صالحة, وقد بلغ منه الكبر مبلغا, وكانت امرأته عاقرا, وكيف استجاب الله لدعائه, ووهبه يحيي نبيا, وسيدا, وحصورا, وكانت ولادته من أم عاقر, وأب طاعن في السن معجزة ناطقة بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود.
ثم انتقلت السورة إلي قصة السيدة مريم البتول( عليها رضوان الله), وحملها دون أن يمسها بشر, ووضعها لنبي الله عيسي( علي نبينا وعليه السلام); وإنطاق الله( تعالي) لهذا الوليد المبارك, وهو في المهد, وما رافق هذه المعجزات من مشاهد وأحداث تؤكد عبودية المسيح لله الخالق( سبحانه وتعالي), وذلك بنطقه المدون في سورة مريم بالنص التالي:
قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا* وبارا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا* والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا*( مريم:30 ـ33).
وتستمر الآيات مؤكدة اختلاف كل من اليهود والنصاري حول شخص المسيح( علي نبينا وعليه السلام), وانحراف غالبية أتباعه عن منهجه, وانقسامهم إلي العديد من الفرق; وانغماسهم في بحور من الضلال المبين, ولذلك تتهددهم الآيات بيوم القيامة ومشاهده المفزعة كما تؤكد تنزيه الله( تعالي) عن الولد, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): ذلك عيسي ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لايؤمنون* إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون*
(مريم:34 ـ40).
وبعد ذلك تعرض سورة مريم لجانب من قصة نبي الله إبراهيم( علي نبينا وعليه السلام) وحواره مع أبيه, وثباته علي الحق الذي شرح الله صدره له, وإكرام الله( تعالي) له بذرية صالحة من الأنبياء علي الرغم من كبر سنه; وأتبعت ذلك بالحديث عن سلسلة من أنبياء الله( علي نبينا وعليهم من الله السلام), ومنهم موسي, وهارون, وإسماعيل, وإدريس, وجميعهم من ذرية آدم( عليه السلام),ومنهم من هو ممن حملهم الله( تعالي) مع نوح, ومنهم من هو من ذرية كل من إبراهيم, ويعقوب( عليهما السلام), وممن هدي الله واجتبي, وقد استغرق الحديث عن هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء ثلثي سورة مريم تقريبا.
وقد ألمحت السورة الكريمة إلي انحراف الذين جاءوا من بعد هذه السلسلة الصالحة, فحادوا عن منهج الله, وفيهم تقرأ الآيات:
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا* إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولايظلمون شيئا*( مريم:60,59)
واستعرضت السورة جانبا من وصف الجنة; ثم انتقلت إلي تأكيد حقيقة أن الملائكة لاتتنزل إلا بأمر الله, وتوصي الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) ـ ومن ثم توصي آتباعه ـ بالاصطبار علي عبادة الله وجعلها محورا للحياة, فتقول:
ومانتنزل إلا بأمر ربك له مابين أيدينا وماخلفنا ومابين ذلك وما كان ربك نسيا* رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65,64).
وتعرج السورة الكريمة إلي انكار الكثيرين لحقيقة البعث, وتذكرهم بخلقهم الأول من العدم, وتهددهم بحشرهم جثيا علي ركبهم حول جهنم, وإلقائهم جثيا فيها, ونجاة المتقين من هذا المشهد الرهيب.
وتشير سورة مريم إلي تفاخر الكفار والمشركين في هذه الدنيا بشيء من حطامها الفاني, ومتاعها الزائل, وتستنكر تعاليهم علي المسلمين, وتعييرهم لهم بفقرهم, وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي): قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتي إذا رأوا مايوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا*( مريم:75).
وتذكر السورة الكريمة بالهالكين من الأمم السابقة; وبأن الله( تعالي) يمد للضالين في غيهم حتي إذا أخذهم لم يفلتهم, ويزيد الذين اهتدوا هدي, وأنه لايبقي من هذه الحياة الدنيا إلا العمل الصالح.
وتستعرض السورة مواقف بعض الكفار والمشركين في استعلائهم علي الحق وأهله, وصلفهم في التعامل مع الله ومع خلقه, وتطالب الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن يصبر علي أذاهم وبألا يعجل عليهم لأن حساب الله ينتظرهم في يوم يصفه الحق( تبارك وتعالي) بقوله:
يوم نحشر المتقين إلي الرحمن وفدا* ونسوق المجرمين إلي جهنم وردا*( مريم:86,85)
وعاودت سورة مريم الاستنكار الشديد من قبل الله( تعالي) ومن قبل الكون كله لادعاءات المبطلين نسبة الولد ـ زورا ـ إلي الله( تعالي), وهو( سبحانه) المنزه عن هذا النقص, المتصف بكل صفات الكمال المطلق, وفي ذلك نزلت الآيات بقول الحق( تبارك وتعالي):
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا إدا* تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا* أن دعوا للرحمن ولدا* وماينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا*
( مريم:'88 ـ92).
وتختتم السورة الكريمة بالقرار الإلهي:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا*( مريم:6)
وبأن القرآن الكريم قد يسره ربنا( تبارك وتعالي) علي لسان هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه مسلم) ليبشر به المتقين, وينذر به قوما لدا.
وتعاود سورة مريم التذكير ـ في آخر آياتها ـ بالأمم البائدة التي أهلكها الله( تعالي) عقابا علي كفرها, وتسأل رسول الله( صلي الله عليه وسلم): هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم همسا؟ كما توجه السؤال إلي كل الخلق لعلهم يعتبرون, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا*( مريم:98).
والحقائق التاريخية والعلمية التي أوردتها سورة مريم أكثر من أن تحصي في مقال واحد, ولذا فسوف أقصر الحديث هنا علي آية واحدة هي الآية رقم(65), التي جاءت فيها الإشارة إلي( السماوات والأرض, ومابينهما), وقبل تبيان الدلالة العلمية التي يمكن استخلاصها من تلك الآية المباركة لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين السابقين في شرح دلالتها.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65)
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) مانصه:... وقوله( رب السماوات والأرض ومابينهما) أي خالق ذلك ومدبره, والحاكم فيه والمتصرف الذي لامعقب لحكمه,( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) قال ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا أو شبيها. وقال عكرمة, عن ابن عباس: ليس أحد يسمي الرحمن غيره تبارك وتعالي وتقدس اسمه.
