يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل...
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
جاءت هذه الآية الكريمة في مقدمات سورة الزمر, والتي سميت بهذا الاسم لحديثها عن زمر المتقين, السعداء, المكرمين من أهل الجنة, وزمر العصاة, الأشقياء المهانين من أهل النار, وحال كل منهم في يوم الحساب.
و سورة الزمر مكية ـ شأنها شأن كل السور المكية التي يدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة ـ ولذلك فهي تركز علي عقيدة التوحيد الخالص لله, بغير شريك ولا شبيه ولا منازع.
واستهلت السورة بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله ربنا( تبارك وتعالي) بالحق علي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) هداية للناس كافة, وإنذارا من رب العالمين, وجعله معجزة خالدة إلي يوم الدين, وملأه بالأنوار الإلهية, والإشراقات النورانية, التي منها الأمر إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وإلي الناس كافة( بالتبعية لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم) بإخلاص الدين لله, وتنزيهه( جل في علاه) عن الشبيه والشريك والولد...!!!
وذكرت السورة عددا هائلا من الأدلة المادية الملموسة التي تشهد للخالق سبحانه وتعالي بطلاقة القدرة, وببديع الصنعة, وبإحكام الخلق, وبالتالي تشهد له( سبحانه) بالألوهية, والربوبية, والوحدانية, والتنزيه عن كل وصف لا يليق بجلاله, ومن هذه الأدلة المادية: خلق السماوات والأرض بالحق, وخلق كل شيء حسب مايشاء( سبحانه), تكوير الأرض وتبادل الليل والنهار عليها, وتسخير كل من الشمس والقمر( وتسخير كل أجرام السماء), خلق البشر كلهم من نفس واحدة, وخلق زوجها منها( وكذلك الزوجية في كل خلق), إنزال ثمانية أزواج من الأنعام, مراحل الجنين التي يمر بها الإنسان وخلقه في ظلمات ثلاث, إنزال الماء من السماء وخزن بعضه في صخور الأرض, إخراج الزرع ودورة حياته, حتمية الموت علي كل مخلوق, تكافؤ النوم مع الوفاة, وقبض الأرض, وطي السماوات يوم القيامة...!!!
وتحدثت السورة الكريمة كذلك عن الإيمان الذي يرتضيه ربنا( تبارك وتعالي) من عباده, والكفر الذي لا يرضاه, وعن علم الله( تعالي) بكل مافي الصدور, وقدرته( جل جلاله) علي محاسبة كل مخلوق بعمله, وتحدثت السورة عن طبائع النفس البشرية في السراء والضراء, وعن الفروق بين كل من الإيمان والكفر, والكافر والمؤمن في مواقفهما في الدنيا والآخرة, وبين الإغراق في المعاصي والإخلاص في العبادة, وبين كل من التوحيد والشرك, وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون, وعن العديد من مشاهد القيامة وأهوالها...!!!
كما تحدثت السورة الكريمة عن نفختي الصعق والبعث, ومايعقبهما من أحداث مروعة, وعن يوم الحشر حين يساق المتقون إلي الجنة زمرا, ويساق المجرمون إلي جهنم زمرا كذلك, ولكن شتان بين سوق التكريم, وسوق الإهانة والإذلال والتجريم, ويتم ذلك كله في حضرة الأنبياء والشهداء, والملائكة حافين من حول العرش, والوجود كله خاضع لربه, متجه إليه بالحمد والثناء, راج رحمته, مشفق من عذابه, راض بحكمه, حامد لقضائه...!!!
ومن الأدلة المادية المطروحة للاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية علي الخلق, وبالتالي علي الشهادة له( سبحانه) بالألوهية والربوبية قوله( تعالي):
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار.( الزمر:5)
وهي آية جامعة, تحتاج في شرحها إلي مجلدات, ولذا فسوف أقتصر هنا علي الإشارة إلي كروية الأرض وإلي دورانها من قبل ألف وأربعمائة سنة, في زمن ساد فيه الاعتقاد بالاستواء التام للأرض بلا أدني انحناء, وبثباتها, وتمت الإشارة إلي تلك الحقيقة الأرضية بأسلوب لا يفزع العقلية البدوية في زمن تنزل الوحي, فجاء التكوير صفة لكل من الليل والنهار, وكلاهما من الفترات الزمنية التي تعتري الأرض, فإذا تكورا كان في ذلك إشارة ضمنية رقيقة إلي كروية الأرض, وإذا تكور أحدهما علي الآخر كان في ذلك إشارة إلي تبادلهما, وهي إشارة ضمنية رائعة إلي دوران الأرض حول محورها, دون أن تثير بلبلة في زمن لم تكن للمجتمعات الإنسانية بصفة عامة والمجتمعات في جزيرة العرب بصفة خاصة أي حظ من الثقافة العلمية, وسوف نفصل ذلك في السطور القادمة إن شاء الله( تعالي) بعد شرح دلالة الفعل( كور) في اللغة العربية, واستعراض شروح المفسرين لدلالات تلك الآية الكريمة.
الدلالة اللغوية
صورة للأرض من الفضاء
يقال في اللغة العربية كار) الشيء( يكوره)( كورا) و( كرورا), و( يكوره)( تكويرا) أي أداره, وضم بعضه إلي بعض,( ككور) العمامة, أو جعله كالكرة, ويقال طمنه فكوره) إذا ألقاه مجتمعا, كما يقال( اكتار) الفرس إذا أدار ذنبه في عدوه, وقيل للإبل الكثيرة( كور), و( كوارة) النحل معروفة, و( الكور) الرحل, وقيل لكل مصر( كورة) وهي البقعة التي يجتمع فيها قري ومحال عديدة, و( الكرة) التي تضرب بالصولجان, وتجمع علي( كرين) بضم الكاف وكسرها, كما تجمع علي كرات.
وجاء الفعل المضارع( يكور) في القرآن الكريم كله مرتين فقط في الآية الكريمة التي نحن بصددها, وجاء بصيغة المبني للمجهول مرة واحدة في قول الحق( تبارك وتعالي):
إذا الشمس كورت( التكوير:1)
أي جعلت كالكرة بانسحاب ألسنة اللهب المندفعة منها إلي آلاف الكيلو مترات خارجها, إلي داخلها كناية عن بدء انطفاء جذوتها.
