من أسرار القرآن
الإشارات الكونية في القرآن الكريم
ومغزي دلالتها العلمية
بقلم : د. زغـلول النجـار
ان فهم الاشارات الكونية في كتاب الله, علي ضوء ما تجمع للبشرية اليوم من معارف, وتقديمها للعالم كواحد من الأدلة العديدة علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله بعلمه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, والذي حفظ بحفظ الله, بنفس اللغة التي أوحي بها, بدقائق حروفه وكلماته وآياته وسوره, يعتبر فتحا جديدا للاسلام, وانقاذا للبشرية من الهاوية التي تتردي فيها اليوم بسبب تقدمها العلمي والتقني المذهل وتضاؤل روح الايمان بالله, وانعدام الخشية من عذابه في نفوس القطاع الأكبر من الناس خاصة في أكثر المجتمعات البشرية المعاصرة أخذا بأسباب التقدم العلمي والتقني, فأغلب المجتمعات البشرية في الدول غير المسلمة تعاني اليوم من انفراط عقد الأسرة, والتقنين للممارسات الجنسية بدون أدني رباط, فكثر حمل المراهقات, وأبناء الزنا, والأسر ذات العائل الواحد, وتفشت الأمراض والأوباء والعلل مما لم يكن معروفا من قبل, وقننت الحكومات والتشريعات للعلاقات الشاذة, وصرحت بتبني الأطفال وتنشئتهم في وسط الشواذ, وهي عملية مدمرة للفطرة الانسانية فكثرت الأزمات النفسية وأمراضها, وتضاعفت معدلات كل من الادمان والجريمة والانتحار, وملئت أكثر المجتمعات البشرية ثراء وتطورا ماديا بأخطر مشاكل المجتمعات الانسانية علي الاطلاق...!!!
ومن هؤلاء الذين لايعرفون لهم أبا, والذين خرجوا إلي الحياة بطرق غير مشروعة, ونشئوا في بيئات فاسدة وبين سلوكيات منحطة وضيعة من يمكن أن يصل الي مقام السلطة في دول تملك من تقنيات ووسائل الغلبة المادية, من مختلف أسلحة الدمار الشامل ما يعينه علي البطش بالخلق, وإفشاء الظلم, وتدمير الحياة علي سطح الأرض, وإفساد بيئاتها والقضاء علي مختلف صور الحياة فيها...!!! ولا يجد من دين أو خلق أو منطق أي رادع يمكن أن يرده عن ذلك...!!!
وأغلب وسائل الاعلام في العالم قد وقعت اليوم في أيدي اليهود, في مؤامرة خسيسة علي الانسانية ـ واليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا بصفة خاصة وللانسان غير اليهودي بصفة عامة ـ فوظفوا كافة تلك الوسائل الاعلامية في تدمير البقية الباقية من عقائد وأخلاقيات وسلوكيات المجتمعات الانسانية, وفي تشويه صورة الاسلام في أذهان الناس, وذلك لان مما يسوءهم أن يروا الاسلام ينتشر في مجتمعاتهم المريضة في الوقت الذي يتصورون فيه أنهم قد أحاطوا بالاسلام والمسلمين إحاطة كاملة. ويقبل علي الاسلام في الغرب والشرق قمم الفكر والعلم والرأي لأنهم يرون فيه المخرج الوحيد من الوحل النتن الذي غاصت فيه مجتمعاتهم والذي يعيشون فيه الي أذقانهم في غالبيتهم الساحقة, ووسيلتنا في تحسين صورة الاسلام في العالم هي حسن الدعوة اليه بالكلمة الطيبة, والحجة الواضحة, والمنطق السوي. وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الاعجاز العلمي للقرآن الكريم, لأننا نعيش في زمن أدار غالبية الناس ظهورهم فيه للدين, ولم تعد قضايا الغيب المطلق من بعث بعد الموت, وعرض أكبر أمام الله الخالق, وخلود في حياة قادمة: أما في الجنة أبدا, أو في النار أبدا
وغيرها من قضايا الدين لم تعد تحرك فيهم ساكنا, ولكنهم في نفس الوقت قد فتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة, فإذا أشرنا الي سبق للقرآن الكريم في الاشارة إلي عدد من حقائق الكون قبل أن يصل الانسان الي شيء منها بعشرات المئات من السنين, وهو الكتاب الذي أنزل علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم) في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, فإن ذلك سوف يحرك عقولهم وقلوبهم, وسوف يحضهم علي الاطلاع في كتاب الله الذي ما أطلع عليه عاقل الا ويشهد له أنه لا يمكن أن يكون كلام أحد غير الله الخالق( سبحانه وتعالي), وفي ذلك تحييد لحجم الكراهية الشديدة التي غرستها وسائل الاعلام الدولية للاسلام والمسلمين في قلوب الملايين, ودعوة مستنيرة الي دين الله وما أحوجنا للدعوة لهذا الدين الخاتم في زمن التحدي بالعولمة الذي نعيشه, والذي يتهدد كافة شعوب الأرض بالذوبان في بوتقة الحضارة المادية الجارفة...!!!
ولا يمكن أن يصدنا عن ذلك دعوي أن عددا من المفسرين السابقين الذين تعرضوا لتأويل بعض الآيات الكونية في كتاب قد تكلفوا في تحميل تلك الآيات من المعاني مالا تحتمله وذلك بسبب نقص في وفرة المعلومات العلمية أو جهل بها, وذلك لما سبق وأن أوضحناه بأن التفسير لأي القرآن الكريم هو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة تلك الآيات إن أصاب فيها المرء فله أجران, وإن أخطأ فله أجر واحد, والمعول في ذلك النية, وأن الخطأ في التفسير لا ينال من جلال القرآن الكريم, ولكنه ينعكس علي المفسر, خاصة وأن الذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا والذين فسروا بالتاريخ أصابوا وأخطأوا ـ ولم ينل ذلك من قدسية القرآن الكريم ومكانته في قلوب وعقول المؤمنين شيئا أما اليوم وقد توافر للانسان من المعرفة بحقائق الكون وسننه ما لم يتوافر لجيل من البشر من قبل, فإن توظيف ذلك الكم من المعلومات من أجل حسن فهم دلالة الآية القرآنية, وإثبات سبقها التاريخي لكافة البشر يعتبر ضرورة إسلامية لتثبيت إيمان المؤمنين, ولدعوة الضالين من الكفار والمشركين والذي سوف يسألنا ربنا( تبارك وتعالي) عن تبليغهم بهذا الدين, ودعوتهم اليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
والأخطاء التي وقع فيها عدد من المفسرين الذين تعرضوا للآيات الكونية في كتاب الله, أو تكلفهم في تحميل الآيات من المعاني ما لا تحمله, في تعسف واضح, وتكلف جلي, يحملونه هم, ولا تتحمله آيات الكتاب المبين, لأن التأويل يبقي جهدا بشريا منسوبا لمؤوله, بكل ما للبشر من نقص وبعد عن الكمال, وإذا كان عدد منهم قد جاوز الصواب في تأويله, فإن أعدادا أوفر قد وفقت في ذلك أيما توفيق.
ولم تكن أخطاء المفسرين محصورة في محاولات تأويل الاشارات الكونية فقط, فهنالك عدد من كتب التفسير التي تمتليء بالاسرائيليات الموضوعة, والعصبيات المذهبية الضيقة, وغير ذلك مما لا يقبله العقل القويم, والصحيح المنقول عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وعن أصحابه المكرمين والتابعين, ولا يرتضيه المنطق اللغوي السليم. فالمعتزلة علي سبيل المثال ـ لا الحصر قد حاولوا في تفاسيرهم اخضاع الآيات لمبادئهم في العدل والتوحيد وحرية الارادة والوعد والوعيد وإنكار الرؤية وغيرها, وتعسفوا في ذلك أيما تعسف.