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه: وهو( رب) مالك( السماوات والأرض)( ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته) أي: آصبر عليها( هل تعلم له سميا) أي مسمي بذلك؟ لا....
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما نصه:.... رب السماوات والأرض ومابينهما فلا ربوبية لغيره, ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.( فاعبده واصطبر لعبادته)... اعبده واصطبر علي تكاليف العبادة, وهي تكاليف الارتقاء إلي أفق المثول بين يدي المعبود, والثبات في هذا المرتقي العالي. أعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء, والتلقي في ذلك الآفق العلوي.... إنها مشقة, مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل مشاغل, ومن كل هاتف, ومن كل التفات... وإنها مع المشقة للذة لايعرفها إلا من ذاقها, ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة, وإلا بالتجرد لها, والاستغراق فيها, والتحفز لها بكل جارحة وخالجة, فهي لاتفشي سرها, ولاتمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها, ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا.
(فاعبده واصطبر لعبادته)... والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر, إنما هي كل نشاط: كل حركة, كل خالجة, كل نية, كل اتجاه, وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلي الله وحده دون سواه, مشقة تحتاج إلي الاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من أنشطة الأرض إلي السماء, خالصا من أوشاب الأرض, وأوهاق الضرورات, وشهوات النفس, ومواضعات الحياة.
إنه منهج حياة كامل, يعيش الإنسان وفقه, وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله, فيرتفع في نشاطه كله إلي أفق العبادة الطاهر الوضئ. وإنه لمنهج يحتاج إلي الصبر والجهد والمعاناة.( فاعبده واصطبر لعبادته).. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود الذي تتجه إليه الفطر والقلوب..( هل تعلم له سميا؟) هل تعرف له نظيرا؟ تعالي الله عن السمي وعن النظير....
* وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( رحمة الله رحمة واسعة) مانصه هل تعلم له سميا) نظيرا أو شبيها يستحق العبادة لربوبيته وألوهيته, وكمال تنزهه عن النقائص, واتصافه بصفاته الجليلة.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: فهو سبحانه الخالق المالك للسماوات والأرض ومابينهما, والمدبر لشئونهما, والمستحق وحده للعبادة, فاعبده أيها المخاطب, وثابر علي عبادته صابرا مطمئنا, فهو سبحانه المستحق ـ وحده ـ للعبادة, وليس له نظير يستحق العبادة, أو يسمي باسم من أسمائه....
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه:
( رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده) أي هو رب العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده( واصطبر لعبادته) أي اصبر علي تكاليف العبادة( هل تعلم له سميا) أي هل تعلم له شبيها ونظيرا؟.
السماوات والأرض ومابينهما في القرآن الكريم
ورد تعبير( السماوات والأرض ومابينهما) في ثمانية عشر موضعا من القرآن الكريم, كما جاء تعبير( السماء والأرض ومابينهما) في موضعين من كتاب الله, وبذلك يكون مجموع مرات ورود هذه الإشارة العلمية الدقيقة عشرين مرة علي النحو التالي:
(1).... ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما يخلق ما يشاء والله علي كل شيء قدير*
( المائدة:17)
(2).... ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما وإليه المصير( المائدة:18).
(3) وماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل( الحجر:85).
(4) رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا( مريم:65).
(5) له مافي السماوات وما في الأرض ومابينهما وماتحت الثري( طه:6).
(6) وما خلقنا السماء والأرض ومابينهما لاعبين( الأنبياء:16).
(7) الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا( الفرقان:59).
( قال رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين( الشعراء:24).
(9) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:.
(10) الله الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولاشفيع أفلا تتذكرون( السجدة:4).
(11) رب السماوات والأرض ومابينهما ورب المشارق( الصافات:5).
(12) أم لهم ملك السماوات والأرض ومابينهما فليرتقوا في الأسباب( ص:10).
(13) وماخلقنا السماء والأرض ومابينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار( ص:27).
(14) رب السماوات والأرض ومابينهما العزيز الغفار( ص:66).
(15) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض ومابينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون( الزخرف:85).
(16) رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين( الدخان:7).
(17) وماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما لاعبين( الدخان:38).
(18) ماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي والذين كفروا عما أنذروا معرضون( الأحقاف:3).
(19) ولقد خلقنا السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب( ق:38).
(20) رب السماوات والأرض ومابينهما الرحمن لايملكون منه خطابا( النبأ:37).
وقد احتار المفسرون في شرح دلالة التعبيرين القرآنيين السماوات والأرض ومابينهما), و(السماء والأرض ومابينهما) فمنهم من قال: إنها دلالة علي أن جميع الموجودات هي من خلق الله( تعالي), وملك يمينه, وتحت قهره, وسلطانه, لأن الله تعالي هو المالك لكل شيء, ومنهم من قال: إن هذا النص يشير إلي سائر أجرام السماء من نجوم وكواكب وأقمار وأتربة كونية, وغازات وطاقات يتألف الكون منها, ومنهم من مر بها في صمت ودون أدني تعليق, ولكن هناك آيتين من آيات القرآن الحكيم تلقيان الضوء علي دلالة هذا النص القرآني المعجز( السماوات والأرض ومابينهما), أو( السماء والأرض ومابينهما) في الأولي منهما يقول ربنا( تبارك وتعالي):
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وماأنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( البقرة:164).
ومن هذه الآية الكريمة يتضح أن السحاب هو مما بين السماء والأرض.
وفي الآية الثانية يقول ربنا( تبارك وتعالي):
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
(الطلاق:12).
ومن هذه الآية الكريمة يفهم أن هناك مسافات بينية تفصل كل سماء عن التي تليها, كما تفصل كل أرض عن التي تليها, وتفصل كلا من السماء الدنيا, وباقي السماوات السبع عن الأرض, ولايتأتي ذلك إلا إذا كانت الأرض في مركز السماوات.
ويروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قوله: سبحان الله عدد ماخلق في السماء, سبحان الله عدد ماخلق في الأرض, سبحان الله عدد ماخلق بينهما, سبحان الله عدد ماهو خالق....
وقوله صلي الله عليه وسلم: أطت السماء أطا, وحق لها أن تئط..., ما من أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد يعبد ربه....