شروح المفسرين
في تفسير قوله تعالي:
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار( الزمر:5)
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه: يخبر تعالي أنه الخالق لما في السماوات والأرض, ومابين ذلك من الأشياء, وبأنه مالك الملك, المتصرف فيه, يقلب ليله ونهاره( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل) أي سخرهما يجريان متعاقبين, ولا يفترقان, كل منهما يطلب الآخر طلبا....
ويضيف: وقوله عز وجل: وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي أي إلي مدة معلومة عند الله تعالي, ثم ينقضي يوم القيامة,( ألا هو العزيز الغفار) أي مع عزته وعظمته وكبريائه, هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) مانصه خلق السماوات والأرض بالحق) ولحكمة, لا عبثا باطلا, متعلق بـ خلق.
( يكور) أي يدخل ـ الليل علي النهارـ فيزيد( ويكور النهار) يدخله ـ علي الليل ـ فيزيد.
وجاء في الهامش التعليق التالي من أحد المحققين: قوله تعالي( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل) ما ذكره المؤلف الجلال المحلي في معني التكوير هو معني الإيلاج الوارد في مثل قوله تعالي( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل), وهذا تفسير غير موافق لمعني اللغة, لأن التكوير والإيلاج ليسا بمعني واحد, وإلا فما معني قوله تعالي( إذا الشمس كورت)؟ قال:في القاموس: التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه علي بعض, ومنه كور العمامة, فيكون معني الآية: ان الله تعالي سخر الليل والنهار يتعاقبان, يذهب أحدهما فيعقبه الآخر الي يوم القيامة, وفي الآية إشارة واضحة إلي أن الأرض لاتخلو من ليل في مكان ونهار في آخر, علي مدار الساعة
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:
(خلق السماوات والأرض).. وأنزل الكتاب بالحق.. فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب.. وكلاهما صادر من مصدر واحد, وكلاهما آية علي وحدة المبدع العزيز الحكيم,( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل).. وهو تعبير عجيب يقسرالناظر فيه قسرا علي الالتفات الي ما كشف حديثا عن كروية الأرض, ومع أنني في هذه الظلال حريص علي ألا أحمل القرآن علي النظريات التي يكشفها الإنسان, لأنها نظريات تخطيء وتصيب, وتثبت اليوم وتبطل غدا, والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته, ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل!
مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرا علي النظر في موضوع كروية الأرض, فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة علي وجه الأرض, فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس, فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا, ولكن هذا الجزء لايثبت لأن الأرض تدور, وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار, وهذا السطح مكور, فالنهار كان عليه مكورا, والليل يتبعه مكورا كذلك, وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخري يتكور علي الليل, وهكذا في حركة دائبة( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل).. واللفظ يرسم الشكل, ويحدد الوضع, ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها, وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أي تفسير آخر..
وذكر صاحب صفوة البيان( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه يكور الليل علي النهار) تكوير الشيء إدارته, وضم بعضه إلي بعض ككور العمامة, أي أن هذا يكر علي هذا, وهذا يكر علي هذا كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة بعضها علي إثر بعض, إلا أن أكوار العمامة مجتمعة, وفيما نحن فيه متعاورة.. وقيل المعني: يزيد الليل علي النهار ويضمه إليه, بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا, فيطول النهار عن الليل, ويزيد النهار عن الليل ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل عن النهار, وهو كقوله تعالي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: خلق السماوات والأرض متلبسا بالحق والصواب علي ناموس ثابت, يلف الليل علي النهار ويلف النهار علي الليل علي صورة الكرة, وذلل الشمس والقمر لإرادته ومصلحة عباده, كل منهما يسير في فلكه إلي وقت محدد عنده.. وهو يوم القيامة, ألا هو ـ دون غيره ـ الغالب علي كل شيء, فلا يخرج شيء عن إرادته, الذي بلغ الغاية في الصفح عن المذنبين من عباده وجاء في الهامش هذا التعليق: تشير هذه الآية الكريمة إلي أن الأرض كروية تدور حول نفسها لأن مادة التكوير معناها لف الشيء علي الشيء علي سبيل التتابع, ولو كانت الأرض غير كروية( مسطحة مثلا) لخيم الليل أو طلع النهار علي جميع أجزائها دفعة واحدة
يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل
وذكر صاحب صفوة التفاسير( بارك الله في جهده) خلق السماوات والأرض بالحق) أي خلقهما علي أكمل الوجوه وأبدع الصفات, بالحق الواضح والبرهان الساطع( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل) أي يغشي الليل علي النهار ويغشي النهار علي الليل, وكأنه يلف عليه لف اللباس علي اللابس, قال القرطبي: وتكوير الليل علي النهار تغشيته إياه حتي يذهب ضوءه ويغشي النهار علي الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتاده...
كروية الأرض في المعارف المكتسبة
كان أول من قال بكروية الأرض فلاسفة الحضارة العراقية القديمة المعروفة باسم حضارة مابين النهرين في حدود سنة2000 ق.م وعنهم أخذ فلاسفة اليونان ومنهم فيثاغورس الذي نادي بها في منتصف القرن السادس ق.م مؤكدا أن الشكل الكروي هو أكثر الأشكال الهندسية انتظاما لكمال انتظام جميع أجزاء الكرة, بالنسبة إلي مركزها, وعلي ذلك فإن الأرض وجميع أجرام السماء لابد وأن تكون كروية الشكل.
وبقي هذا الرأي شائعا في الحضارة اليونانية القديمة حتي القرن الرابع ق.م إلي أن عارضه أرسطو فشاع بين الناس الاعتقاد باستواء الارض بلا أدني انحناء.