والشيعة ـ علي اختلاف فرقهم ـ قد دفعتهم المغالاة في حب آل البيت الي التطرف في تأويل الآيات القرآنية تأويلا لا يحتمله ظاهر الآيات. ولا السياق القرآني. ولا القرائن المنطقية المختلفة.
وكذلك المتصوفة والاشاريون ـ فهم علي الرغم من تسليمهم بالمأثور من التفسير, وقبولهم للمعني الذي يدل عليه اللفظ العربي ـ يسمحون لأنفسهم باستنباط معان للآيات تخطر في أذهانهم عند التلاوة وان لم تدل عليها الآيات القرآنية الكريمة بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي للغة وطرائق التعبير فيها.
أما المنحرفون من أتباع الفرق الباطنية وافرازاتها القديمة والحديثة( كالقرامطة والبابية, والبهائية, والعلوية النصيرية, والقاديانية الأحمدية, والاسماعيلية, والدرزية وغيرها) فتمتليء تفاسيرهم بالانحرافات التي تنطق بالتعسف والافتعال, ومحاولات تطويع القرآن لمبادئهم المضللة في تكلف ملحوظ.
فهل معني ذلك أن يتوقف علم التفسير عند حدود جهود السابقين من المفسرين؟ويتوقف فهم الناس لكتاب الله الذي أنزل إليهم ليتدبروا آياته, ويعيشوا في معانيه, ويتخذوا منها دستورا كاملا لحياتهم عند جهود قدامي المفسرين علي فضلهم, وفضل ما قدموه لخدمة فهم القرآن الكريم في حدود المعرفة المتاحة في أزمنتهم؟ بالقطع لا, علي الرغم من التسليم بأن هذه الانحرافات وأمثالها كانت من وراء الدعوة إلي الوقوف بالتفسير عند حدود المأثور, فكتب التفسير علي تباينها تحوي تراثا فكريا وتاريخيا لهذه الأمة لايمكن التضحية به, حتي ولو كانت به بعض الأخطاء أو التجاوزات, الا اذا كان القصد الواضح هو التحريف, وهو أمر لايصعب علي عاقل إدراكه.
من كل ما سبق يتضح لنا أن حجج المضيقين في رفض تفسير الاشارات الكونية في كتاب الله علي ضوء ما تجمع اليوم لدي الانسان من معارف بالكون وعلومه هي كلها حجج مردودة, فالكون صنعة الله, والقرآن هو كلام خالق الكون وواضع نواميسه, ولا يمكن أن يتعارض كلام الله الخالق مع الحقائق التي قد أودعها في خلقه, اذا اتبع الناظر في كليهما المنهج السليم, والمسلك الموضوعي الأمين, فمن صفات الآيات الكونية في كتاب الله أنها صيغت صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني في كل أية من تلك الآيات الدالة علي شيء من أشياء الكون أو ظواهره أو نشأته أو إفنائه وإعادة خلقه, وتظل تلك المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لايعرف التضاد, وهذا عندي من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله, ومن هنا كانت ضرورة استمرارية النظر في تفسير تلك الآيات الكونية, وضرورة مراجعة تراجمها إلي اللغات الأخري بطريقة دورية.
أما آيات العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات فقد صيغت صياغة محكمة يفهم دلالتها كل مستمع إليها مهما قلت ثقافته أو زادت, لأن تلك الآيات تمثل ركائز الدين الذي هو صلب رسالة القرآن الكريم.
وكذلك الآيات المتعلقة بصفات الله, وبالآخرة وبالملائكة والجن وغير ذلك من الأمور الغيبية غيبة مطلقة فلا يملك المسلم إلا الايمان بها, والتسليم في فهمها لنص القرآن الكريم أو للمأثور من تفسير المصطفي( صلي الله عليه وسلم) لأن الإنسان لايمكن له أن يصل إلي عالم الغيب المطلق إلا ببيان من الله الخالق, وذلك لأن قدرات عقل الإنسان المحدودة, وحواسه المحدودة لايمكن لهما اجتياز حدود عوالم الغيوب المطلقة مهما أوتي الإنسان من أسباب الذكاء والفطنة, ومن هنا كان امتداح القرآن الكريم للذين يؤمنون بالغيب...!!!
موقف الموسعين: في التفسير العلمي
ويري أصحاب هذا الموقف ان الاشارات الكونية في القرآن الكريم قد قصدت لذاتها أي لدلالاتها العلمية المحددة, مع التسليم بوجوب استخلاص الحكمة والعبرة منها, والوصول الي الهداية عن طريقها, وانطلاقا من ذلك فقد قام اصحاب هذا الموقف بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله, وتصنيفها حسب مختلف التصانيف المعروفة في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية, ثم اندفعوا في حماسهم لهذا الاتجاه الي المناداة بأن القرآن الكريم يشتمل علي جميع العلوم والمعارف.
ولابد لحسن فهم تلك الاشارات الكونية في كتاب الله ـ من تفسيرها علي ضوء اصطلاحات تلك العلوم والمعارف, ثم زاد البعض بمحاولة اثبات ان جميع حقائق العلوم البحتة والتطبيقية التي استخلصها الانسان بالنظر في جنبات هذا الكون هي موجودة في القرآن الكريم استنادا الي قوله تعالي:
(.. ما فرطنا في الكتاب من شيء...)
(الأنعام: آية38)
وقوله...
( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء..)
(النحل: آية89)
وهذا في رأينا موقف مبالغ فيه لان السياق القرآني في الايتين السابقتين لايتمشي مع ما وصلوا اليه من استنتاج, لأنهما يركزان علي رسالة القرآن الأساسية وهي الدين بركائزه الأربع الأساسية: العقيدة, والعبادة, والأخلاق والمعاملات, وهي القضايا التي لا يمكن للإنسان أن يضع فيها لنفسه ضوابط صحيحة. وهي التي استوفاها القرآن استيفاء لايقبل إضافة, أما قصص الأمم السابقة والاشارات إلي الكون ومكوناته فقد جاء القرآن الكريم بنماذج منها تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة علي الخلق وإفنائه وإعادته من جديد. وربما كان هذا الموقف وأمثاله من الاسباب الرئيسية التي أدت الي تحفظ المتحفظين من الخوض في تفسير الايات الكونية الواردة في كتاب الله علي اساس من معطيات العلوم البحتة والتطبيقية, أو التعرض لإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها.
موقف المعتدلين في التفسير العلمي
ويري أصحاب هذا الموقف أنه مع التسليم بأن القرآن الكريم هو في الاصل كتاب هداية ربانية, أساسها الدعوة إلي العقيدة الصحيحة والأمر بالعبادات المفروضة والحث علي الالتزام بمكارم الأخلاق وعلي التعامل بالعدل, أي أنه دستور كامل للحياة في طاعة خالق الكون والحياة.
ومع التسليم كذلك بأن الاشارات الكونية الواردة في كتاب الله قد جاءت في معرض التذكير بقدرته المطلقة, وبديع صنعه في خلقه, وشمول علمه, وكمال صفاته وأفعاله, الا انها تبقي بيانا من الله, خالق الكون ومبدع الوجود, ومن اعلم بالكون من خالقه...؟
من هنا كانت تلك الاشارات الكونية كلها حق, وكانت كلها منسجمة مع قوانين الله وسننه في الكون, وثابتة في دلالاتها ـ مهما اتسعت دائرة المعرفة الانسانية ـ فلا تعارض ولا تناقض ولا اضطراب وصدق الله العظيم القائل:
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)( النساء:82).
