الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
الثلث الأول من القرن العشرين لاحظ الفلكيون عملية توسع الكون التي دار من حولها جدل طويل حتي سلم العلماء بحقيقتها, وقد سبق القرآن الكريم بالإشارة الي تلك الحقيقة قبل ألف وأربعمائة سنة بقول الحق( تبارك وتعالي):
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47)
وكانت هذه الآية الكريمة قد نزلت والعالم كله ينادي بثبات الكون, وعدم تغيره, وظل هذا الاعتقاد سائدا حتي منتصف القرن العشرين حين أثبتت الأرصاد الفلكية حقيقة توسع الكون, وتباعد مجراته عنا, وعن بعضها البعض بمعدلات تقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بنحو ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية), وقد أيدت كل من المعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء النظرية استنتاجات الفلكيين في ذلك.
وانطلاقا من هذه الملاحظة الصحيحة نادي كل من علماء الفلك, والفيزياء الفلكية والنظرية بأننا إذا عدنا بهذا الاتساع الكوني الي الوراء مع الزمن فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة الموجودة في الكون( المدرك منها وغير المدرك) وتتكدس علي بعضها البعض في جرم ابتدائي واحد يتناهي في الصغر الي ما يقرب الصفر أو العدم, وتنكمش في هذه النقطة أبعاد كل من المكان والزمان حتي تتلاشي( مرحلة الرتق).
وهذا الجرم الابتدائي كان في حالة من الكثافة والحرارة تتوقف عندهما كل القوانين الفيزيائية المعروفة, ومن ثم فإن العقل البشري لا يكاد يتصورهما, فانفجر هذا الجرم الأولي بأمر الله( تعالي) في ظاهرة يسميها العلماء عملية الانفجار الكوني العظيم
ويسميها القرآن الكريم باسم الفتق فقد سبق القرآن الكريم كل المعارف الانسانية بالاشارة الي ذلك الحدث الكوني العظيم من قبل ألف وأربعمائة من السنين بقول الحق( تبارك وتعالي):
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون
(الأنبياء:30)
وتشير دراسات الفيزياء النظرية في أواخر القرن العشرين الي أن جرما بمواصفات الجرم الابتدائي للكون عندما ينفجر يتحول الي غلالة من الدخان الذي تخلقت منه الأرض وكل أجرام السماء,وقد سبق القرآن الكريم بألف وأربعمائة سنة كل المعارف الانسانية وذلك بإشارته الي مرحلة الدخان في قول الحق( تبارك وتعالي):
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين* فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحي في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم( فصلت:9 ــ12)
وفي8 نوفمبر سنة1989 م أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية
مركبة فضائية باسم مكتشف الخلفية الاشعاعية للكون
وذلك في مدار علي ارتفاع ستمائة كيلومتر حول الأرض بعيدا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض, وقد قام هذا القمر الصنعي بإرسال ملايين الصور والمعلومات الي الأرض عن آثار الدخان الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون من علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية, وهي حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق الأرض والسماوات, فسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأبعمائة سنة قوله الحق:
ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11).
دخانية السماء بعد الانفجار الكوني العظيم( أي بعد فتق الرتق):
بعد التسليم بحقيقة توسع الكون, وبرد ذلك التوسع الي الوراء مع الزمن حتي الوصول الي جرم ابتدائي واحد متناه في الضآلة حجما الي الصفر أو ما يقرب من العدم, ومتناه في الكثافة والحرارة الي حد لا يكاد العقل الانساني أن يتخيله, لتوقف كل قوانين الفيزياء المعروفة عنده( مرحلة الرتق), وبعد التسليم بانفجار هذا الجرم الابتدائي( مرحلة الفتق) في ظاهرة كونية يسميها العلماء الانفجار الكوني الكبير بدأ كل من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية في تحليل مسار الأحداث الكونية بعد هذا الحدث الكوني الرهيب.
ومع إيماننا بان تلك الأحداث الموغلة في تاريخ الكون تقع في صميم الغيب الذي أخبر ربنا( تبارك وتعالي) عنه بقوله( عز من قائل):
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51)
إلا أن السنن التي فطر الله( تعالي) الكون عليها لها من الاطراد, والاستمرار, والثبات, ما يمكن أن يعين الانسان علي الوصول الي شيء من التصور الصحيح لتلك الأحداث الغيبية الموغلة في أبعاد التاريخ الكوني علي الرغم من حس الانسان المحدود, وقدرات عقله المحدودة, ومحدودية كل من زمانه ومكانه.
كذلك فان التقنيات المتطورة من مثل الصواريخ العابرة لمسافات كبيرة في السماء, والأقمار الصنعية التي تطلقها تلك الصواريخ, والأجهزة القياسية والتسجيلية الدقيقة التي تحملها قد ساعدت علي الوصول الي تصوير الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم, والذي وجدت بقايا أثرية له علي أطراف الجزء المدرك من الكون, وعلي أبعاد تصل الي عشرة مليارات من السنين الضوئية لتثبت دقة التعبير القرآني بلفظة دخان التي وصف بها حالة الكون قبل خلق السماوات والأرض.
الفيزياء الفلكية ودخانية الكون:
بعد الانفجار العظيم تحول الكون الى غلالة من الدخان الذى خلقت من الارض والسماوات
تشير الحسابات الفيزيائية الي أن حجم الكون قبل الانفجار العظيم كاد يقترب من الصفر, وكان في حالة غريبة من تكدس كل من المادة والطاقة, وتلاشي كل من المكان والزمان, تتوقف عندها كل قوانين الفيزياء المعروفة( مرحلة الرتق), ثم انفجر هذا الجرم الابتدائي الأولي في ظاهرة كبري تعرف بظاهرة الانفجار الكوني العظيم مرحلة الفتق وبانفجاره تحول الي كرة من الإشعاع والجسيمات الأولية أخذت في التمدد والتبرد بسرعات فائقة حتي تحولت الي غلالة من الدخان.