ما بين السماوات والأرض في العلوم المكتسبة
تجمع العلوم المكتسبة علي أن كلا من المادة والطاقة يملأ فسحة الكون بتركيز مختلف, لأن خلق كل من المكان والزمان; والمادة والطاقة قد تزامن مع عملية الانفجار العظيم( فتق الرتق), فلا يمكن تصور مكان بلا زمان, ولا زمان بلا مكان, كما لايمكن تصور مكان وزمان بغير مادة وطاقة. فكل من المادة والطاقة يتكثف في مختلف أجرام السماء بتركيز مختلف, كما يوجد بكثافات قليلة ومتباينة بين كل جرم والآخر, وتحرك المادة والطاقة بين السماء الدنيا وأجرامها من الأمور الثابتة علميا, التي أكدتها الدراسات الفلكية, ومن أمثلتها تخلق النجوم من الدخان الكوني, وعودتها إليه بانفجارها في دورة حياة النجوم, ومن امثلتها كذلك انتثار الكواكب وعودة مادتها إلي الغبار الكوني أو إلي الشهب والنيازك التي إما أن تحترق أو تتهاوي علي عدد من أجرام السماء.
وقد فصلنا في مقال سابق تركيب كل نطاق من نطق الغلاف الغازي للأرض, وتناقص تركيز كل من المادة والطاقة بالارتفاع فيه حتي يتداخل في تركيب الجزء الأسفل من السماء الدنيا مكونا خليطا من مادتهما لعله المقصود بالبينية الفاصلة بين الأرض والسماء الدنيا; وهذه المادة الفاصلة بين السماء والأرض تكونت باختلاط ما تصاعد من فوهات البراكين مع ما كان حول الأرض من مادة مابين الكواكب فتكون الخليط المعروف باسم الغلاف الغازي للأرض وهو خليط مكون من مادة الأرض, ومادة السماء الدنيا فحق له أن يفصل بين كل منهما بوصف القرآن الكريم له بصفة البينية( السماء والأرض ومابينهما).
وأول نطق الغلاف الغازي للأرض هو نطاق الرجع أو نطاق التغيرات الجوية أو نطاق الطقس, ويمتد من مستوي سطح البحر إلي ارتفاح نحو17 كيلومترا فوق خط الاستواء( ويتناقص هذا السمك إلي مابين8,6 كيلومترات فوق القطبين; ويختلف فوق مناطق العروض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية فينكمش إلي ما دون السبعة كيلومترات في مناطق الضغط المنخفض ويتمدد إلي نحو13 كيلومترا في مناطق الضغط المرتفع).
ويضم نطاق الرجع نحو ثلث كتلة الغلاف الغازي للأرض(66%), وتتناقص درجة الحرارة فيه باستمرارمع الارتفاع حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء, وذلك في قمة هذا النطاق المعروفة باسم مستوي الركود الجوي, ويتناقص عنده الضغط إلي نحو عشر قيمته عند سطح البحر.
وفي هذا النطاق يتكثف بخار الماء الصاعد من الأرض مكونا السحب, ومنها يهطل كل من المطر والبرد والثلج بإذن الله, وتحدث ظواهر الرعد والبرق, والعواصف, والدوامات وتيارات الحمل الهوائية, وغير ذلك من حركات الرياح, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي)... والسحاب المسخر بين السماء والأرض....)( البقرة:164).
وعلي ذلك فإن نطاق الرجع ومن فوقه بقية نطق الغلاف الغازي للأرض حتي حدود النطاق المغناطيسي يمثل فاصلا حقيقيا بين الأرض والسماء الدنيا, وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلي هذه( البينية) من قبل ألف وأربعمائة سنة يعتبر ومضة من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله, لم يصل إليها علم البشر إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
الأهمية العلمية للتعبير القرآني السماوات والأرض ومابينهما
إضافة إلي سبق القرآن الكريم بالإشارة في عشرين موضعا منه إلي( مابين السماء والأرض) أو( مابين السماوات والأرض), وهو سبق علمي حقيقي لم تدركه العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, فإن هذه الإشارة المعجزة تحوي من الحقائق العلمية مايفوق هذا الكشف العلمي أهمية وجدارة, وذلك لأن أول مايمكن استنتاجه من هذا النص القرآني هو توسط الأرض للسماء الدنيا وللسماوات السبع كلها, لأنها متطابقة يغلف الخارج منها الداخل, وهي حقيقة لايمكن للإنسان أن يصل إليها لأنه ـ علي الرغم من تقدمه العلمي, والتقني المذهل ـ محدود بحدود حسه وعقله, وبحدود مكانه( أي وجوده علي كوكب الأرض), وبحدود زمانه أي عمره, ومن هنا فإن الإنسان لايستطيع أن يدرك من الكون إلا جزءا صغيرا من السماء الدنيا, وهذا الجزء الصغير ملئ بالغيوب من مثل الثقوب السود, المادة الداكنة, الكتل المفقودة, وغيرها مما يرغم علماء الفلك والفيزياء الفلكية علي الاعتراف بان أقصي مايمكن إدراكه في الجزء المشاهد من الكون لا يتعدي العشرة بالمائة من مجموع المادة والطاقة الموجودة فيه.
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يؤكدان توسط الأرض للكون
* إن مقابلة القرآن الكريم( في مئات من آياته) للأرض مع السماء أو مع السماوات ـ علي ضآلة أبعاد الأرض بالنسبة إلي أبعاد السماوات ـ يؤكد أهمية موقع الأرض من الكون.
* إن ذكر القرآن الكريم للنصين( السماوات والأرض ومابينهما), و(السماء والأرض ومابينهما) في عشرين موضعا منه يؤكد مركزية الأرض من السماء الدنيا, ومن مجموع السماوات السبع; وذلك لأن هذه البينية لايمكن أن تتم لو لم تكن الأرض في مركز السماوات السبع.
* ويؤكد ذلك جمع القرآن الكريم لأقطار السماوات والأرض في وصف واحد كما جاء في قول الحق( تبارك وتعالي):
يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلا بسلطان( الرحمن:33).
وذلك لأن قطر أي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه, مرورا بمركزه, فإذا توحدت أقطار السماوات والأرض فمعني ذلك أن الأرض لابد وأن تكون في مركز الكون.
* ويؤكد ماسبق حديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) الذي يرويه مجاهد عنه بقوله( عليه الصلاة والسلام): إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والأرضين السبع أي في وضع متوسط منها; لأن الوصف مناء معناه قصده وعلي حذاه.