ومن هنا أيضا كان واجب علماء المسلمين في مدارسة تلك الآيات الكونية مستفيدين بكل أنواع المعارف المتاحة في تفسيرها وإظهار جوانب الإعجاز بها, في حجة واضحة ومنطق سوي وذلك تأكيدا لإيمان المؤمنين, ودحضا لافتراءات المفترين, وتثبيتا للحقيقة الراسخة أن القرآن كلام الله العزيز الرحمن الرحيم.
ومن هنا كذلك كان التسليم بأن تلك الإشارات الكونية لم ترد في القرآن الكريم بهدف التبليغ بالحقيقة العلمية, لأن الحكمة الإلهية قد تركت مجالا مفتوحا لاجتهاد المجتهدين, يتنافس فيه المتنافسون, ويتباري المتبارون, أمة بعد أمة, وجيلا بعد جيل, إلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها, فلولا أن الإرادة الالهية قد ارتضت بسط الكون بكل حقائقه كاملة أمام الإنسان, لانتفت الغاية من الحياة الدنيا, وهي دار ابتلاء واختبار, ولاختفي ذلك الغيب الذي يشد الانسان اليه, ويشحذ جميع حواسه وكل قواه العقلية والفكرية, ولتبلدت تلك الحواس والقدرات ولمضت حياة الانسان علي الأرض رتيبة كئيبة بائسة, جيلا بعد جيل, وعصرا بعد عصر, بغير تجديد أو تنويع أو إبداع, وسط عالم يتميز بالتغير في كل أمر من أموره, وفي كل لحظة من لحظات وجوده, هذا فضلا عن أن العقل البشري عاجز عن تقبل الحقائق الكونية الكلية دفعة واحدة, وأنه يحتاج في فهمها إلي شئ من التدرج في الكشف, وفي استخراج الأدلة, وفي إثباتها وتكامل معطياتها علي مدي أجيال متعاقبة.
ويستدل أصحاب هذا الموقف بالحشد الهائل من الإشارات الكونية في كتاب الله, وبمطالبة القرآن الكريم للانسان دوما بتحصيل المعرفة النافعة علي إطلاقها, وهذه أولي آيات القرآن العظيم تأمر بذلك وتحدد وسائله, وتحض علي التأمل في الخلق, بل وتشير إلي حقيقة علمية لم تكتشف إلا بعد ذلك بقرون طويلة ألا وهي... خلق الانسان من علق... وهي حقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا بعد اكتشاف حقيقة المجاهر المكبرة, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم).( العلق:1 ـ5)
ويستدل أصحاب هذا الموقف المعتدل علي ذلك بما يقرره القرآن من مسئولية الانسان عن حواسه وعقله, وما يفرضه من حسن استخداماتها في التعرف علي الكون, واكتساب المعارف النافعة منه, وتخديمها في حسن فهم كتاب الله, حيث يقرر الحق( تبارك وتعالي) ذلك بقوله في محكم كتابه:
(إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا..)( الإسراء:36).
كما يستدلون برفض القرآن للتقليد والجمود علي الآراء الموروثة الخاطئة, والحكم بالظن والهوي, ومطالبته الانسان دوما بتأسيس الاحكام علي الدليل العقلي الذي لا يقبل النقض, وهذه كلها من أخص خصائص المنهج التجريبي في دراسة الكون وما فيه, كذلك يستشهدون بتكريم القرآن الكريم للعلم والعلماء ـ بمن فيهم من علماء الكونيات ـ في العديد من آي الذكر الحكيم نختار منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)
( الزمر:9)
وقوله( عز من قائل):
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)( المجادلة:11)
وقوله( سبحانه وتعالي):
(شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)( آل عمران:18)
وقوله:
(انما يخشي الله من عباده العلماء)( فاطر:28).
والآية الأخيرة قد وردت بعد استعراض لكثير من المشاهد الكونية, مما يؤكد أن الآية تشمل علماء الكونيات, ان لم يكونوا هم المقصودين بها مباشرة, فالآية تنطق:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها, وغرابيب سود, ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك انما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)( فاطر:28,27).
كذلك يستشهد أصحاب هذا الموقف المعتدل بمطالبة القرآن الكريم للانسان في ـ تشديد واضح ـ بالنظر في كل ما خلق الله, وهذه أوامره صريحة جلية نختار منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(قل انظروا ماذا في السموات والأرض)( يونس:101)
( أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ)( الأعراف:185)
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)( العنكبوت:20)
( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)( الذاريات:21,20)
( أفلا ينظرون إلي الابل كيف خلقت, وإلي السماء, كيف رفعت, وإلي الجبال كيف نصبت, وإلي الأرض كيف سطحت)( الغاشية17 ـ20).
وينتصر أصحاب هذا الموقف المعتدل لموقفهم بما ينعاه القرآن علي الغافلين في التفكير في آيات السماوات والأرض في كثير من آياته التي منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(وكأي من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)( يوسف:105)
ووصفه لهؤلاء الغافلين بأنهم كالأنعام بل هم أضل, وتقديره بأن جزاءهم جهنم عقابا لهم علي اهمالهم نعم الله التي أنعم بها عليهم, وذلك في مثل قول الله( تعالي):
(ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يفقهون بها, ولهم أعين لا يبصرون بها, ولهم اذان لا يسمعون بها, أولئك كالانعام بل هم أضل, أولئك هم الغافلون)( الأعراف:129).
ويستشهدون علي ضرورة توظيف المعارف العلمية المتاحة لفهم دلالة الآيات الكونية في كتاب الله بربط القرآن دوما بين الايمان بالله والنظر فيما خلق الله, من مثل قوله( تعالي):
(ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة, وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)( البقرة:164)
وقوله( عز من قائل):
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب, الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)
(آل عمران:191,190).
وقوله( سبحانه وتعالي):
(وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)( الأنعام:75).
وقوله:
(لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون)( غافر:57)
ويستشهد المنادون بضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية في كتاب الله بالإشارة إلي أن القرآن الكريم ـ في استعراضه لامور الكون ـ يتناول كليات الأشياء, تاركا التفاصيل لاجتهاد الانسان, ولكنه في نفس الوقت ينبه باستمرار الي جوانب مهمة في أشياء مثل الكم والكيف وهما من أسس العلوم التجريبية, الكم الذي يتعلق بالحجم والكتلة وبالزمان والمكان, وبدرجات النمو والاندثار وغيرها يتمثل في كثير من الآيات القرآنية التي نختار منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(وكل شئ عنده بمقدار)( الرعد:5)
وقوله( سبحانه):
(قد جعل الله لكل شئ قدرا)( الطلاق:3)
وقوله( عز من قائل):
(إنا كل شئ خلقناه بقدر)( القمر:49)
وقوله( تعالي):
(وخلق كل شئ فقدره تقديرا)( الفرقان:2)
وقوله( سبحانه وتعالي):
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض..)( المؤمنون:18).
وبخصوص الكيف بمعني هيئة الاشياء وتركيبها ومسبباتها, ومجري الظواهر الكونية وحدوثها والسنن الالهية وجريانها, فان القرآن يشدد التنبيه عليها في مواضع كثيرة منها قول الله( تعالي):
(فانظر إلي آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها)( الروم:50)
وقوله( سبحانه):
( ألم تر الي ربك كيف مد الظل, ولو شاء لجعله ساكنا, ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا)( الفرقان:46,45).