وفي عهد الخليفتين العباسيين الرشيد والمأمون في القرن الهجري الثاني وأوائل الثالث) نادي عدد من علماء المسلمين ومنهم البيروني وابن سينا والكندي والرازي وغيرهم بكروية الارض التي استدلوا عليها بعدد من الظواهر الطبيعية التي منها مايلي:
(1) استدارة حد ظل الأرض حين يقع علي سطح القمر في أوقات خسوفه
(2) اختلاف ارتفاع النجم القطبي بتغير مكان الراصد له قربا من خط الاستواء او بعدا عنه.
(3) تغير شكل قبة السماء من حيث مواقع النجوم وتوزيعها فيها باقتراب الراصد لها من أحد القطبين.
(4) رؤية الأفق دوما علي هيئة دائرة تامة الاستدارة واتساع دائرته بارتفاع الرائي علي سطح الأرض.
(5) ظهور قمم الجبال البعيدة قبل سفوحها بتحرك الرائي إليها, واختفاء أسافل السفن قبل اعاليها في تحركها بعيدا عن الناظر إليها.
وقام علماء المسلمين في هذا العصر الذهبي بقياس محيط الأرض بدقة فائقة, وبتقدير مسافة درجة الطول في صحراء العراق وعلي طول ساحل البحر الأحمر, وكانوا في ذلك سابقين للحضارة الغربية بتسعة قرون علي الأقل, فقد اعلن الخليفة المأمون لأول مرة في تاريخ العلم أن الأرض كروية ولكنها ليست كاملة الاستدارة.
ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي ليتحدث عن نقص تكور الأرض من منطلق آخر إذ ذكر أن مادة الأرض خاضعة لقوتين متعارضتين: قوة الجاذبية التي تشد مادة الأرض الي مركزها, والقوة الطاردة المركزية الناشئة عن دوران الأرض حول محورها والتي تدفعها إلي الخارج والقوة الأخيرة تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض فتؤدي إلي انبعاجها قليلا بينما تنقص الي أقل قدر لها عند القطبين فيتفلطحان قليلا, ثم جاء تصوير الأرض من الفضاء في أواخر القرن العشرين ليؤكد كلا من كروية الأرض وانبعاجها قليلا عند خط استوائها
كروية الأرض في القرآن الكريم
من الحقائق الثابتة عن الأرض أنها مكورة( كرة أو شبه كرة), ولكن نظرا لضخامة أبعادها فإن الانسان يراها مسطحة بغير أدني انحناء, وهكذا ساد الاعتقاد بين الناس بهذا التصور للأرض إلي زمن الوحي بالقرآن الكريم, وإلي قرون متطاولة من بعد ذلك بل بين العوام إلي يومنا هذا, علي الرغم من وجود عدد من الملاحظات القديمة التي تشير إلي كرويتها.
ولذلك فإن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الحقيقة بطريقة غير مباشرة, وبصياغة ضمنية لطيفة, ولكنها في نفس الوقت بالغة الدقة والشمول والأحكام, وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تكور كل من الليل والنهار علي الآخر, وولوجه فيه وانسلاخه منه, وعن مد الأرض وبسطها, ودحوها وطحوها, وكثرة المشارق والمغارب فيها مع بقاء قمة عظمي ونهايتين لكل منهما, ومن تلك الآيات قوله( تعالي):
(ا) خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار.
(الزمر: آية5)
ومعني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل أي يغشي كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه, وهو وصف واضح الدلالة علي كروية الأرض, وعلي دورانها حول محورها أمام الشمس, وذلك لأن كلا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر, ولو لم تكن الأرض مكورة لما تكور أي منهما, ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار وكلاهما ظرف زمان وليس جسما ماديا يمكن أن يكور, بل يتشكل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه, ولما كان القرآن الكريم يثبت أن الله تعالي يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وهما فترتان زمنيتان تعتريان الأرض, فلابد للأرض من أن تكون مكورة, ولابد لها من الدوران حول محورها أمام الشمس.
ومن هنا كان التعبير القرآني بتكوير كل من الليل والنهار فيه إعلام صادق عن كروية الأرض, وعن دورانها حول محورها أمام الشمس, بأسلوب رقيق لا يفزع العقلية السائدة في ذلك الزمان التي لم تكن مستعدة لقبول تلك الحقيقة, فضلا عن استيعابها, تلك الحقيقة التي أصبحت من البديهيات في زماننا وإن بقي بعض الجهال علي إنكارها إلي يومنا هذا وإلي قيام الساعة, والتكوير يعني جعل الشيء علي هيئة مكورة( هيئة الكرة أو شبه الكرة), إما مباشرة أو عن طريق لف شيء علي شيء آخر في اتجاه دائري شامل( أي في اتجاه كروي), وعلي ذلك فإن من معاني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل أن الله( تعالي) ينشر بالتدريج ظلمة الليل علي مكان النهار من سطح الأرض المكور فيحوله إلي ليل مكور, كما ينشر نور النهار علي مكان ظلمة الليل من سطح الأرض المكور فيحوله نهارا مكورا, وبذلك يتتابع كل من الليل والنهار علي سطح الأرض الكروي بطريقة دورية, مما يؤكد حقيقتي كروية الأرض, ودورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب لا يفزع الأفراد ولا يصدم المجتمعات التي بدأ القرآن الكريم يتنزل في زمانها والتي لم يكن لها حظ من المعرفة بالكون وحقائقه.
(ب) والاشارات القرآنية الضمنية إلي حقيقة كروية الأرض ليست مقصورة علي آية سورة الزمر( الآية الخامسة) وحدها, وذلك لأن الله( تعالي) يؤكد في عدد من آيات القرآن الكريم علي مد الأرض أي علي بسطها بغير حافة تنتهي إليها. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية الشكل, لأن الشكل الوحيد الذي لا نهاية لبسطه هو الشكل الكروي, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
(1) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا.( الرعد:53)
(2) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون
( الحجر:19)
(3) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج.( ق:7)
( جـ) كذلك يؤكد القرآن الكريم كروية الأرض في آيات التطابق( أي تطابق كل من السماوات والأرضين) ولا يكون التطابق بغير انحناء وتكوير, وفي ذلك يقول( ربنا تبارك وتعالي):
الذي خلق سبع سماوات طباقا..( الملك:3) أي متطابقة, يغلف الخارج منها الداخل فيها, ويشير القرآن الكريم الي اتفاق الأرض في ذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن..( الطلاق:12). أي سبع أرضين متطابقة حول مركز واحد يغلف الخارج منها الداخل فيها.