فبعد ثانية واحدة من واقعة الانفجار العظيم تقدر الحسابات الفيزيائية انخفاض درجة حرارة الكون من تريليونات الدرجات المطلقة الي عشرة بلايين من الدرجات المطلقة[ ستيفن و. هوكنج1988 م
وعندها تحول الكون الي غلالة من الدخان المكون من الفوتونات
والإلكترونات
والنيوترينوات
واضداد هذه الجسيمات
مع قليل من البروتونات
والنيوترونات
ولولا استمرار الكون في التوسع والتبرد بمعدلات منضبطة بدقة فائقة لأفنت الجسيمات الأولية للمادة وأضدادها بعضها بعضا, وانتهي الكون, ولكنه حفظ بحفظ الله الذي أتقن كل شيء خلقه. والنيوترونات
يمكن أن توجد في الكون علي هيئة ما يسمي باسم المادة الداكنة
وينادي آلان جوث
بأن التمدد عند بدء الانفجار العظيم كان بمعدلات فائقة التصور أدت الي زيادة قطر الكون بمعدل2910 مرة في جزء من الثانية
, وتشير حسابات الفيزياء النظرية الي الاستمرار في انخفاض درجة حرارة الكون الي بليون( ألف مليون) درجة مطلقة بعد ذلك بقليل, وعند تلك الدرجة اتحدت البروتونات
والنيوترونات
لتكوين نوي ذرات الإيدروجين الثقيل أو الديوتريوم
التي تحللت الي الإيدروجين أو اتحدت مع مزيد من البروتونات والنيوترونات لتكون نوي ذرات الهيليوم(HeliumNuclei)
والقليل من نوي ذرات عناصر أعلي مثل نوي ذرات الليثيوم
ونوي ذرات البريليوم
, ولكن بقيت النسبة الغالبة لنوي ذرات غازي الأيدروجين والهيليوم, وتشير الحسابات النظرية الي أنه بعد ذلك بقليل توقف انتاج كل من الهيليوم والعناصر التالية له, واستمر الكون في الاتساع والتمدد والتبرد لفترة زمنية طويلة, ومع التبرد انخفضت درجة حرارة الكون الي آلاف قليلة من الدرجات المطلقة حين بدأت ذرات العناصر في التكون والتجمع وبدأ الدخان الكوني في التكدس علي هيئة أعداد من السدم الكونية الهائلة.
ومع استمرار عملية الاتساع والتبرد في الكون بدأت أجزاء من تلك السدم في التكثف علي ذاتها بفعل الجاذبية وبالدوران حول نفسها بسرعات متزايدة بالتدريج حتي تخلقت بداخلها كتل من الغازات المتكثفة, ومع استمرار دوران تلك الكتل الكثيفة في داخل السدم بدأت كميات من غازي الإيدروجين والهيليوم الموجودة بداخلها في التكدس علي ذاتها بمعدلات أكبر, مما أدي الي مزيد من الارتفاع في درجات حرارتها حتي وصلت الي الدرجات اللازمة لبدء عملية الاندماج النووي فتكونت النجوم المنتجة للضوء والحرارة.
وفي النجوم الكبيرة الكتلة استمرت عملية الاندماج النووي لتخليق العناصر الأعلي في وزنها الذري بالتدريج مثل الكربون والأوكسيجين وما يليهما حتي يتحول لب النجم بالكامل الي الحديد فينفجر هذا النجم المستعر(Nova) علي هيئة فوق المستعر
وتتناثر أشلاء فوق المستعرات
وما بها من عناصر ثقيلة في داخل المجرة لتتكون منها الكواكب والكويكبات, بينما يبقي منها في غازات المجرة ما يمكن أن يدخل في بناء نجم آخر بإذن الله.
وتحتوي شمسنا علي نحو2% من كتلتها من العناصر الأثقل في أوزانها الذرية من غازي الايدروجين والهيليوم, وهما المكونان الأساسيان لها, وهذه العناصر الثقيلة لم تتكون كلها بالقطع في داخل الشمس بل جاءت إليها من بقايا انفجار بعض من فوق المستعرات.
وعلي الرغم من تكدس كل من المادة والطاقة في أجرام السماء( مثل النجوم وتوابعها) فان الكون المدرك يبدو لنا متجانسا علي نطاق واسع, في كل الاتجاهات, وتحده خلفية إشعاعية متساوية حيثما نظر الراصد.
كذلك فان توسع الكون لم يتجاوز بعد الحد الحرج الذي يمكن أن يؤدي الي انهياره علي ذاته,وتكدسه من جديد, مما يؤكد أنه محكوم بضوابط بالغة الدقة والاحكام, ولا يزال الكون المدرك مستمرا في توسعه بعد أكثر من عشرة مليارات من السنين( هي العمر الأدني المقدر للكون) وذلك بنفس معدل التوسع الحرج, ولو تجاوزه بجزء من مئات البلايين من المعدل الحالي للتوسع لانهار الكون علي الفور, فسبحان الذي حفظه من الانهيار..!! والنظرية النسبية لا يمكنها تفسير ذلك لأن كل القوانين الفيزيائية, وكل الأبعاد المكانية والزمانية تنهار عند الجرم الابتدائي للكون قبل انفجاره( مرحلة الرتق) بكتلته, وكثافته وحرارته الفائقة, وانعدام حجمه الي ما يقرب من الصفر, ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لخلق هذا الكون بهذا القدر من الاحكام غير كونه أمرا من الخالق( سبحانه وتعالي) الذي إنما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون( يس:82)
فعلي سبيل المثال لا الحصر يذكر علماء الفيزياء أنه إذا تغيرت الشحنة الكهربائية للإليكترون قليلا, مااستطاعت النجوم القيام بعملية الاندماج النووي, ولعجزت عن الانفجار علي هيئة ما يسمي بفوق المستعر
إذا تمكنت فرضا من القيام بعملية الاندماج النووي.