ومن أقوال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) البيت المعمور منا مكة أي في مقابلتها وبمحاذاتها.
ويروي كل من قتادة والسدي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أنه قال يوما لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: فإنه مسجد في السماء السابعة بحيال الكعبة, لو خر لخر عليها, يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم.
* ويزيد ذلك تأكيدا حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يروي عنه أنه قال فيه: كانت الكعبة خشعة علي الماء, فدحيت منها الأرض; والخشعة هي أكمة متواضعة.
وتأتي أبحاث الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين( رحمه الله رحمة واسعة) لتؤكد توسط مكة لليابسة, فتبرز جانبا من جوانب التكريم المادي الملموس لهذا المكان الطيب الطاهر الذي فضله ربنا( تبارك وتعالي) علي كل أماكن الأرض فجعل فيه كعبته المشرفة أول بيت عبد الله فيه علي الأرض, وجعلها قبلة للمصلين حيثما كانوا, وللحج والعمرة للقادرين من المسلمين, ولو لمرة واحدة في العمر ليتعرضوا لبركات هذا المكان الذي جعل الله( سبحانه وتعالي) الصلاة فيه بمائة ألف صلاة كما أخبرنا الحبيب المصطفي( صلي الله عليه وسلم).
ويأتي العلم في أوج عطائه ليؤكد لنا توسط مكة ليابسة الأرض, وتأتي أحاديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) مؤكدة قيام موقع الكعبة المشرفة الذي هو أصل اليابسة علي حيال البيت المعمور في السماء السابعة, ويأتي القرآن الكريم مؤكدا توسط الأرض للسماوات السبع حتي تبقي الكعبة المشرفة مركز الكون بأسره, وهي حقيقة لايمكن للعلوم المكتسبة أن تصل إليها أبدا...!!
فسبحان الذي خلق الأكوان وأنشأ نظمها بعلمه وجعل الكعبة مركزا لكونه...!!
وسبحان الذي أنزل القرآن, أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه فحفظ بنفس لغة وحيه( اللغة العربية), وحفظ حفظا كاملا: كلمة كلمة, وحرفا حرفا, وآية آية, وسورة سورة بنفس الترتيب الذي جمع به علي عهد رسول الله( صلي الله عليه وسلم), والموجود في بلايين المصاحف والاسطوانات والأشرطة الممغنطة, والذي نقل لنا متواترا عبر بلايين الصدور ولايزال يحفظ في البلايين منها وذلك خلال الألف والأربعمائة سنة الماضية, وإلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها...!
فالحمد لله منزل القرآن الكريم, والصلاة والسلام علي الرسول الخاتم الذي تلقاه, ونقله إلينا بأمانة, وعاش به... وله, فأقام أعظم دولة عرفها التاريخ, ولعل الله تعالي أن يعيننا علي أن نعيد للقرآن الكريم دولته وسط الفوضي العالمية التي اجتاحت الأرض كلها في غيبة الاحتكام إلي شريعة الله...!! ووسط السقوط بين مخالب طواغيت الأرض....!!! وما ذلك علي الله بعزيز, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في مطلع الثلث الأخير من سورة مريم, وهي سورة مكية, عدد آياتها98 بعد البسملة, وقد سميت بهذا الأسم لورود قصة السيدة مريم ابنة عمران فيها, ومعجزة ولادتها للسيد المسيح( عليه السلام), وهي عذراء لم يمسسها بشر, ومعجزة كلامه( عليه السلام), وهو في المهد دفاعا عن أمه( شرفها الله) التي حاول اليهود( عليهم لعنة الله) أن ينالوا من شرفها, كما لوثوا سيرة كل نبي أرسل إليهم....!!
والمحور الرئيسي لسورة مريم يدور حول قضية العقيدة بأبعادها المختلفة, وفي مقدمتها توحيد الله, توحيدا مطلقا فوق كل خلقه, وتنزيهه( سبحانه وتعالي) عن كل وصف لايليق بجلاله من مثل نسبة الولد أو الشريك إليه, والتأكيد علي طلاقة قدرته التي لاتحدها حدود, ولايقف أمامها عائق; وترسيخ عقيدة البعث, والحساب, والجنة, والنار, وإثبات وحدة رسالة السماء التي أنزلها ربنا( تبارك وتعالي) علي فترة من الرسل, وسماها باسم الإسلام, والدعوة إلي الاجتهاد في القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بحسن عمارتها, وإقامة عدل الله فيها, وإشاعة الأمن والفضيلة في أرجائها والتذكير بالآخرة والتحذير من أهوالها...!!
ولتأكيد هذه المعاني تعرض سورة مريم لجوانب من القصص المتعلق بعدد من أنبياء الله, ولمصارع مكذبيهم في الدنيا من الكفار والمشركين, ولمصيرهم الأسود في الآخرة....!!
وتبدأ سورة مريم بخمسة من الحروف المقطعة, وهي( كهيعص), وقد وردت بهذه الصيغة مرة واحدة في القرآن كله.
وهذه الفواتح الهجائية أو( الحروف المقطعة) تتكون من أربعة عشر حرفا, جمعت في أربع عشرة صيغة, ورد كل منها مرة واحدة إلا أربعا منها هي ألم), وقد تكررت ست مرات في القرآن الكريم,( الر), وقد تكررت خمس مرات,( طسم), وقد تكررت مرتين, و(حم), وقد تكررت بمفردها ست مرات, وتكررت مرة سابعة في الصيغة الخماسية( حم* عسق), وبذلك يكون مجموع الصيغ المكررة تسع عشرة, ومجموع الصيغ غير المكررة عشر صيغ, وتضم هذه الفواتح الهجائية أسماء نصف حروف الهجاء الثمانية والعشرين, وقد استفتحت بها تسع وعشرون سورة من سور القرآن الكريم.