(د) كذلك تشير آيات المشرق والمغرب التي ذكرت بالافراد, والتثنية, والجمع إلي حقيقة كروية الأرض, وإلي دورانها حول محورها أمام الشمس, وإلي اتجاه هذا الدوران, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
(1) قال رب المشرق والمغرب ومابينهما إن كنتم تعقلون( الشعراء:28)
(2) رب المشرقين ورب المغربين
(الرحمن:17)
(3) فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون علي أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين( المعارج:41,40)
فالمشرق هو جهة طلوع الشمس, والمغرب جهة غيابها, ووجود كل من المشرق والمغرب يؤكد كروية الأرض, وتبادلهما يؤكد دورانها حول محورها أمام الشمس من الغرب إلي الشرق, ففي الوقت الذي تشرق فيه الشمس علي جهة ما من الأرض تكون قد غربت في نفس اللحظة عن جهة أخري, ولما كانت الأرض منبعجة قليلا عند خط الاستواء كانت هناك قمة عظمي للشروق وأخري للغروب( رب المشرق والمغرب), ولما كانت الشمس تشرق علي الأرض في الفصول المختلفة من نقاط مختلفة, كما تغرب عنها من نقاط مختلفة( وذلك بسبب ميل محور دوران الأرض بزاوية مقدارها23,5 درجة علي مستوي فلك دورانها حول الشمس), كانت هناك مشارق عديدة, ومغارب عديدة( رب المشارق والمغارب), وكانت هناك نهايتان عظميان لكل من الشروق والغروب( رب المشرقين ورب المغربين), وينتشر بين هاتين النهايتين العظميين نقاط متعددة لكل من الشروق والغروب علي كل من خطوط الطول وخطوط العرض, وعلي مدار السنة, لأن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس يجعل النور المنبثق عن ضوء هذا النجم ينتقل علي سطح الأرض الكروي باستمرار من خط طول إلي آخر محدثا عددا لا نهائيا من المشارق والمغارب المتعاقبة في كل يوم.
ووجود كل من جهتي المشرق والمغرب, والنهايات العظمي لكل منهما, وما بينهما من مشارق ومغارب عديدة, وتتابع تلك المشارق والمغارب علي سطح الأرض يؤكد كرويتها, ودورانها حول محورها أمام الشمس, وميل محور دورانها علي مستوي فلك دورانها, وكل ما ينتج عن ذلك من تعاقب الليل والنهار, وتبادل الفصول المناخية, واختلاف مطالع الشمس ومغاربها علي مدار السنة, وكلها من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعده إلا بصورة بدائية ولنفر محدودين جدا من أبناء الحضارات السابقة التي لم تصل كتاباتهم إلي شبه الجزيرة العربية إلا بعد حركة الترجمة التي بدأت في منتصف القرن الهجري الثاني( أي منتصف القرن الثامن الميلادي) في عهد الدولة العباسية, وورود مثل هذه الحقائق الكونية في ثنايا الآيات القرآنية بهذه الإشارات اللطيفة والدقيقة في نفس الوقت لمما يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, وأن النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, وهي من الحقائق الاعتقادية التي يحتاجها إنسان اليوم الذي توفر له من أسباب التقدم العلمي والتقني ما لم يتوفر لجيل من البشر من قبل, ولكنه في ظل هذا التقدم فقد الصلة بخالقه, ففقد الكثير من القيم الأخلاقية النبيلة والضوابط السلوكية الصحيحة التي تدعو إلي الارتقاء بالانسان إلي مراتب التكريم التي رفعه إليها رب العالمين وتعينه علي إقامة عدل الله في الأرض, بدلا من المظالم العديدة التي تجتاحها في كثير من أجزائها, والخراب والدمار والدماء التي تغرقها, في ظل غلبة أهل الباطل علي أهل الحق, وفقدان هؤلاء الكفار والمشركين لأدني علم بالدين الذي يرتضيه رب العالمين من عباده, ولعل في الاشارة إلي مثل هذا السبق القرآني بالعديد من حقائق الكون ومظاهره ما يمكن أن يمهد الطريق إلي الدعوة لهذا الدين, وتصحيح فهم الآخرين لحقيقته من أجل تحييد هذا الكم الهائل من الكراهية للاسلام والمسلمين والتي غرسها ولا يزال يغرسها شياطين الإنس والجن في قلوب الأبرياء والمساكين من بني البشر فبدأوا بالصراخ بصراع الحضارات ونهاية العالم, وبضرورة اشعال حرب عالمية ثالثة بين الغرب( وهو في قمة من التوحد, والتقدم العلمي, والتقني, والتفوق الاقتصادي والعسكري), والعالم الاسلامي( وهو في أكثر فترات تاريخه فرقة, وتمزقا, وانحسارا ماديا وعلميا وتقنيا وتخلفا عسكريا), من أجل القضاء علي دين الله الحق.. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.( يوسف:21).
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
جاءت هذه الآية الكريمة في مقدمات سورة الزمر, والتي سميت بهذا الاسم لحديثها عن زمر المتقين, السعداء, المكرمين من أهل الجنة, وزمر العصاة, الأشقياء المهانين من أهل النار, وحال كل منهم في يوم الحساب.
و سورة الزمر مكية ـ شأنها شأن كل السور المكية التي يدور محورها الرئيسي حول قضية العقيدة ـ ولذلك فهي تركز علي عقيدة التوحيد الخالص لله, بغير شريك ولا شبيه ولا منازع.
واستهلت السورة بالحديث عن القرآن الكريم الذي أنزله ربنا( تبارك وتعالي) بالحق علي خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم) هداية للناس كافة, وإنذارا من رب العالمين, وجعله معجزة خالدة إلي يوم الدين, وملأه بالأنوار الإلهية, والإشراقات النورانية, التي منها الأمر إلي رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وإلي الناس كافة( بالتبعية لهذا النبي الخاتم والرسول الخاتم) بإخلاص الدين لله, وتنزيهه( جل في علاه) عن الشبيه والشريك والولد...!!!