والمعدل المتوسط لعملية إتساع الكون لابد وأنه قد اختير بحكمة بالغة لأن معدله الحالي لا يزال قريبا من الحد الحرج اللازم لمنع الكون من الانهيار علي ذاته.
ويقرر علماء الفيزياء النظرية والفلكية أن الدخان الكوني كان خليطا من الغازات الحارة المعتمة التي تتخللها بعض الجسيمات الأولية للمادة وأضداد المادة
حتي تشهد هذه الصورة من صور الزوجية السائدة في الكون لله وحده بالتفرد بالوحدانية فوق كافة خلقه, ولا توجد كلمة توفي هذه الحالة حقها من الوصف مثل كلمة دخان فسبحان الذي أنزلها في كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين.
وقد تكونت من تلك الجسيمات الأولية للمادة في الدخان الكوني الأولي نوي ذرات غازي الإيدروجين والهيليوم, وبعد ذلك وصلت الي الحد الذي يسمح بتكوين ذرات ثابتة لعناصر أكبر وزنا وذلك باتحاد نوي ذرات الإيدروجين والهيليوم. وظل هذا الدخان المعتم سائدا ومحتويا علي ذرات العناصر التي خلق منها بعد ذلك كل من الأرض والسماء.
وتفيد الدراسات النظرية أن الكون في حالته الدخانية كان يتميز بقدر من التجانس مع تفاوت بسيط في كل من الكثافة ودرجات الحرارة بين منطقة وأخري, وذلك نظرا لبدء تحول أجزاء من ذلك الدخان بتقدير من الله( تعالي) الي مناطق تتركز فيها كميات كبيرة من كل من المادة والطاقة علي هيئة السدم. ولما كانت الجاذبية في تلك المناطق تتناسب تناسبا طرديا مع كم المادة والطاقة المتمركزة فيها, فقد أدي ذلك إلي مزيد من تكدس المادة والطاقة والذي بواسطته بدأ تخلق النجوم وبقية أجرام السماء في داخل تلك السدم, وتكونت النجوم في مراحلها الأولي من العناصر الخفيفة مثل الإيدروجين والهيليوم, والتي أخذت في التحول الي العناصر الأعلي وزنا بالتدريج مع بدءعملية الاندماج النووي في داخل تلك النجوم حسب كتلة كل منها.
تصوير الدخان الكوني
في الثامن من نوفمبر سنة1989 م أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية مركبة باسم مكتشف الخلفية الاشعاعية للكون
ارتفعت الي مدار حول الأرض يبلغ ارتفاعه ستمائة كيلومتر فوق مستوي سطح البحر, وذلك لقياس درجة حرارة الخلفية الاشعاعية للكون, وقياس كل من الكثافة المادية والضوئية والموجات الدقيقة
في الكون المدرك, بعيدا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض, وقام هذا القمر الصنعي المستكشف بارسال قدر هائل من المعلومات وملايين الصور لآثار الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون, من علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية, وأثبتت تلك الصور أن هذا الدخان الكوني في حالة معتمة تماما تمثل حالة الاظلام التي سادت الكون في مراحله الأولي.
ويقدر العلماء كتلة هذا الدخان المعتم بحوالي90% من كتلة المادة في الكون المنظور, وكتب جورج سموت
أحد المسئولين عن رحلة المستكشف
تقريرا نشره سنة1992 م بالنتائج المستقاة من هذا العدد الهائل من الصور الكونية كان من أهمها الحالة الدخانية المتجانسة التي سادت الوجود عقب الانفجار الكوني العظيم, وكذلك درجة الحرارة المتبقية علي هيئة خلفية اشعاعية أكدت حدوث ذلك الانفجار الكبير, وكان في تلك الكشوف أبلغ الرد علي النظريات الخاطئة التي حاولت ــ من منطلقات الكفر والالحاد ــ تجاوز الخلق, والجحود بالخالق( سبحانه وتعالي) فنادت كذبا بديمومة الكون بلا بداية ولا نهاية من مثل نظرية الكون المستمر
التي سبق أن أعلنها ودافع عنها كل من هيرمان بوندي
وفريد هويل في سنة1949 م, ونظرية الكون المتذبذب
التي نادي بها ريتشارد تولمان
من قبل.. فقد كان في اثبات وجود الدخان الكوني والخلفية الإشعاعية للكون بعد إثبات توسع الكون ما يجزم بأن كوننا مخلوق له بداية ولابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية, وقد أكدت الصور التي بثتها مركبة المستكشف للخلفية الاشعاعية والتي نشرت في ابريل سنة1992 م كل تلك الحقائق.
انتشار مختلف صور الطاقة بالكون
تكوين نوى المجرات من الدخان الكونى
كان الجرم الابتدائي للكون مفعما بالمادة والطاقة المكدسة تكديسا رهيبا يكاد ينعدم فيه الحجم الي الصفر, وتتلاشي فيه كل أبعاد المكان والزمان, وتتوقف كل قوانين الفيزياء المعروفة لنا كما سبق وأن أشرنا( مرحلة الرتق), وبعد انفجار هذا الجرم الأولي وبدء الكون في التوسع, تمدد الاشعاع وظل الكون مليئا دوما بالطاقة الكهرمغناطيسية, علي أنه كلما تمدد الكون قل تركيز الطاقة فيه, ونقصت كثافته, وانخفضت درجة حرارته.