وقوله عز من قائل:
(أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج..)( ق:6)
وقوله( تعالي):
( أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت وإلي السماء كيف رفعت وإلي الجبال كيف نصبت وإلي الأرض كيف سطحت)( الغاشية:17 ـ20)
ويستشهد أصحاب هذا الموقف المعتدل كذلك علي ضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية بتأكيد القرآن الكريم علي أن لكل شيء في هذا الكون فطرته السوية التي فطره الله عليها, والتي تخصه وتميزه, وهي قاعدة أساسية من قواعد المنهج العلمي التجريبي في الكشف عن حقائق هذا الكون ومكوناته وسنن الله فيه, ونقرأ في ذلك قول الحق( تبارك وتعالي):
ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي..( طه:50)
وقوله( سبحانه)
( الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي)( الأعلي:3,2)
وأن هذه الفطرة ثابتة, لا تتغير ولا تتبدل لقول الحق( تبارك وتعالي):
(... لا تبديل لخلق الله)( الروم: آية30)
وأنها خاضعة لقوانين مطردة, لا تتخلف ولا تتوقف إلا بإذن الله, وأنه لولا ثبات تلك الفطرة وأطراد القوانين التي تحكمها ماتمكن الإنسان من اكتشاف أي من أمور هذا الكون, وأن القرآن يصر علي تسمية تلك القوانين بالحق, وعلي أن الكون ومافيه خلق بالحق, ويطالب الإنسان بالتعرف علي ذلك الحق والتزامه, فالتنزيل ينطق بقول الله( تعالي):
( ماخلقنا السموات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي)( الاحقاف: آية3)
وقوله( سبحانه):
( أو لم يتفكروا في أنفسهم ماخلق الله السموات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون).( الروم:
وقوله( عز من قائل):
( خلق السموات والأرض بالحق, يكور الليل علي النهار, ويكور النهار علي الليل, وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار)( الزمر: آية5)
وقوله( تعالي):
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب, ماخلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون)( يونس: آية5)
وقوله( سبحانه):
( وماخلقنا السموات والأرض ومابينهما لاعبين ماخلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون)
(الدخان: الآيتان39,38)
كذلك فإن الذين يرون ضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله, وفي الاستشهاد علي الإعجاز العلمي لتلك الآيات ينتصرون لذلك بأن أكثر من أربعين سورة من سور القرأن الكريم البالغ عددها114 سورة تحمل أسماء لبعض أشياء الكون وظواهره, ويستشهدون بعرض القرأن للعديد من القضايا التي هي صميم العلوم التجريبية من مثل خلق السماوات والأرض, واختلاف الليل والنهار, وإتساع الكون, ورتق السماوات والأرض وفتقهما, وبدء السماء بدخان, وخلق الحياة من الماء وفي الماء واستعراض مراحل الجنين في الإنسان وغير ذلك كثير مما لا يوفيه في هذا المقام حصر ولكن تكفي الإشارة إلي آيات قليلة منها من مثل قول الحق تبارك وتعالي:
( أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)( الأنبياء:30)
وقوله( عز من قائل):
( ثم استوي إلي السماء وهي دخان, فقال لها وللأرض أئتيا طوعا أو كرها, قالتا أتينا طائعين)( فصلت:11)
وآيات الكتاب الحكيم في كل ماعرضت له من أمور الكون تتميز بمنتهي الدقة في التعبير, والشمول في المعني والدلالة, وبالسبق الاخباري بحقائق لم يتيسر للإنسان المام بها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وهذا بالقطع يشكل صورة من صور الأعجاز لم تتوافر لجيل من الأجيال من قبل. وسأفصل الحديث في الإعجاز العلمي للإشارات الكونية في كتاب الله في المقالات القادمة إن شاء الله( تعالي).
وخلاصة القول أن القرآن الكريم يزخر بالعديد من الآيات التي تشير إلي الكون ومابه من كائنات( أحياء وجمادات) وإلي صور من نشأتها ومراحل تكوينها, وإلي العديد من الظواهر الكونية التي تصاحبها, وقد أحصي الدارسون من مثل هذه الآيات حوالي الألف آية صريحة, بالاضافة الي آيات آخري عديدة تقرب دلالاتها من الصراحة. مما يبلغ بالآيات الكونية الي سدس آيات القرأن الكريم تقريبا. ويقف المفسرون من هذه الآيات الكونية مواقف متعددة, فمنهم المضيقون والموسعون والمعتدلون, فالمضيقون يرون أن تلك الاشارات لم ترد في القرأن لذاتها, وإنما وردت من قبيل الاستدلال علي قدرة الله تعالي, وإبداعه في خلقه, وقدرته علي إفناء الخلق وإعادته من جديد, ومن ثم فلا يجوز تفسيرها في ضوء من معطيات العلوم الحديثة وذلك بدعوي انطلاق الكتابات العلمية من منطلقات مادية, منكرة لكل ماهو فوق المدرك المحسوس.
أما الموسعون فيرون أن القرأن الكريم يشتمل علي جميع العلوم والمعارف, ولابد لحسن فهم ذلك من تفسيره علي ضوء ماتجمع لدي الإنسان من رصيد علمي خاصة في مجال العلوم البحتة والتطبيقية, ومن ثمن فقد قاموا بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله وتصنيفها حسب التصانيف المعروفة في مختلف مجالات تلك; العلوم, وقد تميز ذلك بشيء من التكلف الذي أدي الي رفض المنهج والوقوف في وجهه.
أما المعتدلون فيرون أنه مع التسليم بأن الاشارات الكونية في القرآن الكريم قد وردت في معرض التذكير بقدرة الله, وبديع صنعه, فانها تبقي بيانا من الله, خالق الكون ومبدع الوجود, ومن ثم فهي كلها حق مطلق. ولا غرابة إذن من إنسجامها مع قوانين الله وسننه في الكون, ومع معطيات العلوم الحديثة عن حقائق هذا الكون, كذلك فأنهم يرون أنه مع التسليم بأن تلك الاشارات لم ترد في القرأن الكريم بهدف التبليغ بالحقيقة العلمية, لأن الحكمة الإلهية قد اقتضت ترك ذلك لاجتهاد الإنسان علي مر الزمن, إلا أنها تتميز بالدقة المتناهية في التعبير, والثبات في الدلالة, والشمول في المعني بحيث يدرك فيه كل جيل مايتناسب ومستوياتهم الفكرية, وماوصلوا إليه من علوم عن الكون ومافيه, ثم ان تلك الدلالات تتميز كلها بالسبق الي الحقيقة الكونية قبل ان تدرك الكشوف العلمية شيئا منها بقرون طويلة, وهذا في حد ذاته يمثل الإعجاز العلمي للقرأن الكريم الذي هو أحد أوجه الإعجاز العديدة في كتاب الله, ولكنه يبقي من أنسبها لعصر التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه لتثبيت إيمان المؤمنين, ودعوة الجاحدين من مختلف صور المشركين والكافرين والضالين, في زمن تحول فيه العالم الي قرية كبيرة, مايحدث في أحد أركانها يتردد صداه في بقية أرجائها, ولا يأمن أهل الحق أن يصيبهم ماأصاب الأمم الضالة من عقاب, أو أن يجرفهم تيار الحضارة المادية فيذيبهم في بوتقتها فيخسرون بذلك الدنيا والآخرة, وطوق النجاة في الجالتين الاعتزاز بالاسلام العظيم, والتمسك بالقرأن الكريم الذي يتجلي إعجازه العلمي في عصر العلم الذي نعيشه.