وذكرت السورة عددا هائلا من الأدلة المادية الملموسة التي تشهد للخالق سبحانه وتعالي بطلاقة القدرة, وببديع الصنعة, وبإحكام الخلق, وبالتالي تشهد له( سبحانه) بالألوهية, والربوبية, والوحدانية, والتنزيه عن كل وصف لا يليق بجلاله, ومن هذه الأدلة المادية: خلق السماوات والأرض بالحق, وخلق كل شيء حسب مايشاء( سبحانه), تكوير الأرض وتبادل الليل والنهار عليها, وتسخير كل من الشمس والقمر( وتسخير كل أجرام السماء), خلق البشر كلهم من نفس واحدة, وخلق زوجها منها( وكذلك الزوجية في كل خلق), إنزال ثمانية أزواج من الأنعام, مراحل الجنين التي يمر بها الإنسان وخلقه في ظلمات ثلاث, إنزال الماء من السماء وخزن بعضه في صخور الأرض, إخراج الزرع ودورة حياته, حتمية الموت علي كل مخلوق, تكافؤ النوم مع الوفاة, وقبض الأرض, وطي السماوات يوم القيامة...!!!
وتحدثت السورة الكريمة كذلك عن الإيمان الذي يرتضيه ربنا( تبارك وتعالي) من عباده, والكفر الذي لا يرضاه, وعن علم الله( تعالي) بكل مافي الصدور, وقدرته( جل جلاله) علي محاسبة كل مخلوق بعمله, وتحدثت السورة عن طبائع النفس البشرية في السراء والضراء, وعن الفروق بين كل من الإيمان والكفر, والكافر والمؤمن في مواقفهما في الدنيا والآخرة, وبين الإغراق في المعاصي والإخلاص في العبادة, وبين كل من التوحيد والشرك, وبين الذين يعلمون والذين لا يعلمون, وعن العديد من مشاهد القيامة وأهوالها...!!!
كما تحدثت السورة الكريمة عن نفختي الصعق والبعث, ومايعقبهما من أحداث مروعة, وعن يوم الحشر حين يساق المتقون إلي الجنة زمرا, ويساق المجرمون إلي جهنم زمرا كذلك, ولكن شتان بين سوق التكريم, وسوق الإهانة والإذلال والتجريم, ويتم ذلك كله في حضرة الأنبياء والشهداء, والملائكة حافين من حول العرش, والوجود كله خاضع لربه, متجه إليه بالحمد والثناء, راج رحمته, مشفق من عذابه, راض بحكمه, حامد لقضائه...!!!
ومن الأدلة المادية المطروحة للاستدلال علي طلاقة القدرة الإلهية علي الخلق, وبالتالي علي الشهادة له( سبحانه) بالألوهية والربوبية قوله( تعالي):
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار.( الزمر:5)
وهي آية جامعة, تحتاج في شرحها إلي مجلدات, ولذا فسوف أقتصر هنا علي الإشارة إلي كروية الأرض وإلي دورانها من قبل ألف وأربعمائة سنة, في زمن ساد فيه الاعتقاد بالاستواء التام للأرض بلا أدني انحناء, وبثباتها, وتمت الإشارة إلي تلك الحقيقة الأرضية بأسلوب لا يفزع العقلية البدوية في زمن تنزل الوحي, فجاء التكوير صفة لكل من الليل والنهار, وكلاهما من الفترات الزمنية التي تعتري الأرض, فإذا تكورا كان في ذلك إشارة ضمنية رقيقة إلي كروية الأرض, وإذا تكور أحدهما علي الآخر كان في ذلك إشارة إلي تبادلهما, وهي إشارة ضمنية رائعة إلي دوران الأرض حول محورها, دون أن تثير بلبلة في زمن لم تكن للمجتمعات الإنسانية بصفة عامة والمجتمعات في جزيرة العرب بصفة خاصة أي حظ من الثقافة العلمية, وسوف نفصل ذلك في السطور القادمة إن شاء الله( تعالي) بعد شرح دلالة الفعل( كور) في اللغة العربية, واستعراض شروح المفسرين لدلالات تلك الآية الكريمة.
الدلالة اللغوية
صورة للأرض من الفضاء
يقال في اللغة العربية كار) الشيء( يكوره)( كورا) و( كرورا), و( يكوره)( تكويرا) أي أداره, وضم بعضه إلي بعض,( ككور) العمامة, أو جعله كالكرة, ويقال طمنه فكوره) إذا ألقاه مجتمعا, كما يقال( اكتار) الفرس إذا أدار ذنبه في عدوه, وقيل للإبل الكثيرة( كور), و( كوارة) النحل معروفة, و( الكور) الرحل, وقيل لكل مصر( كورة) وهي البقعة التي يجتمع فيها قري ومحال عديدة, و( الكرة) التي تضرب بالصولجان, وتجمع علي( كرين) بضم الكاف وكسرها, كما تجمع علي كرات.
وجاء الفعل المضارع( يكور) في القرآن الكريم كله مرتين فقط في الآية الكريمة التي نحن بصددها, وجاء بصيغة المبني للمجهول مرة واحدة في قول الحق( تبارك وتعالي):
إذا الشمس كورت( التكوير:1)
أي جعلت كالكرة بانسحاب ألسنة اللهب المندفعة منها إلي آلاف الكيلو مترات خارجها, إلي داخلها كناية عن بدء انطفاء جذوتها.
شروح المفسرين
في تفسير قوله تعالي:
خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار( الزمر:5)
ذكر ابن كثير( يرحمه الله) مانصه: يخبر تعالي أنه الخالق لما في السماوات والأرض, ومابين ذلك من الأشياء, وبأنه مالك الملك, المتصرف فيه, يقلب ليله ونهاره( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل) أي سخرهما يجريان متعاقبين, ولا يفترقان, كل منهما يطلب الآخر طلبا....
ويضيف: وقوله عز وجل: وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي أي إلي مدة معلومة عند الله تعالي, ثم ينقضي يوم القيامة,( ألا هو العزيز الغفار) أي مع عزته وعظمته وكبريائه, هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه.