وأول صورة من صور الطاقة في الكون هي قوة الجاذبية
وهي قوي كونية بمعني أن كل جسم في الكون يخضع لقوي الجاذبية حسب كتلته أو كمية الطاقة فيه, وهي قوي جاذبة تعمل عبر مسافات طويلة, وتحفظ للجزء المدرك من الكون بناءه وأبعاده ولعلها هي المقصودة بقول الحق( تبارك وتعالي):
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها...( الرعد:2)
وقولة( عز من قائل):
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض, والفلك تجري في البحر بأمره, ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم( الحج:65).
وقوله( سبحانه وتعالي):
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون( الروم:25).
وقوله( تبارك اسمه):
خلق السماوات بغير عمد ترونها...( لقمان:10).
وقوله( تعالي):
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا( فاطر:41).
ويقسم ربنا( تبارك وتعالي) وهو الغني عن القسم في مطلع سورة الطور بـ السقف المرفوع وهذا القسم القرآني جاء بالسماء المرفوعة بغير عمد مرئية..!!
والصورة الثانية من صور الطاقة المنتشرة في الكون هي القوي الكهربائية/المغناطيسية( أو الكهرومغناطيسية
وهي قوي تعمل بين الجسيمات المشحونة بالكهرباء, وهي أقوي من الجاذبية بملايين المرات( بحوالي4110 مرة), وتتمثل في قوي التجاذب بين الجسيمات التي تحمل شحنات كهربية مختلفة( موجبة وسالبة), كما تتمثل في قوي التنافر بين الجسيمات الحاملة لشحنات كهربية متشابهة, وتكاد هذه القوي من التجاذب والتنافر يلغي بعضها بعضا, وعلي ذلك فان حاصل القوي الكهرومغناطيسية في الكون يكاد يكون صفرا, ولكن علي مستوي الجزيئات والذرات المكونة للمادة تبقي هي القوي السائدة.
والقوي الكهرومغناطيسية هي التي تضطر الاليكترونات
في ذرات العناصر الي الدوران حول النواة بنفس الصورة التي تجبر فيها قوي الجاذبية الأرض( وغيرها من كواكب المجموعة الشمسية) الي الدوران حول الشمس, وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي وحدة البناء في الكون من أدق دقائقه الي أكبر وحداته, وهو ما يشهد للخالق( سبحانه وتعالي) بالوحدانية المطلقة بغير شريك ولا شبيه ولا منازع.
ويصور الفيزيائيون القوي الكهرومغناطيسية علي أنها تنتج من تبادل أعداد كبيرة من جسيمات تكاد تكون معدومة الوزن تسمي بالفوتونات
والقوي الثالثة في الكون هي القوي النووية القوية
وهي القوي التي تمسك باللبنات الأولية للمادة في داخل كل من البروتونات
والنيوترونات
في نواة الذرة, وهذه القوي تصل الي أقصي قدرتها في المستويات العادية من الطاقة, ولكنها تضعف مع ارتفاع مستويات الطاقة باستمرار.
والقوة الرابعة في الكون هي القوي النووية الضعيفة
وهي القوي المسئولة عن عملية النشاط الإشعاعي
وفي الوقت الذي تضعف فيه القوي النووية القوية في المستويات العليا للطاقة, فان كلا من القوي النووية الضعيفة والقوي الكهرومغناطيسية تقوي في تلك المستويات العليا للطاقة.
وحدة القوي في الكون
تخلق احدى النجوم من الدخان الكونى
يوحد علماء الفيزياء النظرية بين كل من القوي الكهرومغناطيسية, والقوي النووية القوية والضعيفة فيما يسمي بنظرية التوحد الكبري
والتي تعتبر تمهيدا لنظرية أكبر توحد بين كافة القوي الكونية
في قوة عظمي, واحدة تشهد لله الخالق بالوحدانية المطلقة, وعن هذه القوة العظمي انبثقت القوي الكبري الأربع المعروفة في الكون: قوة الجاذبية, القوة الكهرومغناطيسية وكل من القوتين النوويتين الشديدة والضعيفة مع عملية الانفجار الكوني الكبير مباشرة( الفتق بعد الرتق).
وباستثناء الجاذبية فان القوي الكونية الأخري تصل الي نفس المعدل عند مستويات عالية جدا من الطاقة تسمي باسم الطاقة العظمي للتوحد,
ومن هنا فان هذه الصور الثلاث للطاقة تعتبر ثلاثة أوجه لقوة واحدة, لا يستبعد انضمام الجاذبية اليها, باعتبارها قوة ذات مدي طويل جدا, تتحكم في أجرام الكون وفي التجمعات الكبيرة للمادة ومن ثم يمكن نظريا غض الطرف عنها من قبيل التبسيط عندما يقصر التعامل علي الجسيمات الأولية للمادة, أو حتي مع ذرات العناصر.
وهذه الصورة من وحدة البناء في الكون, ووحدة صور الطاقة فيه, مع شيوع الزوجية في الخلق ــ كل الخلق ــ هي شهادة الكون لخالقه( سبحانه وتعالي) بالتفرد بالوحدانية المطلقة فوق كافة خلقه بغير شبيه ولا شريك ولا منازع, وصدق الله العظيم إذ يقول:
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون( الذاريات:49).
ويقول:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون( الأنبياء:22).
وسبحانه وتعالي إذ أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: ثم استوي الي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11).