الإشارات الكونية في القرآن الكريم
ومغزي دلالتها العلمية
بقلم : د. زغـلول النجـار
ان فهم الاشارات الكونية في كتاب الله, علي ضوء ما تجمع للبشرية اليوم من معارف, وتقديمها للعالم كواحد من الأدلة العديدة علي أن القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله بعلمه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, والذي حفظ بحفظ الله, بنفس اللغة التي أوحي بها, بدقائق حروفه وكلماته وآياته وسوره, يعتبر فتحا جديدا للاسلام, وانقاذا للبشرية من الهاوية التي تتردي فيها اليوم بسبب تقدمها العلمي والتقني المذهل وتضاؤل روح الايمان بالله, وانعدام الخشية من عذابه في نفوس القطاع الأكبر من الناس خاصة في أكثر المجتمعات البشرية المعاصرة أخذا بأسباب التقدم العلمي والتقني, فأغلب المجتمعات البشرية في الدول غير المسلمة تعاني اليوم من انفراط عقد الأسرة, والتقنين للممارسات الجنسية بدون أدني رباط, فكثر حمل المراهقات, وأبناء الزنا, والأسر ذات العائل الواحد, وتفشت الأمراض والأوباء والعلل مما لم يكن معروفا من قبل, وقننت الحكومات والتشريعات للعلاقات الشاذة, وصرحت بتبني الأطفال وتنشئتهم في وسط الشواذ, وهي عملية مدمرة للفطرة الانسانية فكثرت الأزمات النفسية وأمراضها, وتضاعفت معدلات كل من الادمان والجريمة والانتحار, وملئت أكثر المجتمعات البشرية ثراء وتطورا ماديا بأخطر مشاكل المجتمعات الانسانية علي الاطلاق...!!!
ومن هؤلاء الذين لايعرفون لهم أبا, والذين خرجوا إلي الحياة بطرق غير مشروعة, ونشئوا في بيئات فاسدة وبين سلوكيات منحطة وضيعة من يمكن أن يصل الي مقام السلطة في دول تملك من تقنيات ووسائل الغلبة المادية, من مختلف أسلحة الدمار الشامل ما يعينه علي البطش بالخلق, وإفشاء الظلم, وتدمير الحياة علي سطح الأرض, وإفساد بيئاتها والقضاء علي مختلف صور الحياة فيها...!!! ولا يجد من دين أو خلق أو منطق أي رادع يمكن أن يرده عن ذلك...!!!
وأغلب وسائل الاعلام في العالم قد وقعت اليوم في أيدي اليهود, في مؤامرة خسيسة علي الانسانية ـ واليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا بصفة خاصة وللانسان غير اليهودي بصفة عامة ـ فوظفوا كافة تلك الوسائل الاعلامية في تدمير البقية الباقية من عقائد وأخلاقيات وسلوكيات المجتمعات الانسانية, وفي تشويه صورة الاسلام في أذهان الناس, وذلك لان مما يسوءهم أن يروا الاسلام ينتشر في مجتمعاتهم المريضة في الوقت الذي يتصورون فيه أنهم قد أحاطوا بالاسلام والمسلمين إحاطة كاملة. ويقبل علي الاسلام في الغرب والشرق قمم الفكر والعلم والرأي لأنهم يرون فيه المخرج الوحيد من الوحل النتن الذي غاصت فيه مجتمعاتهم والذي يعيشون فيه الي أذقانهم في غالبيتهم الساحقة, ووسيلتنا في تحسين صورة الاسلام في العالم هي حسن الدعوة اليه بالكلمة الطيبة, والحجة الواضحة, والمنطق السوي. وخير ما نقدمه في ذلك المضمار مما يتناسب مع طبيعة العصر ولغته هو الاعجاز العلمي للقرآن الكريم, لأننا نعيش في زمن أدار غالبية الناس ظهورهم فيه للدين, ولم تعد قضايا الغيب المطلق من بعث بعد الموت, وعرض أكبر أمام الله الخالق, وخلود في حياة قادمة: أما في الجنة أبدا, أو في النار أبدا
وغيرها من قضايا الدين لم تعد تحرك فيهم ساكنا, ولكنهم في نفس الوقت قد فتنوا بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة, فإذا أشرنا الي سبق للقرآن الكريم في الاشارة إلي عدد من حقائق الكون قبل أن يصل الانسان الي شيء منها بعشرات المئات من السنين, وهو الكتاب الذي أنزل علي نبي أمي( صلي الله عليه وسلم) في أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين, فإن ذلك سوف يحرك عقولهم وقلوبهم, وسوف يحضهم علي الاطلاع في كتاب الله الذي ما أطلع عليه عاقل الا ويشهد له أنه لا يمكن أن يكون كلام أحد غير الله الخالق( سبحانه وتعالي), وفي ذلك تحييد لحجم الكراهية الشديدة التي غرستها وسائل الاعلام الدولية للاسلام والمسلمين في قلوب الملايين, ودعوة مستنيرة الي دين الله وما أحوجنا للدعوة لهذا الدين الخاتم في زمن التحدي بالعولمة الذي نعيشه, والذي يتهدد كافة شعوب الأرض بالذوبان في بوتقة الحضارة المادية الجارفة...!!!
ولا يمكن أن يصدنا عن ذلك دعوي أن عددا من المفسرين السابقين الذين تعرضوا لتأويل بعض الآيات الكونية في كتاب قد تكلفوا في تحميل تلك الآيات من المعاني مالا تحتمله وذلك بسبب نقص في وفرة المعلومات العلمية أو جهل بها, وذلك لما سبق وأن أوضحناه بأن التفسير لأي القرآن الكريم هو محاولة بشرية لحسن فهم دلالة تلك الآيات إن أصاب فيها المرء فله أجران, وإن أخطأ فله أجر واحد, والمعول في ذلك النية, وأن الخطأ في التفسير لا ينال من جلال القرآن الكريم, ولكنه ينعكس علي المفسر, خاصة وأن الذين فسروا باللغة أصابوا وأخطأوا والذين فسروا بالتاريخ أصابوا وأخطأوا ـ ولم ينل ذلك من قدسية القرآن الكريم ومكانته في قلوب وعقول المؤمنين شيئا أما اليوم وقد توافر للانسان من المعرفة بحقائق الكون وسننه ما لم يتوافر لجيل من البشر من قبل, فإن توظيف ذلك الكم من المعلومات من أجل حسن فهم دلالة الآية القرآنية, وإثبات سبقها التاريخي لكافة البشر يعتبر ضرورة إسلامية لتثبيت إيمان المؤمنين, ولدعوة الضالين من الكفار والمشركين والذي سوف يسألنا ربنا( تبارك وتعالي) عن تبليغهم بهذا الدين, ودعوتهم اليه بالحكمة والموعظة الحسنة.
والأخطاء التي وقع فيها عدد من المفسرين الذين تعرضوا للآيات الكونية في كتاب الله, أو تكلفهم في تحميل الآيات من المعاني ما لا تحمله, في تعسف واضح, وتكلف جلي, يحملونه هم, ولا تتحمله آيات الكتاب المبين, لأن التأويل يبقي جهدا بشريا منسوبا لمؤوله, بكل ما للبشر من نقص وبعد عن الكمال, وإذا كان عدد منهم قد جاوز الصواب في تأويله, فإن أعدادا أوفر قد وفقت في ذلك أيما توفيق.
ولم تكن أخطاء المفسرين محصورة في محاولات تأويل الاشارات الكونية فقط, فهنالك عدد من كتب التفسير التي تمتليء بالاسرائيليات الموضوعة, والعصبيات المذهبية الضيقة, وغير ذلك مما لا يقبله العقل القويم, والصحيح المنقول عن رسول الله صلي الله عليه وسلم وعن أصحابه المكرمين والتابعين, ولا يرتضيه المنطق اللغوي السليم. فالمعتزلة علي سبيل المثال ـ لا الحصر قد حاولوا في تفاسيرهم اخضاع الآيات لمبادئهم في العدل والتوحيد وحرية الارادة والوعد والوعيد وإنكار الرؤية وغيرها, وتعسفوا في ذلك أيما تعسف.
والشيعة ـ علي اختلاف فرقهم ـ قد دفعتهم المغالاة في حب آل البيت الي التطرف في تأويل الآيات القرآنية تأويلا لا يحتمله ظاهر الآيات. ولا السياق القرآني. ولا القرائن المنطقية المختلفة.