وهذه الفواتح الهجائية هي من أسرار القرآن العظيم, التي توقف عن الخوض فيها أعداد من علماء المسلمين مكتفين بتفويض الأمر فيها إلي الله( سبحانه وتعالي), ورأي عدد آخر ضرورة الاجتهاد في تفسيرها وفهم دلالاتها, وإن لم يصلوا بعد إلي إجماع في ذلك, فمنهم من رأي فيها رموزا إلي كلمات أو معان, أو أعداد معينة, أو أسماء للسور التي وردت في أوائلها; ومنهم من رأي فيها وسيلة قرع لأسماع وقلوب القارئين للقرآن أو المستمعين إليه, حتي يتهيأوا لتلقي كلام الله; ومنهم من رأي فيها معجزة لرسول الله( صلي الله عليه وسلم) من حيث نطقه بأسماء الحروف, وهو أمي, والأمي ينطق بأصوات الحروف دون معرفة أسمائها; ومنهم من رأي فيها تنبيها عن إعجاز القرآن الكريم الذي صيغ من جنس تلك الحروف الهجائية التي يتكلم بها العرب, ويعجزون عن الإتيان بشئ من مثله وقد يكون فيها كل ذلك, وغيره مما لايعلمه إلا الله( تعالي); هذا وقد جمع عدد من المفسرين هذه الحروف في مجموعات من الجمل من أشهرها: نص حكيم قاطع له سر.
وبعد هذا الاستهلال المميز استعرضت السورة الكريمة ضراعة نبي الله زكريا( عليه السلام) إلي الله( تعالي), خفية, أن يهبه ذرية صالحة, وقد بلغ منه الكبر مبلغا, وكانت امرأته عاقرا, وكيف استجاب الله لدعائه, ووهبه يحيي نبيا, وسيدا, وحصورا, وكانت ولادته من أم عاقر, وأب طاعن في السن معجزة ناطقة بطلاقة القدرة الإلهية التي لا تحدها حدود.
ثم انتقلت السورة إلي قصة السيدة مريم البتول( عليها رضوان الله), وحملها دون أن يمسها بشر, ووضعها لنبي الله عيسي( علي نبينا وعليه السلام); وإنطاق الله( تعالي) لهذا الوليد المبارك, وهو في المهد, وما رافق هذه المعجزات من مشاهد وأحداث تؤكد عبودية المسيح لله الخالق( سبحانه وتعالي), وذلك بنطقه المدون في سورة مريم بالنص التالي:
قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا* وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة مادمت حيا* وبارا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا* والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا*( مريم:30 ـ33).
وتستمر الآيات مؤكدة اختلاف كل من اليهود والنصاري حول شخص المسيح( علي نبينا وعليه السلام), وانحراف غالبية أتباعه عن منهجه, وانقسامهم إلي العديد من الفرق; وانغماسهم في بحور من الضلال المبين, ولذلك تتهددهم الآيات بيوم القيامة ومشاهده المفزعة كما تؤكد تنزيه الله( تعالي) عن الولد, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): ذلك عيسي ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون* ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون* وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم* فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم* أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين* وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لايؤمنون* إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون*
(مريم:34 ـ40).
وبعد ذلك تعرض سورة مريم لجانب من قصة نبي الله إبراهيم( علي نبينا وعليه السلام) وحواره مع أبيه, وثباته علي الحق الذي شرح الله صدره له, وإكرام الله( تعالي) له بذرية صالحة من الأنبياء علي الرغم من كبر سنه; وأتبعت ذلك بالحديث عن سلسلة من أنبياء الله( علي نبينا وعليهم من الله السلام), ومنهم موسي, وهارون, وإسماعيل, وإدريس, وجميعهم من ذرية آدم( عليه السلام),ومنهم من هو ممن حملهم الله( تعالي) مع نوح, ومنهم من هو من ذرية كل من إبراهيم, ويعقوب( عليهما السلام), وممن هدي الله واجتبي, وقد استغرق الحديث عن هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء ثلثي سورة مريم تقريبا.
وقد ألمحت السورة الكريمة إلي انحراف الذين جاءوا من بعد هذه السلسلة الصالحة, فحادوا عن منهج الله, وفيهم تقرأ الآيات:
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا* إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولايظلمون شيئا*( مريم:60,59)
واستعرضت السورة جانبا من وصف الجنة; ثم انتقلت إلي تأكيد حقيقة أن الملائكة لاتتنزل إلا بأمر الله, وتوصي الرسول الخاتم( صلي الله عليه وسلم) ـ ومن ثم توصي آتباعه ـ بالاصطبار علي عبادة الله وجعلها محورا للحياة, فتقول:
ومانتنزل إلا بأمر ربك له مابين أيدينا وماخلفنا ومابين ذلك وما كان ربك نسيا* رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65,64).
وتعرج السورة الكريمة إلي انكار الكثيرين لحقيقة البعث, وتذكرهم بخلقهم الأول من العدم, وتهددهم بحشرهم جثيا علي ركبهم حول جهنم, وإلقائهم جثيا فيها, ونجاة المتقين من هذا المشهد الرهيب.
وتشير سورة مريم إلي تفاخر الكفار والمشركين في هذه الدنيا بشيء من حطامها الفاني, ومتاعها الزائل, وتستنكر تعاليهم علي المسلمين, وتعييرهم لهم بفقرهم, وترد عليهم بقول الحق( تبارك وتعالي): قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتي إذا رأوا مايوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو شر مكانا وأضعف جندا*( مريم:75).
وتذكر السورة الكريمة بالهالكين من الأمم السابقة; وبأن الله( تعالي) يمد للضالين في غيهم حتي إذا أخذهم لم يفلتهم, ويزيد الذين اهتدوا هدي, وأنه لايبقي من هذه الحياة الدنيا إلا العمل الصالح.
وتستعرض السورة مواقف بعض الكفار والمشركين في استعلائهم علي الحق وأهله, وصلفهم في التعامل مع الله ومع خلقه, وتطالب الآيات رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أن يصبر علي أذاهم وبألا يعجل عليهم لأن حساب الله ينتظرهم في يوم يصفه الحق( تبارك وتعالي) بقوله:
يوم نحشر المتقين إلي الرحمن وفدا* ونسوق المجرمين إلي جهنم وردا*( مريم:86,85)
وعاودت سورة مريم الاستنكار الشديد من قبل الله( تعالي) ومن قبل الكون كله لادعاءات المبطلين نسبة الولد ـ زورا ـ إلي الله( تعالي), وهو( سبحانه) المنزه عن هذا النقص, المتصف بكل صفات الكمال المطلق, وفي ذلك نزلت الآيات بقول الحق( تبارك وتعالي):
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا* لقد جئتم شيئا إدا* تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا* أن دعوا للرحمن ولدا* وماينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا*
( مريم:'88 ـ92).