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
الثلث الأول من القرن العشرين لاحظ الفلكيون عملية توسع الكون التي دار من حولها جدل طويل حتي سلم العلماء بحقيقتها, وقد سبق القرآن الكريم بالإشارة الي تلك الحقيقة قبل ألف وأربعمائة سنة بقول الحق( تبارك وتعالي):
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47)
وكانت هذه الآية الكريمة قد نزلت والعالم كله ينادي بثبات الكون, وعدم تغيره, وظل هذا الاعتقاد سائدا حتي منتصف القرن العشرين حين أثبتت الأرصاد الفلكية حقيقة توسع الكون, وتباعد مجراته عنا, وعن بعضها البعض بمعدلات تقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بنحو ثلاثمائة ألف كيلو متر في الثانية), وقد أيدت كل من المعادلات الرياضية وقوانين الفيزياء النظرية استنتاجات الفلكيين في ذلك.
وانطلاقا من هذه الملاحظة الصحيحة نادي كل من علماء الفلك, والفيزياء الفلكية والنظرية بأننا إذا عدنا بهذا الاتساع الكوني الي الوراء مع الزمن فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة الموجودة في الكون( المدرك منها وغير المدرك) وتتكدس علي بعضها البعض في جرم ابتدائي واحد يتناهي في الصغر الي ما يقرب الصفر أو العدم, وتنكمش في هذه النقطة أبعاد كل من المكان والزمان حتي تتلاشي( مرحلة الرتق).
وهذا الجرم الابتدائي كان في حالة من الكثافة والحرارة تتوقف عندهما كل القوانين الفيزيائية المعروفة, ومن ثم فإن العقل البشري لا يكاد يتصورهما, فانفجر هذا الجرم الأولي بأمر الله( تعالي) في ظاهرة يسميها العلماء عملية الانفجار الكوني العظيم
ويسميها القرآن الكريم باسم الفتق فقد سبق القرآن الكريم كل المعارف الانسانية بالاشارة الي ذلك الحدث الكوني العظيم من قبل ألف وأربعمائة من السنين بقول الحق( تبارك وتعالي):
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون
(الأنبياء:30)
وتشير دراسات الفيزياء النظرية في أواخر القرن العشرين الي أن جرما بمواصفات الجرم الابتدائي للكون عندما ينفجر يتحول الي غلالة من الدخان الذي تخلقت منه الأرض وكل أجرام السماء,وقد سبق القرآن الكريم بألف وأربعمائة سنة كل المعارف الانسانية وذلك بإشارته الي مرحلة الدخان في قول الحق( تبارك وتعالي):
قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين* فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحي في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم( فصلت:9 ــ12)
وفي8 نوفمبر سنة1989 م أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية
مركبة فضائية باسم مكتشف الخلفية الاشعاعية للكون
وذلك في مدار علي ارتفاع ستمائة كيلومتر حول الأرض بعيدا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض, وقد قام هذا القمر الصنعي بإرسال ملايين الصور والمعلومات الي الأرض عن آثار الدخان الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون من علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية, وهي حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق الأرض والسماوات, فسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأبعمائة سنة قوله الحق:
ثم استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11).
دخانية السماء بعد الانفجار الكوني العظيم( أي بعد فتق الرتق):
بعد التسليم بحقيقة توسع الكون, وبرد ذلك التوسع الي الوراء مع الزمن حتي الوصول الي جرم ابتدائي واحد متناه في الضآلة حجما الي الصفر أو ما يقرب من العدم, ومتناه في الكثافة والحرارة الي حد لا يكاد العقل الانساني أن يتخيله, لتوقف كل قوانين الفيزياء المعروفة عنده( مرحلة الرتق), وبعد التسليم بانفجار هذا الجرم الابتدائي( مرحلة الفتق) في ظاهرة كونية يسميها العلماء الانفجار الكوني الكبير بدأ كل من علماء الفلك والفيزياء الفلكية والنظرية في تحليل مسار الأحداث الكونية بعد هذا الحدث الكوني الرهيب.
ومع إيماننا بان تلك الأحداث الموغلة في تاريخ الكون تقع في صميم الغيب الذي أخبر ربنا( تبارك وتعالي) عنه بقوله( عز من قائل):
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا( الكهف:51)
إلا أن السنن التي فطر الله( تعالي) الكون عليها لها من الاطراد, والاستمرار, والثبات, ما يمكن أن يعين الانسان علي الوصول الي شيء من التصور الصحيح لتلك الأحداث الغيبية الموغلة في أبعاد التاريخ الكوني علي الرغم من حس الانسان المحدود, وقدرات عقله المحدودة, ومحدودية كل من زمانه ومكانه.
كذلك فان التقنيات المتطورة من مثل الصواريخ العابرة لمسافات كبيرة في السماء, والأقمار الصنعية التي تطلقها تلك الصواريخ, والأجهزة القياسية والتسجيلية الدقيقة التي تحملها قد ساعدت علي الوصول الي تصوير الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم, والذي وجدت بقايا أثرية له علي أطراف الجزء المدرك من الكون, وعلي أبعاد تصل الي عشرة مليارات من السنين الضوئية لتثبت دقة التعبير القرآني بلفظة دخان التي وصف بها حالة الكون قبل خلق السماوات والأرض.
الفيزياء الفلكية ودخانية الكون:
بعد الانفجار العظيم تحول الكون الى غلالة من الدخان الذى خلقت من الارض والسماوات
تشير الحسابات الفيزيائية الي أن حجم الكون قبل الانفجار العظيم كاد يقترب من الصفر, وكان في حالة غريبة من تكدس كل من المادة والطاقة, وتلاشي كل من المكان والزمان, تتوقف عندها كل قوانين الفيزياء المعروفة( مرحلة الرتق), ثم انفجر هذا الجرم الابتدائي الأولي في ظاهرة كبري تعرف بظاهرة الانفجار الكوني العظيم مرحلة الفتق وبانفجاره تحول الي كرة من الإشعاع والجسيمات الأولية أخذت في التمدد والتبرد بسرعات فائقة حتي تحولت الي غلالة من الدخان.