وكذلك المتصوفة والاشاريون ـ فهم علي الرغم من تسليمهم بالمأثور من التفسير, وقبولهم للمعني الذي يدل عليه اللفظ العربي ـ يسمحون لأنفسهم باستنباط معان للآيات تخطر في أذهانهم عند التلاوة وان لم تدل عليها الآيات القرآنية الكريمة بطريق من طرق الدلالات المعروفة في الاستعمال العربي للغة وطرائق التعبير فيها.
أما المنحرفون من أتباع الفرق الباطنية وافرازاتها القديمة والحديثة( كالقرامطة والبابية, والبهائية, والعلوية النصيرية, والقاديانية الأحمدية, والاسماعيلية, والدرزية وغيرها) فتمتليء تفاسيرهم بالانحرافات التي تنطق بالتعسف والافتعال, ومحاولات تطويع القرآن لمبادئهم المضللة في تكلف ملحوظ.
فهل معني ذلك أن يتوقف علم التفسير عند حدود جهود السابقين من المفسرين؟ويتوقف فهم الناس لكتاب الله الذي أنزل إليهم ليتدبروا آياته, ويعيشوا في معانيه, ويتخذوا منها دستورا كاملا لحياتهم عند جهود قدامي المفسرين علي فضلهم, وفضل ما قدموه لخدمة فهم القرآن الكريم في حدود المعرفة المتاحة في أزمنتهم؟ بالقطع لا, علي الرغم من التسليم بأن هذه الانحرافات وأمثالها كانت من وراء الدعوة إلي الوقوف بالتفسير عند حدود المأثور, فكتب التفسير علي تباينها تحوي تراثا فكريا وتاريخيا لهذه الأمة لايمكن التضحية به, حتي ولو كانت به بعض الأخطاء أو التجاوزات, الا اذا كان القصد الواضح هو التحريف, وهو أمر لايصعب علي عاقل إدراكه.
من كل ما سبق يتضح لنا أن حجج المضيقين في رفض تفسير الاشارات الكونية في كتاب الله علي ضوء ما تجمع اليوم لدي الانسان من معارف بالكون وعلومه هي كلها حجج مردودة, فالكون صنعة الله, والقرآن هو كلام خالق الكون وواضع نواميسه, ولا يمكن أن يتعارض كلام الله الخالق مع الحقائق التي قد أودعها في خلقه, اذا اتبع الناظر في كليهما المنهج السليم, والمسلك الموضوعي الأمين, فمن صفات الآيات الكونية في كتاب الله أنها صيغت صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني في كل أية من تلك الآيات الدالة علي شيء من أشياء الكون أو ظواهره أو نشأته أو إفنائه وإعادة خلقه, وتظل تلك المعاني تتسع باتساع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لايعرف التضاد, وهذا عندي من أعظم جوانب الإعجاز في كتاب الله, ومن هنا كانت ضرورة استمرارية النظر في تفسير تلك الآيات الكونية, وضرورة مراجعة تراجمها إلي اللغات الأخري بطريقة دورية.
أما آيات العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات فقد صيغت صياغة محكمة يفهم دلالتها كل مستمع إليها مهما قلت ثقافته أو زادت, لأن تلك الآيات تمثل ركائز الدين الذي هو صلب رسالة القرآن الكريم.
وكذلك الآيات المتعلقة بصفات الله, وبالآخرة وبالملائكة والجن وغير ذلك من الأمور الغيبية غيبة مطلقة فلا يملك المسلم إلا الايمان بها, والتسليم في فهمها لنص القرآن الكريم أو للمأثور من تفسير المصطفي( صلي الله عليه وسلم) لأن الإنسان لايمكن له أن يصل إلي عالم الغيب المطلق إلا ببيان من الله الخالق, وذلك لأن قدرات عقل الإنسان المحدودة, وحواسه المحدودة لايمكن لهما اجتياز حدود عوالم الغيوب المطلقة مهما أوتي الإنسان من أسباب الذكاء والفطنة, ومن هنا كان امتداح القرآن الكريم للذين يؤمنون بالغيب...!!!
موقف الموسعين: في التفسير العلمي
ويري أصحاب هذا الموقف ان الاشارات الكونية في القرآن الكريم قد قصدت لذاتها أي لدلالاتها العلمية المحددة, مع التسليم بوجوب استخلاص الحكمة والعبرة منها, والوصول الي الهداية عن طريقها, وانطلاقا من ذلك فقد قام اصحاب هذا الموقف بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله, وتصنيفها حسب مختلف التصانيف المعروفة في مختلف مجالات العلوم البحتة والتطبيقية, ثم اندفعوا في حماسهم لهذا الاتجاه الي المناداة بأن القرآن الكريم يشتمل علي جميع العلوم والمعارف.
ولابد لحسن فهم تلك الاشارات الكونية في كتاب الله ـ من تفسيرها علي ضوء اصطلاحات تلك العلوم والمعارف, ثم زاد البعض بمحاولة اثبات ان جميع حقائق العلوم البحتة والتطبيقية التي استخلصها الانسان بالنظر في جنبات هذا الكون هي موجودة في القرآن الكريم استنادا الي قوله تعالي:
(.. ما فرطنا في الكتاب من شيء...)
(الأنعام: آية38)
وقوله...
( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء..)
(النحل: آية89)
وهذا في رأينا موقف مبالغ فيه لان السياق القرآني في الايتين السابقتين لايتمشي مع ما وصلوا اليه من استنتاج, لأنهما يركزان علي رسالة القرآن الأساسية وهي الدين بركائزه الأربع الأساسية: العقيدة, والعبادة, والأخلاق والمعاملات, وهي القضايا التي لا يمكن للإنسان أن يضع فيها لنفسه ضوابط صحيحة. وهي التي استوفاها القرآن استيفاء لايقبل إضافة, أما قصص الأمم السابقة والاشارات إلي الكون ومكوناته فقد جاء القرآن الكريم بنماذج منها تشهد لله الخالق بطلاقة القدرة علي الخلق وإفنائه وإعادته من جديد. وربما كان هذا الموقف وأمثاله من الاسباب الرئيسية التي أدت الي تحفظ المتحفظين من الخوض في تفسير الايات الكونية الواردة في كتاب الله علي اساس من معطيات العلوم البحتة والتطبيقية, أو التعرض لإظهار جوانب الإعجاز العلمي فيها.
موقف المعتدلين في التفسير العلمي
ويري أصحاب هذا الموقف أنه مع التسليم بأن القرآن الكريم هو في الاصل كتاب هداية ربانية, أساسها الدعوة إلي العقيدة الصحيحة والأمر بالعبادات المفروضة والحث علي الالتزام بمكارم الأخلاق وعلي التعامل بالعدل, أي أنه دستور كامل للحياة في طاعة خالق الكون والحياة.
ومع التسليم كذلك بأن الاشارات الكونية الواردة في كتاب الله قد جاءت في معرض التذكير بقدرته المطلقة, وبديع صنعه في خلقه, وشمول علمه, وكمال صفاته وأفعاله, الا انها تبقي بيانا من الله, خالق الكون ومبدع الوجود, ومن اعلم بالكون من خالقه...؟
من هنا كانت تلك الاشارات الكونية كلها حق, وكانت كلها منسجمة مع قوانين الله وسننه في الكون, وثابتة في دلالاتها ـ مهما اتسعت دائرة المعرفة الانسانية ـ فلا تعارض ولا تناقض ولا اضطراب وصدق الله العظيم القائل:
(ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)( النساء:82).