وذكر صاحبا تفسير الجلالين( رحمهما الله) مانصه خلق السماوات والأرض بالحق) ولحكمة, لا عبثا باطلا, متعلق بـ خلق.
( يكور) أي يدخل ـ الليل علي النهارـ فيزيد( ويكور النهار) يدخله ـ علي الليل ـ فيزيد.
وجاء في الهامش التعليق التالي من أحد المحققين: قوله تعالي( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل) ما ذكره المؤلف الجلال المحلي في معني التكوير هو معني الإيلاج الوارد في مثل قوله تعالي( يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل), وهذا تفسير غير موافق لمعني اللغة, لأن التكوير والإيلاج ليسا بمعني واحد, وإلا فما معني قوله تعالي( إذا الشمس كورت)؟ قال:في القاموس: التكوير في اللغة طرح الشيء بعضه علي بعض, ومنه كور العمامة, فيكون معني الآية: ان الله تعالي سخر الليل والنهار يتعاقبان, يذهب أحدهما فيعقبه الآخر الي يوم القيامة, وفي الآية إشارة واضحة إلي أن الأرض لاتخلو من ليل في مكان ونهار في آخر, علي مدار الساعة
وذكر صاحب الظلال( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه:
(خلق السماوات والأرض).. وأنزل الكتاب بالحق.. فهو الحق الواحد في ذلك الكون وفي هذا الكتاب.. وكلاهما صادر من مصدر واحد, وكلاهما آية علي وحدة المبدع العزيز الحكيم,( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل).. وهو تعبير عجيب يقسرالناظر فيه قسرا علي الالتفات الي ما كشف حديثا عن كروية الأرض, ومع أنني في هذه الظلال حريص علي ألا أحمل القرآن علي النظريات التي يكشفها الإنسان, لأنها نظريات تخطيء وتصيب, وتثبت اليوم وتبطل غدا, والقرآن حق ثابت يحمل آية صدقه في ذاته, ولا يستمدها من موافقة أو مخالفة لما يكشفه البشر الضعاف المهازيل!
مع هذا الحرص فإن هذا التعبير يقسرني قسرا علي النظر في موضوع كروية الأرض, فهو يصور حقيقة مادية ملحوظة علي وجه الأرض, فالأرض الكروية تدور حول نفسها في مواجهة الشمس, فالجزء الذي يواجه الشمس من سطحها المكور يغمره الضوء ويكون نهارا, ولكن هذا الجزء لايثبت لأن الأرض تدور, وكلما تحركت بدأ الليل يغمر السطح الذي كان عليه النهار, وهذا السطح مكور, فالنهار كان عليه مكورا, والليل يتبعه مكورا كذلك, وبعد فترة يبدأ النهار من الناحية الأخري يتكور علي الليل, وهكذا في حركة دائبة( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل).. واللفظ يرسم الشكل, ويحدد الوضع, ويعين نوع طبيعة الأرض وحركتها, وكروية الأرض ودورانها يفسران هذا التعبير تفسيرا أدق من أي تفسير آخر..
وذكر صاحب صفوة البيان( رحمه الله رحمة واسعة) ما نصه يكور الليل علي النهار) تكوير الشيء إدارته, وضم بعضه إلي بعض ككور العمامة, أي أن هذا يكر علي هذا, وهذا يكر علي هذا كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة بعضها علي إثر بعض, إلا أن أكوار العمامة مجتمعة, وفيما نحن فيه متعاورة.. وقيل المعني: يزيد الليل علي النهار ويضمه إليه, بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا, فيطول النهار عن الليل, ويزيد النهار عن الليل ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل عن النهار, وهو كقوله تعالي يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)
وذكر أصحاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم( جزاهم الله خيرا) مانصه: خلق السماوات والأرض متلبسا بالحق والصواب علي ناموس ثابت, يلف الليل علي النهار ويلف النهار علي الليل علي صورة الكرة, وذلل الشمس والقمر لإرادته ومصلحة عباده, كل منهما يسير في فلكه إلي وقت محدد عنده.. وهو يوم القيامة, ألا هو ـ دون غيره ـ الغالب علي كل شيء, فلا يخرج شيء عن إرادته, الذي بلغ الغاية في الصفح عن المذنبين من عباده وجاء في الهامش هذا التعليق: تشير هذه الآية الكريمة إلي أن الأرض كروية تدور حول نفسها لأن مادة التكوير معناها لف الشيء علي الشيء علي سبيل التتابع, ولو كانت الأرض غير كروية( مسطحة مثلا) لخيم الليل أو طلع النهار علي جميع أجزائها دفعة واحدة
يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل
وذكر صاحب صفوة التفاسير( بارك الله في جهده) خلق السماوات والأرض بالحق) أي خلقهما علي أكمل الوجوه وأبدع الصفات, بالحق الواضح والبرهان الساطع( يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل) أي يغشي الليل علي النهار ويغشي النهار علي الليل, وكأنه يلف عليه لف اللباس علي اللابس, قال القرطبي: وتكوير الليل علي النهار تغشيته إياه حتي يذهب ضوءه ويغشي النهار علي الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتاده...
كروية الأرض في المعارف المكتسبة
كان أول من قال بكروية الأرض فلاسفة الحضارة العراقية القديمة المعروفة باسم حضارة مابين النهرين في حدود سنة2000 ق.م وعنهم أخذ فلاسفة اليونان ومنهم فيثاغورس الذي نادي بها في منتصف القرن السادس ق.م مؤكدا أن الشكل الكروي هو أكثر الأشكال الهندسية انتظاما لكمال انتظام جميع أجزاء الكرة, بالنسبة إلي مركزها, وعلي ذلك فإن الأرض وجميع أجرام السماء لابد وأن تكون كروية الشكل.
وبقي هذا الرأي شائعا في الحضارة اليونانية القديمة حتي القرن الرابع ق.م إلي أن عارضه أرسطو فشاع بين الناس الاعتقاد باستواء الارض بلا أدني انحناء.