فبعد ثانية واحدة من واقعة الانفجار العظيم تقدر الحسابات الفيزيائية انخفاض درجة حرارة الكون من تريليونات الدرجات المطلقة الي عشرة بلايين من الدرجات المطلقة[ ستيفن و. هوكنج1988 م
وعندها تحول الكون الي غلالة من الدخان المكون من الفوتونات
والإلكترونات
والنيوترينوات
واضداد هذه الجسيمات
مع قليل من البروتونات
والنيوترونات
ولولا استمرار الكون في التوسع والتبرد بمعدلات منضبطة بدقة فائقة لأفنت الجسيمات الأولية للمادة وأضدادها بعضها بعضا, وانتهي الكون, ولكنه حفظ بحفظ الله الذي أتقن كل شيء خلقه. والنيوترونات
يمكن أن توجد في الكون علي هيئة ما يسمي باسم المادة الداكنة
وينادي آلان جوث
بأن التمدد عند بدء الانفجار العظيم كان بمعدلات فائقة التصور أدت الي زيادة قطر الكون بمعدل2910 مرة في جزء من الثانية
, وتشير حسابات الفيزياء النظرية الي الاستمرار في انخفاض درجة حرارة الكون الي بليون( ألف مليون) درجة مطلقة بعد ذلك بقليل, وعند تلك الدرجة اتحدت البروتونات
والنيوترونات
لتكوين نوي ذرات الإيدروجين الثقيل أو الديوتريوم
التي تحللت الي الإيدروجين أو اتحدت مع مزيد من البروتونات والنيوترونات لتكون نوي ذرات الهيليوم(HeliumNuclei)
والقليل من نوي ذرات عناصر أعلي مثل نوي ذرات الليثيوم
ونوي ذرات البريليوم
, ولكن بقيت النسبة الغالبة لنوي ذرات غازي الأيدروجين والهيليوم, وتشير الحسابات النظرية الي أنه بعد ذلك بقليل توقف انتاج كل من الهيليوم والعناصر التالية له, واستمر الكون في الاتساع والتمدد والتبرد لفترة زمنية طويلة, ومع التبرد انخفضت درجة حرارة الكون الي آلاف قليلة من الدرجات المطلقة حين بدأت ذرات العناصر في التكون والتجمع وبدأ الدخان الكوني في التكدس علي هيئة أعداد من السدم الكونية الهائلة.
ومع استمرار عملية الاتساع والتبرد في الكون بدأت أجزاء من تلك السدم في التكثف علي ذاتها بفعل الجاذبية وبالدوران حول نفسها بسرعات متزايدة بالتدريج حتي تخلقت بداخلها كتل من الغازات المتكثفة, ومع استمرار دوران تلك الكتل الكثيفة في داخل السدم بدأت كميات من غازي الإيدروجين والهيليوم الموجودة بداخلها في التكدس علي ذاتها بمعدلات أكبر, مما أدي الي مزيد من الارتفاع في درجات حرارتها حتي وصلت الي الدرجات اللازمة لبدء عملية الاندماج النووي فتكونت النجوم المنتجة للضوء والحرارة.
وفي النجوم الكبيرة الكتلة استمرت عملية الاندماج النووي لتخليق العناصر الأعلي في وزنها الذري بالتدريج مثل الكربون والأوكسيجين وما يليهما حتي يتحول لب النجم بالكامل الي الحديد فينفجر هذا النجم المستعر(Nova) علي هيئة فوق المستعر
وتتناثر أشلاء فوق المستعرات
وما بها من عناصر ثقيلة في داخل المجرة لتتكون منها الكواكب والكويكبات, بينما يبقي منها في غازات المجرة ما يمكن أن يدخل في بناء نجم آخر بإذن الله.
وتحتوي شمسنا علي نحو2% من كتلتها من العناصر الأثقل في أوزانها الذرية من غازي الايدروجين والهيليوم, وهما المكونان الأساسيان لها, وهذه العناصر الثقيلة لم تتكون كلها بالقطع في داخل الشمس بل جاءت إليها من بقايا انفجار بعض من فوق المستعرات.
وعلي الرغم من تكدس كل من المادة والطاقة في أجرام السماء( مثل النجوم وتوابعها) فان الكون المدرك يبدو لنا متجانسا علي نطاق واسع, في كل الاتجاهات, وتحده خلفية إشعاعية متساوية حيثما نظر الراصد.
كذلك فان توسع الكون لم يتجاوز بعد الحد الحرج الذي يمكن أن يؤدي الي انهياره علي ذاته,وتكدسه من جديد, مما يؤكد أنه محكوم بضوابط بالغة الدقة والاحكام, ولا يزال الكون المدرك مستمرا في توسعه بعد أكثر من عشرة مليارات من السنين( هي العمر الأدني المقدر للكون) وذلك بنفس معدل التوسع الحرج, ولو تجاوزه بجزء من مئات البلايين من المعدل الحالي للتوسع لانهار الكون علي الفور, فسبحان الذي حفظه من الانهيار..!! والنظرية النسبية لا يمكنها تفسير ذلك لأن كل القوانين الفيزيائية, وكل الأبعاد المكانية والزمانية تنهار عند الجرم الابتدائي للكون قبل انفجاره( مرحلة الرتق) بكتلته, وكثافته وحرارته الفائقة, وانعدام حجمه الي ما يقرب من الصفر, ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لخلق هذا الكون بهذا القدر من الاحكام غير كونه أمرا من الخالق( سبحانه وتعالي) الذي إنما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون( يس:82)
فعلي سبيل المثال لا الحصر يذكر علماء الفيزياء أنه إذا تغيرت الشحنة الكهربائية للإليكترون قليلا, مااستطاعت النجوم القيام بعملية الاندماج النووي, ولعجزت عن الانفجار علي هيئة ما يسمي بفوق المستعر
إذا تمكنت فرضا من القيام بعملية الاندماج النووي.