ومن هنا أيضا كان واجب علماء المسلمين في مدارسة تلك الآيات الكونية مستفيدين بكل أنواع المعارف المتاحة في تفسيرها وإظهار جوانب الإعجاز بها, في حجة واضحة ومنطق سوي وذلك تأكيدا لإيمان المؤمنين, ودحضا لافتراءات المفترين, وتثبيتا للحقيقة الراسخة أن القرآن كلام الله العزيز الرحمن الرحيم.
ومن هنا كذلك كان التسليم بأن تلك الإشارات الكونية لم ترد في القرآن الكريم بهدف التبليغ بالحقيقة العلمية, لأن الحكمة الإلهية قد تركت مجالا مفتوحا لاجتهاد المجتهدين, يتنافس فيه المتنافسون, ويتباري المتبارون, أمة بعد أمة, وجيلا بعد جيل, إلي أن يرث الله تعالي الأرض ومن عليها, فلولا أن الإرادة الالهية قد ارتضت بسط الكون بكل حقائقه كاملة أمام الإنسان, لانتفت الغاية من الحياة الدنيا, وهي دار ابتلاء واختبار, ولاختفي ذلك الغيب الذي يشد الانسان اليه, ويشحذ جميع حواسه وكل قواه العقلية والفكرية, ولتبلدت تلك الحواس والقدرات ولمضت حياة الانسان علي الأرض رتيبة كئيبة بائسة, جيلا بعد جيل, وعصرا بعد عصر, بغير تجديد أو تنويع أو إبداع, وسط عالم يتميز بالتغير في كل أمر من أموره, وفي كل لحظة من لحظات وجوده, هذا فضلا عن أن العقل البشري عاجز عن تقبل الحقائق الكونية الكلية دفعة واحدة, وأنه يحتاج في فهمها إلي شئ من التدرج في الكشف, وفي استخراج الأدلة, وفي إثباتها وتكامل معطياتها علي مدي أجيال متعاقبة.
ويستدل أصحاب هذا الموقف بالحشد الهائل من الإشارات الكونية في كتاب الله, وبمطالبة القرآن الكريم للانسان دوما بتحصيل المعرفة النافعة علي إطلاقها, وهذه أولي آيات القرآن العظيم تأمر بذلك وتحدد وسائله, وتحض علي التأمل في الخلق, بل وتشير إلي حقيقة علمية لم تكتشف إلا بعد ذلك بقرون طويلة ألا وهي... خلق الانسان من علق... وهي حقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا بعد اكتشاف حقيقة المجاهر المكبرة, وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالي:
(اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم).( العلق:1 ـ5)
ويستدل أصحاب هذا الموقف المعتدل علي ذلك بما يقرره القرآن من مسئولية الانسان عن حواسه وعقله, وما يفرضه من حسن استخداماتها في التعرف علي الكون, واكتساب المعارف النافعة منه, وتخديمها في حسن فهم كتاب الله, حيث يقرر الحق( تبارك وتعالي) ذلك بقوله في محكم كتابه:
(إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا..)( الإسراء:36).
كما يستدلون برفض القرآن للتقليد والجمود علي الآراء الموروثة الخاطئة, والحكم بالظن والهوي, ومطالبته الانسان دوما بتأسيس الاحكام علي الدليل العقلي الذي لا يقبل النقض, وهذه كلها من أخص خصائص المنهج التجريبي في دراسة الكون وما فيه, كذلك يستشهدون بتكريم القرآن الكريم للعلم والعلماء ـ بمن فيهم من علماء الكونيات ـ في العديد من آي الذكر الحكيم نختار منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)
( الزمر:9)
وقوله( عز من قائل):
(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)( المجادلة:11)
وقوله( سبحانه وتعالي):
(شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم)( آل عمران:18)
وقوله:
(انما يخشي الله من عباده العلماء)( فاطر:28).
والآية الأخيرة قد وردت بعد استعراض لكثير من المشاهد الكونية, مما يؤكد أن الآية تشمل علماء الكونيات, ان لم يكونوا هم المقصودين بها مباشرة, فالآية تنطق:
(ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها, وغرابيب سود, ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك انما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور)( فاطر:28,27).
كذلك يستشهد أصحاب هذا الموقف المعتدل بمطالبة القرآن الكريم للانسان في ـ تشديد واضح ـ بالنظر في كل ما خلق الله, وهذه أوامره صريحة جلية نختار منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(قل انظروا ماذا في السموات والأرض)( يونس:101)
( أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شئ)( الأعراف:185)
( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)( العنكبوت:20)
( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون)( الذاريات:21,20)
( أفلا ينظرون إلي الابل كيف خلقت, وإلي السماء, كيف رفعت, وإلي الجبال كيف نصبت, وإلي الأرض كيف سطحت)( الغاشية17 ـ20).
وينتصر أصحاب هذا الموقف المعتدل لموقفهم بما ينعاه القرآن علي الغافلين في التفكير في آيات السماوات والأرض في كثير من آياته التي منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(وكأي من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)( يوسف:105)
ووصفه لهؤلاء الغافلين بأنهم كالأنعام بل هم أضل, وتقديره بأن جزاءهم جهنم عقابا لهم علي اهمالهم نعم الله التي أنعم بها عليهم, وذلك في مثل قول الله( تعالي):
(ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس, لهم قلوب لا يفقهون بها, ولهم أعين لا يبصرون بها, ولهم اذان لا يسمعون بها, أولئك كالانعام بل هم أضل, أولئك هم الغافلون)( الأعراف:129).
ويستشهدون علي ضرورة توظيف المعارف العلمية المتاحة لفهم دلالة الآيات الكونية في كتاب الله بربط القرآن دوما بين الايمان بالله والنظر فيما خلق الله, من مثل قوله( تعالي):
(ان في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة, وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون)( البقرة:164)
وقوله( عز من قائل):
(إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب, الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار)
(آل عمران:191,190).
وقوله( سبحانه وتعالي):
(وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)( الأنعام:75).
وقوله:
(لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون)( غافر:57)
ويستشهد المنادون بضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية في كتاب الله بالإشارة إلي أن القرآن الكريم ـ في استعراضه لامور الكون ـ يتناول كليات الأشياء, تاركا التفاصيل لاجتهاد الانسان, ولكنه في نفس الوقت ينبه باستمرار الي جوانب مهمة في أشياء مثل الكم والكيف وهما من أسس العلوم التجريبية, الكم الذي يتعلق بالحجم والكتلة وبالزمان والمكان, وبدرجات النمو والاندثار وغيرها يتمثل في كثير من الآيات القرآنية التي نختار منها قول الحق( تبارك وتعالي):
(وكل شئ عنده بمقدار)( الرعد:5)
وقوله( سبحانه):
(قد جعل الله لكل شئ قدرا)( الطلاق:3)
وقوله( عز من قائل):
(إنا كل شئ خلقناه بقدر)( القمر:49)
وقوله( تعالي):
(وخلق كل شئ فقدره تقديرا)( الفرقان:2)
وقوله( سبحانه وتعالي):
(وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض..)( المؤمنون:18).
وبخصوص الكيف بمعني هيئة الاشياء وتركيبها ومسبباتها, ومجري الظواهر الكونية وحدوثها والسنن الالهية وجريانها, فان القرآن يشدد التنبيه عليها في مواضع كثيرة منها قول الله( تعالي):
(فانظر إلي آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها)( الروم:50)
وقوله( سبحانه):
( ألم تر الي ربك كيف مد الظل, ولو شاء لجعله ساكنا, ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا)( الفرقان:46,45).