وفي عهد الخليفتين العباسيين الرشيد والمأمون في القرن الهجري الثاني وأوائل الثالث) نادي عدد من علماء المسلمين ومنهم البيروني وابن سينا والكندي والرازي وغيرهم بكروية الارض التي استدلوا عليها بعدد من الظواهر الطبيعية التي منها مايلي:
(1) استدارة حد ظل الأرض حين يقع علي سطح القمر في أوقات خسوفه
(2) اختلاف ارتفاع النجم القطبي بتغير مكان الراصد له قربا من خط الاستواء او بعدا عنه.
(3) تغير شكل قبة السماء من حيث مواقع النجوم وتوزيعها فيها باقتراب الراصد لها من أحد القطبين.
(4) رؤية الأفق دوما علي هيئة دائرة تامة الاستدارة واتساع دائرته بارتفاع الرائي علي سطح الأرض.
(5) ظهور قمم الجبال البعيدة قبل سفوحها بتحرك الرائي إليها, واختفاء أسافل السفن قبل اعاليها في تحركها بعيدا عن الناظر إليها.
وقام علماء المسلمين في هذا العصر الذهبي بقياس محيط الأرض بدقة فائقة, وبتقدير مسافة درجة الطول في صحراء العراق وعلي طول ساحل البحر الأحمر, وكانوا في ذلك سابقين للحضارة الغربية بتسعة قرون علي الأقل, فقد اعلن الخليفة المأمون لأول مرة في تاريخ العلم أن الأرض كروية ولكنها ليست كاملة الاستدارة.
ثم جاء نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي ليتحدث عن نقص تكور الأرض من منطلق آخر إذ ذكر أن مادة الأرض خاضعة لقوتين متعارضتين: قوة الجاذبية التي تشد مادة الأرض الي مركزها, والقوة الطاردة المركزية الناشئة عن دوران الأرض حول محورها والتي تدفعها إلي الخارج والقوة الأخيرة تبلغ ذروتها عند خط استواء الأرض فتؤدي إلي انبعاجها قليلا بينما تنقص الي أقل قدر لها عند القطبين فيتفلطحان قليلا, ثم جاء تصوير الأرض من الفضاء في أواخر القرن العشرين ليؤكد كلا من كروية الأرض وانبعاجها قليلا عند خط استوائها
كروية الأرض في القرآن الكريم
من الحقائق الثابتة عن الأرض أنها مكورة( كرة أو شبه كرة), ولكن نظرا لضخامة أبعادها فإن الانسان يراها مسطحة بغير أدني انحناء, وهكذا ساد الاعتقاد بين الناس بهذا التصور للأرض إلي زمن الوحي بالقرآن الكريم, وإلي قرون متطاولة من بعد ذلك بل بين العوام إلي يومنا هذا, علي الرغم من وجود عدد من الملاحظات القديمة التي تشير إلي كرويتها.
ولذلك فإن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الحقيقة بطريقة غير مباشرة, وبصياغة ضمنية لطيفة, ولكنها في نفس الوقت بالغة الدقة والشمول والأحكام, وجاء ذلك في عدد من آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن تكور كل من الليل والنهار علي الآخر, وولوجه فيه وانسلاخه منه, وعن مد الأرض وبسطها, ودحوها وطحوها, وكثرة المشارق والمغارب فيها مع بقاء قمة عظمي ونهايتين لكل منهما, ومن تلك الآيات قوله( تعالي):
(ا) خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار.
(الزمر: آية5)
ومعني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل أي يغشي كل واحد منهما الآخر كأنه يلفه عليه, وهو وصف واضح الدلالة علي كروية الأرض, وعلي دورانها حول محورها أمام الشمس, وذلك لأن كلا من الليل والنهار عبارة عن فترة زمنية تعتري نصف الأرض في تبادل مستمر, ولو لم تكن الأرض مكورة لما تكور أي منهما, ولو لم تكن الأرض تدور حول محورها أمام الشمس ما تبادل الليل والنهار وكلاهما ظرف زمان وليس جسما ماديا يمكن أن يكور, بل يتشكل بشكل نصف الأرض الذي يعتريه, ولما كان القرآن الكريم يثبت أن الله تعالي يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل وهما فترتان زمنيتان تعتريان الأرض, فلابد للأرض من أن تكون مكورة, ولابد لها من الدوران حول محورها أمام الشمس.
ومن هنا كان التعبير القرآني بتكوير كل من الليل والنهار فيه إعلام صادق عن كروية الأرض, وعن دورانها حول محورها أمام الشمس, بأسلوب رقيق لا يفزع العقلية السائدة في ذلك الزمان التي لم تكن مستعدة لقبول تلك الحقيقة, فضلا عن استيعابها, تلك الحقيقة التي أصبحت من البديهيات في زماننا وإن بقي بعض الجهال علي إنكارها إلي يومنا هذا وإلي قيام الساعة, والتكوير يعني جعل الشيء علي هيئة مكورة( هيئة الكرة أو شبه الكرة), إما مباشرة أو عن طريق لف شيء علي شيء آخر في اتجاه دائري شامل( أي في اتجاه كروي), وعلي ذلك فإن من معاني يكور الليل علي النهار ويكور النهار علي الليل أن الله( تعالي) ينشر بالتدريج ظلمة الليل علي مكان النهار من سطح الأرض المكور فيحوله إلي ليل مكور, كما ينشر نور النهار علي مكان ظلمة الليل من سطح الأرض المكور فيحوله نهارا مكورا, وبذلك يتتابع كل من الليل والنهار علي سطح الأرض الكروي بطريقة دورية, مما يؤكد حقيقتي كروية الأرض, ودورانها حول محورها أمام الشمس بأسلوب لا يفزع الأفراد ولا يصدم المجتمعات التي بدأ القرآن الكريم يتنزل في زمانها والتي لم يكن لها حظ من المعرفة بالكون وحقائقه.