والمعدل المتوسط لعملية إتساع الكون لابد وأنه قد اختير بحكمة بالغة لأن معدله الحالي لا يزال قريبا من الحد الحرج اللازم لمنع الكون من الانهيار علي ذاته.
ويقرر علماء الفيزياء النظرية والفلكية أن الدخان الكوني كان خليطا من الغازات الحارة المعتمة التي تتخللها بعض الجسيمات الأولية للمادة وأضداد المادة
حتي تشهد هذه الصورة من صور الزوجية السائدة في الكون لله وحده بالتفرد بالوحدانية فوق كافة خلقه, ولا توجد كلمة توفي هذه الحالة حقها من الوصف مثل كلمة دخان فسبحان الذي أنزلها في كتابه من قبل ألف وأربعمائة من السنين.
وقد تكونت من تلك الجسيمات الأولية للمادة في الدخان الكوني الأولي نوي ذرات غازي الإيدروجين والهيليوم, وبعد ذلك وصلت الي الحد الذي يسمح بتكوين ذرات ثابتة لعناصر أكبر وزنا وذلك باتحاد نوي ذرات الإيدروجين والهيليوم. وظل هذا الدخان المعتم سائدا ومحتويا علي ذرات العناصر التي خلق منها بعد ذلك كل من الأرض والسماء.
وتفيد الدراسات النظرية أن الكون في حالته الدخانية كان يتميز بقدر من التجانس مع تفاوت بسيط في كل من الكثافة ودرجات الحرارة بين منطقة وأخري, وذلك نظرا لبدء تحول أجزاء من ذلك الدخان بتقدير من الله( تعالي) الي مناطق تتركز فيها كميات كبيرة من كل من المادة والطاقة علي هيئة السدم. ولما كانت الجاذبية في تلك المناطق تتناسب تناسبا طرديا مع كم المادة والطاقة المتمركزة فيها, فقد أدي ذلك إلي مزيد من تكدس المادة والطاقة والذي بواسطته بدأ تخلق النجوم وبقية أجرام السماء في داخل تلك السدم, وتكونت النجوم في مراحلها الأولي من العناصر الخفيفة مثل الإيدروجين والهيليوم, والتي أخذت في التحول الي العناصر الأعلي وزنا بالتدريج مع بدءعملية الاندماج النووي في داخل تلك النجوم حسب كتلة كل منها.
تصوير الدخان الكوني
في الثامن من نوفمبر سنة1989 م أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية مركبة باسم مكتشف الخلفية الاشعاعية للكون
ارتفعت الي مدار حول الأرض يبلغ ارتفاعه ستمائة كيلومتر فوق مستوي سطح البحر, وذلك لقياس درجة حرارة الخلفية الاشعاعية للكون, وقياس كل من الكثافة المادية والضوئية والموجات الدقيقة
في الكون المدرك, بعيدا عن تأثير كل من السحب والملوثات في النطق الدنيا من الغلاف الغازي للأرض, وقام هذا القمر الصنعي المستكشف بارسال قدر هائل من المعلومات وملايين الصور لآثار الدخان الكوني الأول الذي نتج عن عملية الانفجار العظيم للكون, من علي بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية, وأثبتت تلك الصور أن هذا الدخان الكوني في حالة معتمة تماما تمثل حالة الاظلام التي سادت الكون في مراحله الأولي.
ويقدر العلماء كتلة هذا الدخان المعتم بحوالي90% من كتلة المادة في الكون المنظور, وكتب جورج سموت
أحد المسئولين عن رحلة المستكشف
تقريرا نشره سنة1992 م بالنتائج المستقاة من هذا العدد الهائل من الصور الكونية كان من أهمها الحالة الدخانية المتجانسة التي سادت الوجود عقب الانفجار الكوني العظيم, وكذلك درجة الحرارة المتبقية علي هيئة خلفية اشعاعية أكدت حدوث ذلك الانفجار الكبير, وكان في تلك الكشوف أبلغ الرد علي النظريات الخاطئة التي حاولت ــ من منطلقات الكفر والالحاد ــ تجاوز الخلق, والجحود بالخالق( سبحانه وتعالي) فنادت كذبا بديمومة الكون بلا بداية ولا نهاية من مثل نظرية الكون المستمر
التي سبق أن أعلنها ودافع عنها كل من هيرمان بوندي
وفريد هويل في سنة1949 م, ونظرية الكون المتذبذب
التي نادي بها ريتشارد تولمان
من قبل.. فقد كان في اثبات وجود الدخان الكوني والخلفية الإشعاعية للكون بعد إثبات توسع الكون ما يجزم بأن كوننا مخلوق له بداية ولابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية, وقد أكدت الصور التي بثتها مركبة المستكشف للخلفية الاشعاعية والتي نشرت في ابريل سنة1992 م كل تلك الحقائق.
انتشار مختلف صور الطاقة بالكون
تكوين نوى المجرات من الدخان الكونى
كان الجرم الابتدائي للكون مفعما بالمادة والطاقة المكدسة تكديسا رهيبا يكاد ينعدم فيه الحجم الي الصفر, وتتلاشي فيه كل أبعاد المكان والزمان, وتتوقف كل قوانين الفيزياء المعروفة لنا كما سبق وأن أشرنا( مرحلة الرتق), وبعد انفجار هذا الجرم الأولي وبدء الكون في التوسع, تمدد الاشعاع وظل الكون مليئا دوما بالطاقة الكهرمغناطيسية, علي أنه كلما تمدد الكون قل تركيز الطاقة فيه, ونقصت كثافته, وانخفضت درجة حرارته.