وقوله عز من قائل:
(أفلم ينظروا إلي السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج..)( ق:6)
وقوله( تعالي):
( أفلا ينظرون إلي الإبل كيف خلقت وإلي السماء كيف رفعت وإلي الجبال كيف نصبت وإلي الأرض كيف سطحت)( الغاشية:17 ـ20)
ويستشهد أصحاب هذا الموقف المعتدل كذلك علي ضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية بتأكيد القرآن الكريم علي أن لكل شيء في هذا الكون فطرته السوية التي فطره الله عليها, والتي تخصه وتميزه, وهي قاعدة أساسية من قواعد المنهج العلمي التجريبي في الكشف عن حقائق هذا الكون ومكوناته وسنن الله فيه, ونقرأ في ذلك قول الحق( تبارك وتعالي):
ربنا الذي أعطي كل شيء خلقه ثم هدي..( طه:50)
وقوله( سبحانه)
( الذي خلق فسوي والذي قدر فهدي)( الأعلي:3,2)
وأن هذه الفطرة ثابتة, لا تتغير ولا تتبدل لقول الحق( تبارك وتعالي):
(... لا تبديل لخلق الله)( الروم: آية30)
وأنها خاضعة لقوانين مطردة, لا تتخلف ولا تتوقف إلا بإذن الله, وأنه لولا ثبات تلك الفطرة وأطراد القوانين التي تحكمها ماتمكن الإنسان من اكتشاف أي من أمور هذا الكون, وأن القرآن يصر علي تسمية تلك القوانين بالحق, وعلي أن الكون ومافيه خلق بالحق, ويطالب الإنسان بالتعرف علي ذلك الحق والتزامه, فالتنزيل ينطق بقول الله( تعالي):
( ماخلقنا السموات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي)( الاحقاف: آية3)
وقوله( سبحانه):
( أو لم يتفكروا في أنفسهم ماخلق الله السموات والأرض ومابينهما إلا بالحق وأجل مسمي وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون).( الروم:
وقوله( عز من قائل):
( خلق السموات والأرض بالحق, يكور الليل علي النهار, ويكور النهار علي الليل, وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ألا هو العزيز الغفار)( الزمر: آية5)
وقوله( تعالي):
( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب, ماخلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون)( يونس: آية5)
وقوله( سبحانه):
( وماخلقنا السموات والأرض ومابينهما لاعبين ماخلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون)
(الدخان: الآيتان39,38)
كذلك فإن الذين يرون ضرورة توظيف المعارف العلمية في تفسير الآيات الكونية الواردة في كتاب الله, وفي الاستشهاد علي الإعجاز العلمي لتلك الآيات ينتصرون لذلك بأن أكثر من أربعين سورة من سور القرأن الكريم البالغ عددها114 سورة تحمل أسماء لبعض أشياء الكون وظواهره, ويستشهدون بعرض القرأن للعديد من القضايا التي هي صميم العلوم التجريبية من مثل خلق السماوات والأرض, واختلاف الليل والنهار, وإتساع الكون, ورتق السماوات والأرض وفتقهما, وبدء السماء بدخان, وخلق الحياة من الماء وفي الماء واستعراض مراحل الجنين في الإنسان وغير ذلك كثير مما لا يوفيه في هذا المقام حصر ولكن تكفي الإشارة إلي آيات قليلة منها من مثل قول الحق تبارك وتعالي:
( أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون)( الأنبياء:30)
وقوله( عز من قائل):
( ثم استوي إلي السماء وهي دخان, فقال لها وللأرض أئتيا طوعا أو كرها, قالتا أتينا طائعين)( فصلت:11)
وآيات الكتاب الحكيم في كل ماعرضت له من أمور الكون تتميز بمنتهي الدقة في التعبير, والشمول في المعني والدلالة, وبالسبق الاخباري بحقائق لم يتيسر للإنسان المام بها إلا في العقود المتأخرة من القرن العشرين. وهذا بالقطع يشكل صورة من صور الأعجاز لم تتوافر لجيل من الأجيال من قبل. وسأفصل الحديث في الإعجاز العلمي للإشارات الكونية في كتاب الله في المقالات القادمة إن شاء الله( تعالي).
وخلاصة القول أن القرآن الكريم يزخر بالعديد من الآيات التي تشير إلي الكون ومابه من كائنات( أحياء وجمادات) وإلي صور من نشأتها ومراحل تكوينها, وإلي العديد من الظواهر الكونية التي تصاحبها, وقد أحصي الدارسون من مثل هذه الآيات حوالي الألف آية صريحة, بالاضافة الي آيات آخري عديدة تقرب دلالاتها من الصراحة. مما يبلغ بالآيات الكونية الي سدس آيات القرأن الكريم تقريبا. ويقف المفسرون من هذه الآيات الكونية مواقف متعددة, فمنهم المضيقون والموسعون والمعتدلون, فالمضيقون يرون أن تلك الاشارات لم ترد في القرأن لذاتها, وإنما وردت من قبيل الاستدلال علي قدرة الله تعالي, وإبداعه في خلقه, وقدرته علي إفناء الخلق وإعادته من جديد, ومن ثم فلا يجوز تفسيرها في ضوء من معطيات العلوم الحديثة وذلك بدعوي انطلاق الكتابات العلمية من منطلقات مادية, منكرة لكل ماهو فوق المدرك المحسوس.
أما الموسعون فيرون أن القرأن الكريم يشتمل علي جميع العلوم والمعارف, ولابد لحسن فهم ذلك من تفسيره علي ضوء ماتجمع لدي الإنسان من رصيد علمي خاصة في مجال العلوم البحتة والتطبيقية, ومن ثمن فقد قاموا بتبويب آيات الكونيات في كتاب الله وتصنيفها حسب التصانيف المعروفة في مختلف مجالات تلك; العلوم, وقد تميز ذلك بشيء من التكلف الذي أدي الي رفض المنهج والوقوف في وجهه.
أما المعتدلون فيرون أنه مع التسليم بأن الاشارات الكونية في القرآن الكريم قد وردت في معرض التذكير بقدرة الله, وبديع صنعه, فانها تبقي بيانا من الله, خالق الكون ومبدع الوجود, ومن ثم فهي كلها حق مطلق. ولا غرابة إذن من إنسجامها مع قوانين الله وسننه في الكون, ومع معطيات العلوم الحديثة عن حقائق هذا الكون, كذلك فأنهم يرون أنه مع التسليم بأن تلك الاشارات لم ترد في القرأن الكريم بهدف التبليغ بالحقيقة العلمية, لأن الحكمة الإلهية قد اقتضت ترك ذلك لاجتهاد الإنسان علي مر الزمن, إلا أنها تتميز بالدقة المتناهية في التعبير, والثبات في الدلالة, والشمول في المعني بحيث يدرك فيه كل جيل مايتناسب ومستوياتهم الفكرية, وماوصلوا إليه من علوم عن الكون ومافيه, ثم ان تلك الدلالات تتميز كلها بالسبق الي الحقيقة الكونية قبل ان تدرك الكشوف العلمية شيئا منها بقرون طويلة, وهذا في حد ذاته يمثل الإعجاز العلمي للقرأن الكريم الذي هو أحد أوجه الإعجاز العديدة في كتاب الله, ولكنه يبقي من أنسبها لعصر التقدم العلمي والتقني الذي نعيشه لتثبيت إيمان المؤمنين, ودعوة الجاحدين من مختلف صور المشركين والكافرين والضالين, في زمن تحول فيه العالم الي قرية كبيرة, مايحدث في أحد أركانها يتردد صداه في بقية أرجائها, ولا يأمن أهل الحق أن يصيبهم ماأصاب الأمم الضالة من عقاب, أو أن يجرفهم تيار الحضارة المادية فيذيبهم في بوتقتها فيخسرون بذلك الدنيا والآخرة, وطوق النجاة في الجالتين الاعتزاز بالاسلام العظيم, والتمسك بالقرأن الكريم الذي يتجلي إعجازه العلمي في عصر العلم الذي نعيشه.