وتختتم السورة الكريمة بالقرار الإلهي:
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا*( مريم:6)
وبأن القرآن الكريم قد يسره ربنا( تبارك وتعالي) علي لسان هذا النبي الخاتم والرسول الخاتم( صلي الله عليه مسلم) ليبشر به المتقين, وينذر به قوما لدا.
وتعاود سورة مريم التذكير ـ في آخر آياتها ـ بالأمم البائدة التي أهلكها الله( تعالي) عقابا علي كفرها, وتسأل رسول الله( صلي الله عليه وسلم): هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم همسا؟ كما توجه السؤال إلي كل الخلق لعلهم يعتبرون, وذلك بقول الحق( تبارك وتعالي):
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا*( مريم:98).
والحقائق التاريخية والعلمية التي أوردتها سورة مريم أكثر من أن تحصي في مقال واحد, ولذا فسوف أقصر الحديث هنا علي آية واحدة هي الآية رقم(65), التي جاءت فيها الإشارة إلي( السماوات والأرض, ومابينهما), وقبل تبيان الدلالة العلمية التي يمكن استخلاصها من تلك الآية المباركة لابد من استعراض سريع لأقوال عدد من المفسرين السابقين في شرح دلالتها.
من أقوال المفسرين
في تفسير قوله( تعالي):
رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا*( مريم:65)
* ذكر ابن كثير( رحمه الله) مانصه:... وقوله( رب السماوات والأرض ومابينهما) أي خالق ذلك ومدبره, والحاكم فيه والمتصرف الذي لامعقب لحكمه,( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) قال ابن عباس: هل تعلم للرب مثلا أو شبيها. وقال عكرمة, عن ابن عباس: ليس أحد يسمي الرحمن غيره تبارك وتعالي وتقدس اسمه.
* وجاء في تفسير الجلالين( رحم الله كاتبيه) مانصه: وهو( رب) مالك( السماوات والأرض)( ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته) أي: آصبر عليها( هل تعلم له سميا) أي مسمي بذلك؟ لا....
* وجاء في الظلال( رحم الله كاتبها برحمته الواسعة) ما نصه:.... رب السماوات والأرض ومابينهما فلا ربوبية لغيره, ولا شرك معه في هذا الكون الكبير.( فاعبده واصطبر لعبادته)... اعبده واصطبر علي تكاليف العبادة, وهي تكاليف الارتقاء إلي أفق المثول بين يدي المعبود, والثبات في هذا المرتقي العالي. أعبده واحشد نفسك وعبئ طاقتك للقاء, والتلقي في ذلك الآفق العلوي.... إنها مشقة, مشقة التجمع والاحتشاد والتجرد من كل مشاغل, ومن كل هاتف, ومن كل التفات... وإنها مع المشقة للذة لايعرفها إلا من ذاقها, ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة, وإلا بالتجرد لها, والاستغراق فيها, والتحفز لها بكل جارحة وخالجة, فهي لاتفشي سرها, ولاتمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها, ويفتح منافذ حسه وقلبه جميعا.
(فاعبده واصطبر لعبادته)... والعبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر, إنما هي كل نشاط: كل حركة, كل خالجة, كل نية, كل اتجاه, وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلي الله وحده دون سواه, مشقة تحتاج إلي الاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من أنشطة الأرض إلي السماء, خالصا من أوشاب الأرض, وأوهاق الضرورات, وشهوات النفس, ومواضعات الحياة.
إنه منهج حياة كامل, يعيش الإنسان وفقه, وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله, فيرتفع في نشاطه كله إلي أفق العبادة الطاهر الوضئ. وإنه لمنهج يحتاج إلي الصبر والجهد والمعاناة.( فاعبده واصطبر لعبادته).. فهو الواحد الذي يعبد في هذا الوجود الذي تتجه إليه الفطر والقلوب..( هل تعلم له سميا؟) هل تعرف له نظيرا؟ تعالي الله عن السمي وعن النظير....
* وذكر صاحب صفوة البيان لمعاني القرآن( رحمة الله رحمة واسعة) مانصه هل تعلم له سميا) نظيرا أو شبيها يستحق العبادة لربوبيته وألوهيته, وكمال تنزهه عن النقائص, واتصافه بصفاته الجليلة.
* وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: فهو سبحانه الخالق المالك للسماوات والأرض ومابينهما, والمدبر لشئونهما, والمستحق وحده للعبادة, فاعبده أيها المخاطب, وثابر علي عبادته صابرا مطمئنا, فهو سبحانه المستحق ـ وحده ـ للعبادة, وليس له نظير يستحق العبادة, أو يسمي باسم من أسمائه....
* وجاء في صفوة التفاسير( جزي الله كاتبه خيرا) مانصه:
( رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده) أي هو رب العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده( واصطبر لعبادته) أي اصبر علي تكاليف العبادة( هل تعلم له سميا) أي هل تعلم له شبيها ونظيرا؟.
السماوات والأرض ومابينهما في القرآن الكريم
ورد تعبير( السماوات والأرض ومابينهما) في ثمانية عشر موضعا من القرآن الكريم, كما جاء تعبير( السماء والأرض ومابينهما) في موضعين من كتاب الله, وبذلك يكون مجموع مرات ورود هذه الإشارة العلمية الدقيقة عشرين مرة علي النحو التالي:
(1).... ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما يخلق ما يشاء والله علي كل شيء قدير*
( المائدة:17)
(2).... ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما وإليه المصير( المائدة:18).
(3) وماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل( الحجر:85).
(4) رب السماوات والأرض ومابينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا( مريم:65).
(5) له مافي السماوات وما في الأرض ومابينهما وماتحت الثري( طه:6).
(6) وما خلقنا السماء والأرض ومابينهما لاعبين( الأنبياء:16).
(7) الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش الرحمن فاسأل به خبيرا( الفرقان:59).
( قال رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين( الشعراء:24).
(9) أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون( الروم:.
(10) الله الذي خلق السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام ثم استوي علي العرش مالكم من دونه من ولي ولاشفيع أفلا تتذكرون( السجدة:4).
(11) رب السماوات والأرض ومابينهما ورب المشارق( الصافات:5).
(12) أم لهم ملك السماوات والأرض ومابينهما فليرتقوا في الأسباب( ص:10).
(13) وماخلقنا السماء والأرض ومابينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار( ص:27).