وأول صورة من صور الطاقة في الكون هي قوة الجاذبية
وهي قوي كونية بمعني أن كل جسم في الكون يخضع لقوي الجاذبية حسب كتلته أو كمية الطاقة فيه, وهي قوي جاذبة تعمل عبر مسافات طويلة, وتحفظ للجزء المدرك من الكون بناءه وأبعاده ولعلها هي المقصودة بقول الحق( تبارك وتعالي):
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها...( الرعد:2)
وقولة( عز من قائل):
ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض, والفلك تجري في البحر بأمره, ويمسك السماء أن تقع علي الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم( الحج:65).
وقوله( سبحانه وتعالي):
ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون( الروم:25).
وقوله( تبارك اسمه):
خلق السماوات بغير عمد ترونها...( لقمان:10).
وقوله( تعالي):
إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا( فاطر:41).
ويقسم ربنا( تبارك وتعالي) وهو الغني عن القسم في مطلع سورة الطور بـ السقف المرفوع وهذا القسم القرآني جاء بالسماء المرفوعة بغير عمد مرئية..!!
والصورة الثانية من صور الطاقة المنتشرة في الكون هي القوي الكهربائية/المغناطيسية( أو الكهرومغناطيسية
وهي قوي تعمل بين الجسيمات المشحونة بالكهرباء, وهي أقوي من الجاذبية بملايين المرات( بحوالي4110 مرة), وتتمثل في قوي التجاذب بين الجسيمات التي تحمل شحنات كهربية مختلفة( موجبة وسالبة), كما تتمثل في قوي التنافر بين الجسيمات الحاملة لشحنات كهربية متشابهة, وتكاد هذه القوي من التجاذب والتنافر يلغي بعضها بعضا, وعلي ذلك فان حاصل القوي الكهرومغناطيسية في الكون يكاد يكون صفرا, ولكن علي مستوي الجزيئات والذرات المكونة للمادة تبقي هي القوي السائدة.
والقوي الكهرومغناطيسية هي التي تضطر الاليكترونات
في ذرات العناصر الي الدوران حول النواة بنفس الصورة التي تجبر فيها قوي الجاذبية الأرض( وغيرها من كواكب المجموعة الشمسية) الي الدوران حول الشمس, وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي وحدة البناء في الكون من أدق دقائقه الي أكبر وحداته, وهو ما يشهد للخالق( سبحانه وتعالي) بالوحدانية المطلقة بغير شريك ولا شبيه ولا منازع.
ويصور الفيزيائيون القوي الكهرومغناطيسية علي أنها تنتج من تبادل أعداد كبيرة من جسيمات تكاد تكون معدومة الوزن تسمي بالفوتونات
والقوي الثالثة في الكون هي القوي النووية القوية
وهي القوي التي تمسك باللبنات الأولية للمادة في داخل كل من البروتونات
والنيوترونات
في نواة الذرة, وهذه القوي تصل الي أقصي قدرتها في المستويات العادية من الطاقة, ولكنها تضعف مع ارتفاع مستويات الطاقة باستمرار.
والقوة الرابعة في الكون هي القوي النووية الضعيفة
وهي القوي المسئولة عن عملية النشاط الإشعاعي
وفي الوقت الذي تضعف فيه القوي النووية القوية في المستويات العليا للطاقة, فان كلا من القوي النووية الضعيفة والقوي الكهرومغناطيسية تقوي في تلك المستويات العليا للطاقة.
وحدة القوي في الكون
تخلق احدى النجوم من الدخان الكونى
يوحد علماء الفيزياء النظرية بين كل من القوي الكهرومغناطيسية, والقوي النووية القوية والضعيفة فيما يسمي بنظرية التوحد الكبري
والتي تعتبر تمهيدا لنظرية أكبر توحد بين كافة القوي الكونية
في قوة عظمي, واحدة تشهد لله الخالق بالوحدانية المطلقة, وعن هذه القوة العظمي انبثقت القوي الكبري الأربع المعروفة في الكون: قوة الجاذبية, القوة الكهرومغناطيسية وكل من القوتين النوويتين الشديدة والضعيفة مع عملية الانفجار الكوني الكبير مباشرة( الفتق بعد الرتق).
وباستثناء الجاذبية فان القوي الكونية الأخري تصل الي نفس المعدل عند مستويات عالية جدا من الطاقة تسمي باسم الطاقة العظمي للتوحد,
ومن هنا فان هذه الصور الثلاث للطاقة تعتبر ثلاثة أوجه لقوة واحدة, لا يستبعد انضمام الجاذبية اليها, باعتبارها قوة ذات مدي طويل جدا, تتحكم في أجرام الكون وفي التجمعات الكبيرة للمادة ومن ثم يمكن نظريا غض الطرف عنها من قبيل التبسيط عندما يقصر التعامل علي الجسيمات الأولية للمادة, أو حتي مع ذرات العناصر.
وهذه الصورة من وحدة البناء في الكون, ووحدة صور الطاقة فيه, مع شيوع الزوجية في الخلق ــ كل الخلق ــ هي شهادة الكون لخالقه( سبحانه وتعالي) بالتفرد بالوحدانية المطلقة فوق كافة خلقه بغير شبيه ولا شريك ولا منازع, وصدق الله العظيم إذ يقول:
ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون( الذاريات:49).
ويقول:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون( الأنبياء:22).
وسبحانه وتعالي إذ أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة قوله الحق: ثم استوي الي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11).