(ب) والاشارات القرآنية الضمنية إلي حقيقة كروية الأرض ليست مقصورة علي آية سورة الزمر( الآية الخامسة) وحدها, وذلك لأن الله( تعالي) يؤكد في عدد من آيات القرآن الكريم علي مد الأرض أي علي بسطها بغير حافة تنتهي إليها. وهذا لا يمكن أن يحدث إلا إذا كانت الأرض كروية الشكل, لأن الشكل الوحيد الذي لا نهاية لبسطه هو الشكل الكروي, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
(1) وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا.( الرعد:53)
(2) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون
( الحجر:19)
(3) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج.( ق:7)
( جـ) كذلك يؤكد القرآن الكريم كروية الأرض في آيات التطابق( أي تطابق كل من السماوات والأرضين) ولا يكون التطابق بغير انحناء وتكوير, وفي ذلك يقول( ربنا تبارك وتعالي):
الذي خلق سبع سماوات طباقا..( الملك:3) أي متطابقة, يغلف الخارج منها الداخل فيها, ويشير القرآن الكريم الي اتفاق الأرض في ذلك بقول الحق( تبارك وتعالي): الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن..( الطلاق:12). أي سبع أرضين متطابقة حول مركز واحد يغلف الخارج منها الداخل فيها.
(د) كذلك تشير آيات المشرق والمغرب التي ذكرت بالافراد, والتثنية, والجمع إلي حقيقة كروية الأرض, وإلي دورانها حول محورها أمام الشمس, وإلي اتجاه هذا الدوران, وفي ذلك يقول الحق( تبارك وتعالي):
(1) قال رب المشرق والمغرب ومابينهما إن كنتم تعقلون( الشعراء:28)
(2) رب المشرقين ورب المغربين
(الرحمن:17)
(3) فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون علي أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين( المعارج:41,40)
فالمشرق هو جهة طلوع الشمس, والمغرب جهة غيابها, ووجود كل من المشرق والمغرب يؤكد كروية الأرض, وتبادلهما يؤكد دورانها حول محورها أمام الشمس من الغرب إلي الشرق, ففي الوقت الذي تشرق فيه الشمس علي جهة ما من الأرض تكون قد غربت في نفس اللحظة عن جهة أخري, ولما كانت الأرض منبعجة قليلا عند خط الاستواء كانت هناك قمة عظمي للشروق وأخري للغروب( رب المشرق والمغرب), ولما كانت الشمس تشرق علي الأرض في الفصول المختلفة من نقاط مختلفة, كما تغرب عنها من نقاط مختلفة( وذلك بسبب ميل محور دوران الأرض بزاوية مقدارها23,5 درجة علي مستوي فلك دورانها حول الشمس), كانت هناك مشارق عديدة, ومغارب عديدة( رب المشارق والمغارب), وكانت هناك نهايتان عظميان لكل من الشروق والغروب( رب المشرقين ورب المغربين), وينتشر بين هاتين النهايتين العظميين نقاط متعددة لكل من الشروق والغروب علي كل من خطوط الطول وخطوط العرض, وعلي مدار السنة, لأن دوران الأرض حول محورها أمام الشمس يجعل النور المنبثق عن ضوء هذا النجم ينتقل علي سطح الأرض الكروي باستمرار من خط طول إلي آخر محدثا عددا لا نهائيا من المشارق والمغارب المتعاقبة في كل يوم.
ووجود كل من جهتي المشرق والمغرب, والنهايات العظمي لكل منهما, وما بينهما من مشارق ومغارب عديدة, وتتابع تلك المشارق والمغارب علي سطح الأرض يؤكد كرويتها, ودورانها حول محورها أمام الشمس, وميل محور دورانها علي مستوي فلك دورانها, وكل ما ينتج عن ذلك من تعاقب الليل والنهار, وتبادل الفصول المناخية, واختلاف مطالع الشمس ومغاربها علي مدار السنة, وكلها من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة وقت تنزل القرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعده إلا بصورة بدائية ولنفر محدودين جدا من أبناء الحضارات السابقة التي لم تصل كتاباتهم إلي شبه الجزيرة العربية إلا بعد حركة الترجمة التي بدأت في منتصف القرن الهجري الثاني( أي منتصف القرن الثامن الميلادي) في عهد الدولة العباسية, وورود مثل هذه الحقائق الكونية في ثنايا الآيات القرآنية بهذه الإشارات اللطيفة والدقيقة في نفس الوقت لمما يؤكد أن القرآن الكريم هو كلام الله الخالق, وأن النبي والرسول الخاتم الذي تلقاه كان موصولا بالوحي ومعلما من قبل خالق السماوات والأرض, وهي من الحقائق الاعتقادية التي يحتاجها إنسان اليوم الذي توفر له من أسباب التقدم العلمي والتقني ما لم يتوفر لجيل من البشر من قبل, ولكنه في ظل هذا التقدم فقد الصلة بخالقه, ففقد الكثير من القيم الأخلاقية النبيلة والضوابط السلوكية الصحيحة التي تدعو إلي الارتقاء بالانسان إلي مراتب التكريم التي رفعه إليها رب العالمين وتعينه علي إقامة عدل الله في الأرض, بدلا من المظالم العديدة التي تجتاحها في كثير من أجزائها, والخراب والدمار والدماء التي تغرقها, في ظل غلبة أهل الباطل علي أهل الحق, وفقدان هؤلاء الكفار والمشركين لأدني علم بالدين الذي يرتضيه رب العالمين من عباده, ولعل في الاشارة إلي مثل هذا السبق القرآني بالعديد من حقائق الكون ومظاهره ما يمكن أن يمهد الطريق إلي الدعوة لهذا الدين, وتصحيح فهم الآخرين لحقيقته من أجل تحييد هذا الكم الهائل من الكراهية للاسلام والمسلمين والتي غرسها ولا يزال يغرسها شياطين الإنس والجن في قلوب الأبرياء والمساكين من بني البشر فبدأوا بالصراخ بصراع الحضارات ونهاية العالم, وبضرورة اشعال حرب عالمية ثالثة بين الغرب( وهو في قمة من التوحد, والتقدم العلمي, والتقني, والتفوق الاقتصادي والعسكري), والعالم الاسلامي( وهو في أكثر فترات تاريخه فرقة, وتمزقا, وانحسارا ماديا وعلميا وتقنيا وتخلفا عسكريا), من أجل القضاء علي دين الله الحق.. والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.( يوسف:21).