(14) رب السماوات والأرض ومابينهما العزيز الغفار( ص:66).
(15) وتبارك الذي له ملك السماوات والأرض ومابينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون( الزخرف:85).
(16) رب السماوات والأرض ومابينهما إن كنتم موقنين( الدخان:7).
(17) وماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما لاعبين( الدخان:38).
(18) ماخلقنا السماوات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي والذين كفروا عما أنذروا معرضون( الأحقاف:3).
(19) ولقد خلقنا السماوات والأرض ومابينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب( ق:38).
(20) رب السماوات والأرض ومابينهما الرحمن لايملكون منه خطابا( النبأ:37).
وقد احتار المفسرون في شرح دلالة التعبيرين القرآنيين السماوات والأرض ومابينهما), و(السماء والأرض ومابينهما) فمنهم من قال: إنها دلالة علي أن جميع الموجودات هي من خلق الله( تعالي), وملك يمينه, وتحت قهره, وسلطانه, لأن الله تعالي هو المالك لكل شيء, ومنهم من قال: إن هذا النص يشير إلي سائر أجرام السماء من نجوم وكواكب وأقمار وأتربة كونية, وغازات وطاقات يتألف الكون منها, ومنهم من مر بها في صمت ودون أدني تعليق, ولكن هناك آيتين من آيات القرآن الحكيم تلقيان الضوء علي دلالة هذا النص القرآني المعجز( السماوات والأرض ومابينهما), أو( السماء والأرض ومابينهما) في الأولي منهما يقول ربنا( تبارك وتعالي):
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وماأنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دآبة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون( البقرة:164).
ومن هذه الآية الكريمة يتضح أن السحاب هو مما بين السماء والأرض.
وفي الآية الثانية يقول ربنا( تبارك وتعالي):
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما
(الطلاق:12).
ومن هذه الآية الكريمة يفهم أن هناك مسافات بينية تفصل كل سماء عن التي تليها, كما تفصل كل أرض عن التي تليها, وتفصل كلا من السماء الدنيا, وباقي السماوات السبع عن الأرض, ولايتأتي ذلك إلا إذا كانت الأرض في مركز السماوات.
ويروي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قوله: سبحان الله عدد ماخلق في السماء, سبحان الله عدد ماخلق في الأرض, سبحان الله عدد ماخلق بينهما, سبحان الله عدد ماهو خالق....
وقوله صلي الله عليه وسلم: أطت السماء أطا, وحق لها أن تئط..., ما من أربع أصابع إلا وفيها ملك قائم أو راكع أو ساجد يعبد ربه....
ما بين السماوات والأرض في العلوم المكتسبة
تجمع العلوم المكتسبة علي أن كلا من المادة والطاقة يملأ فسحة الكون بتركيز مختلف, لأن خلق كل من المكان والزمان; والمادة والطاقة قد تزامن مع عملية الانفجار العظيم( فتق الرتق), فلا يمكن تصور مكان بلا زمان, ولا زمان بلا مكان, كما لايمكن تصور مكان وزمان بغير مادة وطاقة. فكل من المادة والطاقة يتكثف في مختلف أجرام السماء بتركيز مختلف, كما يوجد بكثافات قليلة ومتباينة بين كل جرم والآخر, وتحرك المادة والطاقة بين السماء الدنيا وأجرامها من الأمور الثابتة علميا, التي أكدتها الدراسات الفلكية, ومن أمثلتها تخلق النجوم من الدخان الكوني, وعودتها إليه بانفجارها في دورة حياة النجوم, ومن امثلتها كذلك انتثار الكواكب وعودة مادتها إلي الغبار الكوني أو إلي الشهب والنيازك التي إما أن تحترق أو تتهاوي علي عدد من أجرام السماء.
وقد فصلنا في مقال سابق تركيب كل نطاق من نطق الغلاف الغازي للأرض, وتناقص تركيز كل من المادة والطاقة بالارتفاع فيه حتي يتداخل في تركيب الجزء الأسفل من السماء الدنيا مكونا خليطا من مادتهما لعله المقصود بالبينية الفاصلة بين الأرض والسماء الدنيا; وهذه المادة الفاصلة بين السماء والأرض تكونت باختلاط ما تصاعد من فوهات البراكين مع ما كان حول الأرض من مادة مابين الكواكب فتكون الخليط المعروف باسم الغلاف الغازي للأرض وهو خليط مكون من مادة الأرض, ومادة السماء الدنيا فحق له أن يفصل بين كل منهما بوصف القرآن الكريم له بصفة البينية( السماء والأرض ومابينهما).
وأول نطق الغلاف الغازي للأرض هو نطاق الرجع أو نطاق التغيرات الجوية أو نطاق الطقس, ويمتد من مستوي سطح البحر إلي ارتفاح نحو17 كيلومترا فوق خط الاستواء( ويتناقص هذا السمك إلي مابين8,6 كيلومترات فوق القطبين; ويختلف فوق مناطق العروض الوسطي باختلاف ظروفها الجوية فينكمش إلي ما دون السبعة كيلومترات في مناطق الضغط المنخفض ويتمدد إلي نحو13 كيلومترا في مناطق الضغط المرتفع).
ويضم نطاق الرجع نحو ثلث كتلة الغلاف الغازي للأرض(66%), وتتناقص درجة الحرارة فيه باستمرارمع الارتفاع حتي تصل إلي ستين درجة مئوية تحت الصفر فوق خط الاستواء, وذلك في قمة هذا النطاق المعروفة باسم مستوي الركود الجوي, ويتناقص عنده الضغط إلي نحو عشر قيمته عند سطح البحر.
وفي هذا النطاق يتكثف بخار الماء الصاعد من الأرض مكونا السحب, ومنها يهطل كل من المطر والبرد والثلج بإذن الله, وتحدث ظواهر الرعد والبرق, والعواصف, والدوامات وتيارات الحمل الهوائية, وغير ذلك من حركات الرياح, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي)... والسحاب المسخر بين السماء والأرض....)( البقرة:164).
وعلي ذلك فإن نطاق الرجع ومن فوقه بقية نطق الغلاف الغازي للأرض حتي حدود النطاق المغناطيسي يمثل فاصلا حقيقيا بين الأرض والسماء الدنيا, وسبق القرآن الكريم بالإشارة إلي هذه( البينية) من قبل ألف وأربعمائة سنة يعتبر ومضة من ومضات الإعجاز العلمي في كتاب الله, لم يصل إليها علم البشر إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين.
الأهمية العلمية للتعبير القرآني السماوات والأرض ومابينهما
إضافة إلي سبق القرآن الكريم بالإشارة في عشرين موضعا منه إلي( مابين السماء والأرض) أو( مابين السماوات والأرض), وهو سبق علمي حقيقي لم تدركه العلوم المكتسبة إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين, فإن هذه الإشارة المعجزة تحوي من الحقائق العلمية مايفوق هذا الكشف العلمي أهمية وجدارة, وذلك لأن أول مايمكن استنتاجه من هذا النص القرآني هو توسط الأرض للسماء الدنيا وللسماوات السبع كلها, لأنها متطابقة يغلف الخارج منها الداخل, وهي حقيقة لايمكن للإنسان أن يصل إليها لأنه ـ علي الرغم من تقدمه العلمي, والتقني المذهل ـ محدود بحدود حسه وعقله, وبحدود مكانه( أي وجوده علي كوكب الأرض), وبحدود زمانه أي عمره, ومن هنا فإن الإنسان لايستطيع أن يدرك من الكون إلا جزءا صغيرا من السماء الدنيا, وهذا الجزء الصغير ملئ بالغيوب من مثل الثقوب السود, المادة الداكنة, الكتل المفقودة, وغيرها مما يرغم علماء الفلك والفيزياء الفلكية علي الاعتراف بان أقصي مايمكن إدراكه في الجزء المشاهد من الكون لا يتعدي العشرة بالمائة من مجموع المادة والطاقة الموجودة فيه.
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يؤكدان توسط الأرض للكون
* إن مقابلة القرآن الكريم( في مئات من آياته) للأرض مع السماء أو مع السماوات ـ علي ضآلة أبعاد الأرض بالنسبة إلي أبعاد السماوات ـ يؤكد أهمية موقع الأرض من الكون.
* إن ذكر القرآن الكريم للنصين( السماوات والأرض ومابينهما), و(السماء والأرض ومابينهما) في عشرين موضعا منه يؤكد مركزية الأرض من السماء الدنيا, ومن مجموع السماوات السبع; وذلك لأن هذه البينية لايمكن أن تتم لو لم تكن الأرض في مركز السماوات السبع.
* ويؤكد ذلك جمع القرآن الكريم لأقطار السماوات والأرض في وصف واحد كما جاء في قول الحق( تبارك وتعالي):
يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلا بسلطان( الرحمن:33).
وذلك لأن قطر أي شكل هندسي هو الخط الواصل بين طرفيه, مرورا بمركزه, فإذا توحدت أقطار السماوات والأرض فمعني ذلك أن الأرض لابد وأن تكون في مركز الكون.
* ويؤكد ماسبق حديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) الذي يرويه مجاهد عنه بقوله( عليه الصلاة والسلام): إن الحرم حرم مناء من السماوات السبع والأرضين السبع أي في وضع متوسط منها; لأن الوصف مناء معناه قصده وعلي حذاه.
ومن أقوال رسول الله( صلي الله عليه وسلم) البيت المعمور منا مكة أي في مقابلتها وبمحاذاتها.
ويروي كل من قتادة والسدي عن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) أنه قال يوما لأصحابه: هل تدرون ما البيت المعمور؟ قالوا: الله ورسوله أعلم, قال: فإنه مسجد في السماء السابعة بحيال الكعبة, لو خر لخر عليها, يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك, إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم.
* ويزيد ذلك تأكيدا حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يروي عنه أنه قال فيه: كانت الكعبة خشعة علي الماء, فدحيت منها الأرض; والخشعة هي أكمة متواضعة.
وتأتي أبحاث الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين( رحمه الله رحمة واسعة) لتؤكد توسط مكة لليابسة, فتبرز جانبا من جوانب التكريم المادي الملموس لهذا المكان الطيب الطاهر الذي فضله ربنا( تبارك وتعالي) علي كل أماكن الأرض فجعل فيه كعبته المشرفة أول بيت عبد الله فيه علي الأرض, وجعلها قبلة للمصلين حيثما كانوا, وللحج والعمرة للقادرين من المسلمين, ولو لمرة واحدة في العمر ليتعرضوا لبركات هذا المكان الذي جعل الله( سبحانه وتعالي) الصلاة فيه بمائة ألف صلاة كما أخبرنا الحبيب المصطفي( صلي الله عليه وسلم).
ويأتي العلم في أوج عطائه ليؤكد لنا توسط مكة ليابسة الأرض, وتأتي أحاديث رسول الله( صلي الله عليه وسلم) مؤكدة قيام موقع الكعبة المشرفة الذي هو أصل اليابسة علي حيال البيت المعمور في السماء السابعة, ويأتي القرآن الكريم مؤكدا توسط الأرض للسماوات السبع حتي تبقي الكعبة المشرفة مركز الكون بأسره, وهي حقيقة لايمكن للعلوم المكتسبة أن تصل إليها أبدا...!!
فسبحان الذي خلق الأكوان وأنشأ نظمها بعلمه وجعل الكعبة مركزا لكونه...!!
وسبحان الذي أنزل القرآن, أنزله بعلمه علي خاتم أنبيائه ورسله, وتعهد بحفظه فحفظ بنفس لغة وحيه( اللغة العربية), وحفظ حفظا كاملا: كلمة كلمة, وحرفا حرفا, وآية آية, وسورة سورة بنفس الترتيب الذي جمع به علي عهد رسول الله( صلي الله عليه وسلم), والموجود في بلايين المصاحف والاسطوانات والأشرطة الممغنطة, والذي نقل لنا متواترا عبر بلايين الصدور ولايزال يحفظ في البلايين منها وذلك خلال الألف والأربعمائة سنة الماضية, وإلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها...!
فالحمد لله منزل القرآن الكريم, والصلاة والسلام علي الرسول الخاتم الذي تلقاه, ونقله إلينا بأمانة, وعاش به... وله, فأقام أعظم دولة عرفها التاريخ, ولعل الله تعالي أن يعيننا علي أن نعيد للقرآن الكريم دولته وسط الفوضي العالمية التي اجتاحت الأرض كلها في غيبة الاحتكام إلي شريعة الله...!! ووسط السقوط بين مخالب طواغيت الأرض....!!! وما ذلك علي الله بعزيز, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.